البيان الأدبي
[الغريب المغترب!]
عبد الخالق القحطاني
- أمي! حبيبتي!
... أطلقها بأعلى صوته، وإذا به يجد نفسه محاطاً بالسَّواد من كل جانب..
ما هذا؟ !
... تمتم في نفسه وهو يحاول أن يتلمّس طريقه في الظلام.. تقع يده على
مفتاح الإنارة، يُديرُه، ثم يعود فينطرح على فراشه ...
- آهِ! !
... زفرة يخرجها من أعماق نفسه، ثم يطلق العنان لخياله، يسرح هناك..
بعيداً، بعيداً جداً، إلى ما وراء البحار! !
- لقد كان حلماً إذن! لقد كُنْتُ أُقبِّل رأسها قبل لحظات وكانت تبكي ... أمي
الحبيبة كانت تبكي!
... دمعتان كبيرتان تتحدَّران على خديه..
دمعةٌ استطاعت أن تجد طريقها إلى وجنته إلى أن أوقَفَها الحيِّز الذي بين
شفتيه، والأخرى سقطت على الوسادة التي كان مسنداً إليها رأسه ... يحرِّك لسانه
فيُلامِس بقايا الدمعة على شفتيه..
- كم هي مالحةٌ هذه الدموع! !
... شهورٌ عدَّة مضت منذ أن وضع عبد الله أول قدم له في هذه البلاد..
وعبد الله شابٌّ في مقتبل العمر، جميل القسمات، وضّاء المحيَّا.. جاء إلى هذه
البلاد لإتمام دراسته الجامعية، كعادة كثير من الطلاب الذين يَفِدُون كل عام إلى هذا
البلد من موطنه في جزيرة العرب..
وبخلاف كثير من الشباب، كان عبد الله على حداثة سنّه قد تربى تربية
إسلامية متينة، ونشأ منذ نعومة أظفاره مع شباب لا تربطه بهم سوى الأخوة
الصادقة في الله تعالى.
لا يزال عبد الله يتذكَّر كم كان وداع إخوانه له حاراً ... لقد رتبوا له حفل
عشاء كبير على شاطئ البحر تعبيراً له منهم عن مدى حبهم ...
وما زال يتذكر كلمات أستاذه ومربيه له وهو جالسٌ إلى جانبه في سيارته؛ إذ
يقول له عبد الله:
- هل توصينا بشيء؟ !
الأستاذ: نعم! أوصيك بتقوى الله حيثما كنت.
... ولا ينسى كذلك كلمات أخيه في الله؛ إذ يقول له: (عليك بغض البصر) .
- غض البصر! ! ! وكأنما استفاق عبد الله من نومةٍ أخرى! !
- بالله! لقد نسيت معنى غض البصر! !
لقد كنت أرى المرأة بعباءتها فأغض بصري، والآن ... وما الآن؟ !
الآن أرى اللحم الغليظ فلا أغض طرفي!
أفخاذٌ مكشوفة، صدورٌ بارزة، نحورٌ بادية، رؤوس حاسرة ... لحمٌ، لحم!
... شعورٌ بالمرارة يعتصر قلب عبد الله، إنه يشعر بأنه فقد شيئاً ثميناً..
فقد الإحساس بجرم النظر إلى الأجنبيات السافرات كما لم يكن يفعل من قبل، لقد
أَلِفَ هذا الأمر، ولكن، ماذا عساه أن يفعل؟
المرأة هنا تعمل في كل مجال؛ فهي سائق الباص وساعي البريد
و ... و ... والدكتورة في الجامعة والمديرة في الشركة، ولا يسلم من الاحتكاك بها
في أي مكان كان ...
لكنه يشعر بالذنب؛ لأنه أَلِفَ تلك العادة ولم يعد يتمعَّر وجهه لمنظر ذلك اللحم،
إنه يحسُّ إحساساً شبيهاً بإحساس الفتاة العذراء التي فقدت بكارتها دونما سبب
وجيه!
إذن، هو الآن يصارع من أجل الحفاظ على سلامة الخط الأخير الذي وصاه
به أستاذه ... تقوى الله ...
ولأجل ذلك أخذ يوثق صلاته بمن يعرف من المسلمين القليلين في هذا البلد
الغربي الكافر، وكوّن معهم جماعة يتواصون على أداء الصلاة في وقتها ويتناقشون
همومهم معاً وما استجدَّ من أمور ...
وفي الوقت نفسه يرى الكثير من الشباب ممن جاؤوا من موطنه يتساقطون في
وحل الشهوات، ويذوبون في حمأة الرذيلة التي تعد ممارستها في هذا البلد أسهل
من شرب الماء.
وتأتيه الأخبار كلّ يوم ...
- ألم تسمع عن فلان؟ لقد كان في البار بالأمس! هل تصدق؟ !
- هل علمت أن فلاناً قد اتخذ عشيقة؟ ؟
- ... وفلان لم نعد نراه يصلي معنا. الله المستعان!
أخبارٌ وحوادث تؤلم قلبه عن شباب أتوا من بلادهم ببقايا إيمان فدفنوها في
هذه الأرض.
ويزداد عبد الله حسرة إلى حسرته ... فالمسكين بشرٌ على أية حال يؤثر فيه
ما يؤثر في البشر، ويحرك نفسه الذي يحرّك نفوسهم ...
لقد فرّقت الغربة بينه وبين أهله وإخوانه ... صورة أمِّه وهي جالسةٌ واجمة
على الكرسي العريض في صالة الجلوس بالمنزل، تنظر إليه بعد أن قبَّلها قبلة
الوداع على رأسها وتتبعه ببصرها وهو يحث الخطى مبتعداً عنها للَّحاق بالطائرة،
لا تزال مخيمة على رأسه..
- يا ليت الطائرة طارت ولم أُدْرِكْهَا ... ! يتمتم..
والداه يتصلان به أسبوعياً.
لا تزال كلمات أمه في اتصال أخير به ترنُّ في أذنه..
أم عبد الله: عبد الله حبيبي! لقد صار يوسف يمشي، هل تصدِّق؟ ! بل
يتكلّم!
يوسف! يوسف! تعال كلِّم ... أخوك على السماعة!
... يوسف هو الأخ الأصغر لعبد الله، لقد تركه وهو لا يزال رضيعاً، والآن هو
يمشي ويتكلم! !
يسترجع عبد الله بعض ما دار بينه وبين زميلٍ له اسمه سيف كان قد تعرَّف
عليه في بلد الغربة، وكان سيف قد ذهب لزيارة أهله في موطنه المجاور لموطن
عبد الله، ولما عاد اتصل به ...
سيف: عبد الله! كيف حالك؟
عبد الله: بخير، كيف حالك أنت؟ وكيف الأهل؟
سيف: والله بخير ولله الحمد..
عبد الله: وكيف كان استقبال أهلك لك؟
سيف: حافلاً! ولكن لا أخفيك سراً، لقد شعرت بأني ضيف عليهم!
عبد الله: ماذا تقول؟ ؟ ضيف؟ ! !
سيف: أجل، لم يعودوا يعاملونني كالسابق، الكل يريد خدمتي والحفاظ على
راحتي.. لا تحمل هذا إنه ثقيل، نحن سنحمله عنك! وسريرك، لا ترتبه، أختك
ستقوم بالمهمّة! ! ماذا تحب أن تأكل على الغداء؟ ! ! وهكذا، مما جعلني مُحرجاً
معهم!
عبد الله (في نفسه) : محرجاً معهم؟ ! ضيف؟ سخف! ! أنا لا أريد أن
أكون ضيفاً على أهلي ولا على إخواني! بل أريد أن أكون ابناً لأهلي وأخاً
لإخواني! ! يعاملونني كما كنّا من قبل، معاملة غير منقحة ولا مزيدة!
ثم لماذا نتكلف الأمور؟ ! كل ما في الأمر أنّي ذهبت وغبت ساعة ثم رجعت!
أجل، هذا كل شيء! ! يكفُّ عن التفكير هنيهة، غير أنه يعود فيسأل نفسه:
أهكذا تفعل الغربة بالناس؟
لا والله، لا يكون هذا معي أبداً! سوف أحجز بالطائرة إلى بلدي الساعة! !
أجل، الساعة! ! !
... يتحفّز عبد الله للوثوب إلى الهاتف، ولكنه ينظر إلى ساعة الحائط وإذا
هي الرابعة قبل الفجر! !
لقد نسي أنه استيقظ أثناء نومه، وذهبت به الذكريات كل مذهب..
- الرابعة؟ !
تحين منه التفاتة إلى جدول مواقيت الصلاة المعلق على الجدار، ينظر فيه،
وإذا بينه وبين صلاة الفجر ساعة كاملة.
- يجب أن أنام ... اختبار الغد صعب، ويجب أن آخذ كفايتي من النوم.
... وقبل أن يضع رأسه على الوسادة، تذكر شيئاً! شيئاً نسيه منذ زمن..
تذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن نزول الرب عز وجل في الثلث
الأخير من الليل، وأنه لا يسأله عبدٌ مسألة من خير الدنيا أو الآخرة إلا أعطاه ما
سأل!
- يا إلهي! منذ متى لم أقم لله عز وجل؟
منذ متى لم أطرق باب أرحم الراحمين؟ ؟
كم أشتكي إلى العبيد وأنسى رب العباد! !
أليس الله عز وجل هو خالقي ورازقي ومصرّف شأني؟ ؟
أليس هو القادر على أن يرفع عني هذا البلاء والهم والغم؟ ؟
بلى! هو وحده الذي يعطي بغير حساب! وهو وحده الذي لا يضيع عنده
السؤال ولا الطلب..
أجل، هو الذي يجب أن أشتكي إليه؛ فهو الذي يقضي والذين من دونه لا
يقضون بشيء.
.... ينهض عبد الله، يتوجه إلى دورة المياه.. يتوضأ وبعد ذلك يلقي
سجادته ... يستقبل القبلة ثم يكبر ...
- الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحي.... . الرحمن الرَّ.... الرَّحمن ...
حاول إتمام السورة.. لكنه لم يستطع، الدمع يجري من مقلتيه بلا عدد!
والآية توقفت في منتصف حلقه! سالت الدموع على خديه، ومن ثم إلى شفتيه،
أمرَّ لسانه على شفتيه، وإذا بطعم الدموع هذه المرة يختلف عن المرات السابقة! !
لم تكن مالحة هذه المرة..
- إنَّ.... .، إنها.... إنها حلوة الطعم! !