[فلسطين بين ثوابتنا وثوابتهم]
د. عبد العزيز كامل
الحديث عن (الثوابت) في قضية فلسطين، يمارسه كل الناس: أنصار الشعب الفلسطيني وأعداؤه، الصادقون في النصح وأدعياؤه، الراغبون في الحل والراغبون عنه والزاهدون فيه. كل هذا قد يكون طبيعياً باعتبار اختلاف وجهات النظر ومكونات الفكر والمصالح، أما ما ليس طبيعياً، فهو أن يُراد سَوْق الجميع سَوْقاً، طوعاً أو كرهاً إلى السير وفق منهج من «الثوابت» الإسرائيلية، المسنود بمصالح ورؤى غربية يُطلق على مجموعها: (الشرعية الدولية) !
والأعجب من ذلك أن ينتدب إلى الدفع في هذا الاتجاه أقوام من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا في داخل الأرض المقدسة وخارجها، لتكون السيادة في النهاية لتلك «الشرعية الدولية» الغربية الصهيونية ـ على (الشرعية الإسلامية) التي هي أساس الأسس ومنطلق الحلول الحقة العادلة في هذه القضية؛ فالإصرار يزداد على استبعاد الثوابت الإسلامية عنها كلما ازداد اتضاح الحق من جانبنا، وانفضاح الباطل من جانب أعدائنا.
لقد كانت قضية فلسطين، ولا تزال وستظل «قضيةً شرعية» بالمعنى الإسلامي؛ بمعنى أنها نازلة تحتاج دائماً لنظر وعلاج شرعي من قِبَل المسلمين، باعتبار أن العوامل والمسائل التي تحيط بها؛ أكثرها ذات طبيعة دينية، إما من ناحية العرب والمسلمين، أو من ناحية أعدائهم من صهاينة اليهود والنصارى المعتدين. فحقيقة الصراع على أرض فلسطين تحكي قصة المغالبة والنزال بين مقتضيات الحق الإسلامي عقيدة وشريعة، وبين أهداف وغايات أعدائه، القائمة على الباطل ديناً ودنيا. ولهذا فلا بد أن يكون البُعد الشرعي حاضراً ـ وبقوة ـ في كل جولات تلك المغالبة، مع من يمثلون الأبعاد الدينية الكتابية، يهودية كانت أو نصرانية. فلا يصلح أن يظل هؤلاء الأعداء متشبثين وحدهم بمفردات الخطاب العقائدي؛ بينما نظل نحن متراجعين ومطالبين بمزيد من التراجع تحت دعوى المطالبة بـ (تجديد الخطاب الديني) في لهجتنا الإسلامية أو تحديث حديثنا باتجاه «العقلانية» و «الواقعية» الاستسلامية.
إن المفردات الدينية عند أتباع الديانتين اليهودية والنصرانية؛ لا تزال تُصنَّع من مجموعها كل حين (ثوابت) يهتدي بها الساسة، وتوجه في مساربها مسارات السياسة، ولقد كانت ـ وستظل ـ الظِل المخيم في خلفية الأفكار والخطوات والمخططات التي تنطلق منها مشاريعهم فيما يتعلق بقضية فلسطين على وجه الخصوص، وقضية الشرق الأوسط ـ القديم أو الجديد ـ على وجه العموم. ولعل أحداث السنوات الأخيرة من الألفية الثانية، والسنوات الأولى من الألفية الثالثة تثبت أن تلك (الثوابت) لا تزال تعشش في أدمغة الفريقين، حتى وإن سترتها ظاهرياً القبعات أو الخوذات؛ فالاعتقاد بأحقية اليهود والنصارى الدينية في أرض فلسطين، وملكيتهم لما يسمونه بـ (جبل الهيكل) المقام عليه المسجد الأقصى، بل ووراثة هؤلاء للأرض الممتدة من النيل إلى الفرات كبداية للحرب ضد (محور الشر) وأوهام الاختيار الإلهي لهم كمحور للخير، ونحو ذلك؛ كلها تمثل ثوابت إجمالية نظرية عندهم، تتفرع عنها ثوابت تفصيلية عملية، يحرصون على تنفيذها على أرض الواقع.
وتترجم هذا أحداث السنوات القليلة الماضية، مثل: خلفيات أحداث انتفاضة الأقصى، وملابسات افتعال الحرب العالمية على الإسلام بزعم محاربة الإرهاب، وتضاعيف الحملة المدبرة منذ عقود لإسقاط «بابل» للوصول إلى الفرات، وكذلك التربص العنيد باليقظة الإسلامية في فلسطين، والتوجه المنظم لحصار الشام بعد حصار العراق، والتهديدات المبطنة والمعلنة لإغراق مصر وخنق السودان وحرق إيران ولبنان، وإطلاق «الفوضى الخلاَّقة» في غيرها من البلدان ... كل ذلك بتداعياته، وما قد يأتي بعده، يمثل دلالة على أن القوم لا يزالون على العهد ـ القديم والجديد ـ ضد أمة القرآن المجيد!
\ تشريع الظلم وتقنين الجنون:
مع ما يظهر من غياب مقتضيات العدل والعقل في تلك الأفكار؛ غير أنها تجد مساندة مما يسمى بـ (الشرعية الدولية) . فجنون اليهود يتحول إلى «قانون» في شرعة الأمم المتحدة علينا، وظلامات النصارى الغربيين؛ تصير بعد حين «شرائع دولية» ، هذا ما شهدناه وشهده آباؤنا وأجدادنا على مدى ما مضى من عقود تداعي الأمم على قصعتنا المكشوفة! فتقسيم العالم الإسلامي بعد إسقاط كيانه الجامع تحت مظلة «عصبة الأمم» وإعطاء إنجلترا «حق الانتداب» على الأرض المقدسة، ريثما تتم تهيئتها لليهود عبر ثلاثة عقود، ثم صدور قرار التقسيم «العادل» بين المغتصِب والمغتصَب، وتزايد قرارات فرض السلام مع هذا المغتصِب ... كل ذلك يجري باسم «الشرعية الدولية» التي تتخذ كل حين آليات جديدة لزيادة الضغط وتفجير المواقف الثابتة للعرب والمسلمين.
ففي ما يتعلق بقضية فلسطين، كُونت في السنوات الأخيرة لجنة منبثقة عن الجهات المتحكمة في تلك الشرعية، هي التي أُطلق عليها (اللجنة الرباعية) والتي تضم الولايات «المتحدة» والأمم «المتحدة» و «الاتحاد» الأوروبي» ، و «الاتحاد» الروسي! وكل هذه الأطراف (المتحدة) قد توافقت على «ثوابت» فيما يخص القضية الفلسطينية في ظل الفُرقة التي تجمعنا. هذه الثوابت، التي يطلق عليها «مطالب الرباعية» تتمثل في: ضرورة أن يلتزم الفلسطينيون ـ والعرب والمسلمون من ورائهم ـ بـ (الاعتراف) بحق دولة اليهود في الوجود على أرض فلسطين؛ أي بمعنى أحقيتها في كل ما اغتصبته ولا تزال تغتصبه من أراضٍ ومقدرات ومقدسات هناك، هذا أولاً. أما ثانياً: أن يلتزم الفلسطينيون ـ والعرب والمسلمون معهم ـ بـ (نبذ العنف) أي عدم تحريك ساكن ضد جرائم اليهود القائمة كلها من أولها لآخرها على مسلسل من العنف الدموي الإجرامي من خلال الحروب والمعارك المتتابعة والتي وصلت الآن لست حروب في ستة عقود، بخلاف «حروب الحواشي» التي أُقحِم فيها العرب والمسلمون من أجل سواد عيون أبناء صهيون. أما الأمر الثالث من مطالب الرباعية أو ثوابتها، فهو «التزام» كل الاتفاقات السابقة بين العلمانيين العرب، والعقائديين اليهود، ابتداء من اتفاقات (كامب ديفيد) عام ١٩٧٨م، ومروراً باتفاقية (أوسلو) عام ١٩٩٣، و (وادي عربة) عام ١٩٩٤م، وواي ريفر عام ١٩٩٨م ووصولاً إلى «خارطة الطريق» عام ٢٠٠٢م؛ وهي كلها تركز على ثابتين: الاعتراف بدولة اليهود، وتجريم أي مقاومة ضدها.
لكن اتفاقية أوسلو ـ على وجه الخصوص ـ هي الثابت الأول الذي يصرّ الأمريكيون والإسرائيليون والأمم المتحدة والروس على أن تكون أساساً لأي بناء يقام فيه أي كيان فلسطيني محتمل، سواء كان ذا وجهة علمانية أو صبغة إسلامية، أو هجيناً من هذا وذاك في شكل حكومة (وحدة وطنية) .
وهذه حقيقة المعركة التي تخوضها حماس الآن؛ فلقد كنت مقتنعاً منذ نجاحها في الانتخابات ـ ولا زلت ـ بأن تلك المطالب أو الثوابت (الرباعية) سيظل أصحابها يصرون على جر المسلمين والعرب والفلسطينيين إليها رويداً رويداً، مرة بإشعال النار في معارك ومداهمات ومؤامرات، ومرة بإحكام الحصار السياسي والاقتصادي، ومرة بإسقاط الخيارات وإفشال الحكومات التي يمكن أن تنشأ على غير تلك «الثوابت» الثلاثة التي استقرت عليها «الشرعية» الدولية، وتبعتها عليها «الشرعية» العربية.
\ «أوسلو» التي يحتكمون إليها:
هذه الاتفاقية التي أُبرمت عام ١٩٩١م في البيت الأبيض بين الطرف الفلسطيني الذي مثله (عرفات) والإسرائيلي الذي مثله (إسحاق رابين) رئيس الوزراء الأسبق، برعاية الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) كانت منعطفاً حاداً في خط سير القضية الفلسطينية؛ إذ إنها مثَّلت الركن الذي يرتكز عليه كل المبطلين للحق الإسلامي في فلسطين، بدءاً من اليهود وأعوانهم من الأوروبيين والأمريكيين والروس، وانتهاءً بالعلمانيين العرب الذين لم يَثبُتوا على أي مبدأ خلال الستين عاماً الماضية من عمر القضية، والذين يلحّون الآن على التمسك فقط ببنود تلك الاتفاقية، مع أن المفاوضات السرية التي سبقتها وقادت إليها لم يُحط بها علماً أي زعيم عربي، حتى الذين سبقوا إلى إبرام معاهدات (سلام) مع اليهود!!
ـ نصت الاتفاقية في وثيقة (إعلان المبادئ) على انسحاب اليهود من منطقتي قطاع غزة والضفة الغربية اللتين احتُلتا عام ١٩٦٧م، بحيث تترك إدراتهما لسلطة فلسطينية تُجرى انتخابات بشأن تكوينها، على أن يكون من مهام تلك السلطة الرئيسية (حفظ الأمن) في الضفة والقطاع بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية، من خلال لجنة للتعاون الأمني المشترك! وكان المعنى العملي لهذا البند من الاتفاقية، أن يتخندق الفلسطينيون العلمانيون من السُلطة إلى جانب الصهيونيين المحتلين لعموم فلسطين، ضد بقية الفلسطينيين ـ الإسلاميين ـ الذين (يعكرون) أمن اليهود!!
وهذا تماماً ما حصل خلال السنوات الأولى من قيام السلطة في عهد عرفات، حيث قام العميل (دحلان) بتأدية المهمة شر قيام.
ـ ونصت الاتفاقية على أن الجانب الفلسطيني لن يتلقى أي معونات اقتصادية من الخارج إلا من خلال لجنة مشتركة مع الإسرائيليين، تحدد معايير القبول أو الرفض، ومسارات الإنفاق أو الاستثمار لتلك الأموال، وهو ما فرض منذ وقت مبكر آلية رسمية صهيونية لفرض الحصار الإسرائيلي على الفلسطينيين في أي وقت يريده اليهود.
ـ حددت الاتفاقية مجالات الولاية المسموح بها إسرائيلياً لهذه السلطة على الأرض التي ينسحب منها اليهود «تكتيكاً» وهي مجالات: (الصحة ـ التربية ـ الثقافة ـ الشؤون الاجتماعية ـ الضرائب ـ السياحة ـ الأمن الداخلي) وهو ما يعني إراحة اليهود من تبعة إدارة شؤون شعب معادٍ لهم، ريثما تكمل مخططات (الترانسفير) أو التهجير. أما القضايا الكبرى مثل: القدس والأقصى والمستوطنات والقواعد العسكرية في الأراضي المحتلة، والحدود واللاجئين وغير ذلك؛ فإن اتفاق أوسلو أرجأ البت فيها إلى ما بعد مرور ثلاث سنوات من إبرام الاتفاقية، حتى يتسنى التأكد من (حسن السير والسلوك) لدى السلطة التي ستنشأ عن اتفاق أوسلو؛ حيث تنص الاتفاقية على البدء بعد تلك السنوات الثلاث في مفاوضات بشأن (الحل النهائي) للقضايا الكبرى.
وقد مرت السنوات الثلاث، وبعدها ثلاث وثلاث وثلاث، في اثني عشر عاماً، ولم يتأكد الإسرائيليون بعدُ من (حُسن النوايا) الفلسطينية في سُلطة عرفات، ومن بعدها سُلطة محمود عباس؛ لكي يبدؤوا بداية جدية في تلك المفاوضات النهائية التي جرت منها فقط مرحلة هزلية في نهاية أيام بيل كلينتون، أُطلق عليها (كامب ديفيد الثانية) عام ١٩٩٩، ثم سرعان ما فشلت بعدما اكتشف عرفات أنها ما بُدئت إلا من أجل تسليم كلينتون للإسرائيليين مفاتيح مدينة القدس والمسجد الأقصى بشكل رسمي قبل أن يغادر البيت الأبيض، لكي يفعلوا فيه أو في أرضه بعد هدمه ما يشاؤون، تنفيذاً للمبادرة المشهورة بمبادرة (مازن ـ بيلين) التي يعترف فيها محمود عباس (أبو مازن) في اتفاقه مع يوسي بيلين (وزير العدل) الإسرائيلي السابق، بأن تكون القدس لليهود، وللفلسطينيين منطقة خارجها هي (أبو ديس) يتخذونها عاصمة بعد أن يُطلق عليها اسم (القدس) !!
\ الحل النهائي للتفاوض، والأقصى هو الهدف:
بعدما فشلت مباحثات (كامب ديفيد الثانية) عام ٢٠٠٠م، وبعدما أدرك اليهود والأمريكيون أن استلام الأقصى سلمياً ورسمياً، ليس من السهولة بمكان، وكذلك التسليم بأن القدس يهودية؛ شرع شارون في تهييج اليهود ضد الفلسطينيين، إسلاميين وعلمانيين، وهو ما أشعل انتفاضة الأقصى التي استمرت نحو أربع سنوات؛ ومن يومها؛ والضغوط تتوالى على الفلسطينيين بكافة توجهاتهم من أجل إنشاء ظروف جديدة، تسمح بمعطيات أكثر حظاً لليهود عند أي دخول في مفاوضات نهائية، وقد جرت أثناء مدة المأفون شارون عدة تطورات، تهدف كلها لكسر الإرادة الفلسطينية أو تليينها، حتى تذعن لثوابت اليهود، وترضى بثوابت ما يسمى بـ (الشرعية الدولية) !! وفي ظل تلك «الشرعية» جرى قتل وجرح واعتقال عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وقتل واغتيال العشرات من القادة والرموز، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، كما لم يسلم من غدر اليهود ياسر عرفات نفسه، حيث حاصروه في مقر السلطة التي منحوها له، وشاع أنهم تسببوا في قتله بالسُّم، حتى يُفسَح الطريق أمام قيادات جديدة، أكثر ليونة أو رعونة، ترضى ـ بعد كل ذلك ـ أن تُلتقَط لها الصور التذكارية في الاجتماعات (التشاورية) الودية، مع (شارون) ومن بعده (أولمرت) المتآمر القديم على القدس والأقصى أثناء تسلمه لمنصب بلدية القدس لعشر سنوات بدءاً من عام ١٩٩٣م.
لا شك في أن ما جرى مؤخراً من فصول جديدة من التآمر ضد القدس والأقصى، يمثل مرحلة متقدمة من المشروع الهادف إلى إحكام سيطرة اليهود عليهما بشكل نهائي، حيث إن الأقصى يتوجب هدمه جذرياً، والقدس يتوجب ضمها نهائياً، حتى تكتمل معالم (الدولة اليهودية) التي أشار جورج بوش الابن إلى ضرورة توافق الجميع على استكمالها، في حضور العديد من الزعماء العرب ـ ومنهم محمود عباس ـ في مؤتمر خليج العقبة عام ٢٠٠٣م!
قناعتي أن الأقصى سيظل يختصر معالم الصراع الديني في قضية فلسطين، إسلامياً ويهودياً ونصرانياً، حيث يتوافق الجميع ـ بغير اتفاق ـ على أنه يبقى بؤرة صراع الأديان في المستقبل القريب والمستقبل البعيد، بعد أن كان محوراً لهذا الصراع منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام، عندما بنى داود ـ عليه السلام ـ مدينة القدس وأعاد ابنه سليمان بناء المسجد الأقصى فيها.
ü هذه ثوابتنا:
الأقصى هو المركز في قصة صراع الحق والباطل بين أتباع الديانات الثلاث؛ ولذلك فمنه ابتدئ سرد ثوابتنا الإسلامية؛ التي يُراد التصدي لها، أو القفز من فوقها إلى حيث ثوابت المغضوب عليهم والضالين، ومن دار في فلكهم من المنافقين:
أعرف أن هناك من سيقول: أين نحن مما تتحدثون عنه، في زمن هوان المسلمين، وظروف تمكن الأعداء، ومناخ المعادلات الدولية والنظرات الواقعية لموازين القوى المؤثرة في طبائع الأحداث؟! فأقول: الواقع ليس حُكماً على الشريعة والعقيدة، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية: فإن هذا الواقع يتغير بسرعة لصالحنا كلما غيَّرنا ما بأنفسنا، كما تشهد بذلك ساحات الانتصارات الأخرى. ومن ناحية ثالثة: فإن في مقابل تلك الثوابت الإسلامية، هناك ثوابت (دينية) صهيونية، نصرانية تقابل كل بند فيها، ولعلِّي أترك للقارئ إجراء تلك المقابلة والمقارنة، التي لم تحجزهم عنها أوهام الواقعية أو العصرانية.
ومن جهة رابعة: فإن الأجيال الإسلامية، لا بد أن تنشأ على المفاهيم والثوابت الإسلامية في قضاياها، حتى إذا عجزنا نحن، لم نورِّثهم ذلك العجز، أو نسلِّمهم لمسلَّمات وثوابت المبطلين، من العلمانيين وأشياعهم.
إن العلمانية العربية هي أكثر الأطراف حديثاً عن «الثوابت» ولكنها ثوابت تختلف عن ثوابتنا الإسلامية؛ ومع هذا فإنها كانت ولا تزال الأكثر تفريطاً فيها وتجاوزاً لها؛ فمن الذي لا يذكر ممنوعات عبد الناصر، ولاءات السادات، ومحرمات عرفات، واحتجاجات وتحفظات جبهات (الصمود والتصدي) و (البعث العربي) و (الجامعة العربية) بمؤتمراتها ومقرراتها التي تذهب تباعاً أدراج الرياح؟ إن تلك الثوابت لم يبق منها الآن إلا بعض أشكال الممانعة التي تتشبث بها فصائل المقاومة، مثل حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما؛ ومع هذا يراودها الأكثرون عليها، ويحاولون إبعادها عنها!
وبعدُ: فما الذي أوصل إلى كل هذا التراجع من طرفنا ... مع ازدياد العناد والمزايدة من أطراف أعدائنا..؟!
\ السؤال الكبير:
في النصف الأول من العقد الأول من هذا القرن الهجري، أي ما يوازي منتصف الثمانينيات الميلادية من القرن الفائت، كان هناك سؤال يثور في الأذهان، ويدور على الألسنة، مؤدّاه: «لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟!» حيث كان الجهاد لتحرير أفغانستان من الغزو الروسي يكتسب وقتها زخماً إسلامياً عالمياً، بعد أن أخذت القضية الأفغانية بُعداً اعتقادياً، جمع حولها قلوب المسلمين أفراداً وجماعات ومجتمعات، بينما كانت قضية فلسطين ـ الأكبر والأخطر والأقدم ـ تعاني إهمالاً واضحاً، وضموراً لافتاً في الضمائر، انعكس على ما تترجمه السرائر والظواهر..!
لم يكن على الساحة الفلسطينية ـ حتى ذلك الوقت ـ بروز يُذكر لأي تجمع إسلامي شعبي يجاهد لأجل تحرير فلسطين، بالرغم من مضي زمان يزيد على زمن التيه من احتلالها، بينما وُجد في أفغانستان في غضون سنوات قلائل، جمع من المنظمات الجهادية، ظلت تنازل أكبر جيش في العالم في ذلك الوقت حتى أخضعته وأخرجته صاغراً من الأرض الأفغانية! لقد كان الجزء الأكبر من الإجابة على ذلك السؤال: «لماذا أفغانستان وليس فلسطين؟!» يكمن في وصف الحال هنا ووصفه هناك؛ حيث كان الفرق الكبير هو أن القضية الأفغانية أخذت بُعدها الإسلامي الاعتقادي إعلامياً وسياسياً بشكلٍ كافٍ؛ بينما كان أسر الإسرائيليين لفلسطين يكتسب الضمانات والحصانات من العلمانية العربية والفلسطينية التي ميَّعت القضية بخطاب بارد جاف، منزوع العقيدة، فاقد التأثير في قلوب المسلمين وعقولهم.
إن هذه الأمة مهما اعتورها من دَخَن أو دَخَل خارجي، هي في جوهرها الداخلي إسلامية القلب، إيمانية الوجهة، ولا يستطيع أن يؤثر فيها أو يأسر قلبها إلا من خاطبها بلسان الإسلام والإيمان، حتى ولو كان ذلك بالمظاهر والشعارات؛ فهي قد تُخدَع لمن خدعها بالإسلام، ولكنها تصدُق مع من صَدَقها في خطاب الإيمان. وقد فهم أعداء الأمة هذا جيداً، فكانوا حريصين كل الحرص على ألاَّ يخاطبها أحد بذلك الخطاب الإسلامي إلا فيما يتقاطع مع مصالحهم، في حين لا يزعجهم كثيراً خطاب الشعارات المائعة، قومية أو وطنية، ثورية أو ليبرالية؛ فهي وإن علا صوتها وتزاحم ضجيجها، فإنها لا تعدو أن تكون قعقعة في بطن جوعان أو زوبعة في قعر فنجان!! وهذا ما حدث عندما خاض العرب تحت تلك الرايات والشعارات حروب الهزائم الكبرى، مستبعدين الإسلام، متجاهلين المسلمين غير العرب، لتظل هذه القضية، قضية (قومية عربية) علمانية.. لم تلبث أن تحولت إلى قضية (وطنية فلسطينية) علمانية أيضاً. لكن لما ظهرت التوجهات الإسلامية في فلسطين على يد حماس والجهاد الإسلامي، كان واضحاً أن هناك تغيراً طرأ على الساحة الفلسطينية، وهو قابل للتطور باتجاه (أسلمة القضية) وهنا قال العلمانيون.. وقال الإسرائيليون والأمريكيون قبلهم: لا ... ! ولهذا كانت (مدريد) وكانت (أوسلو) التي تعد الوليد ـ أقصد اللقيط ـ الأول للعلاقة الجديدة الناشئة بين العلمانية الفلسطينية والكيان الصهيوني.
لقد أطاحت (أوسلو) وأخواتها بأهم الثوابت المتعلقة بالصراع مع اليهود المغتصبين، بعد أن أغلقت فتح ملف الثوابت الفلسطينية، ولم تُبْقِ منها إلا مسألة الدولة الفلسطينية بزعامة علمانية «صديقة» لليهود، ومع ذلك ظل أصحابها يتحدثون أكثر من غيرهم عن (الثوابت الفلسطينية) التي لا تختلف الآن كثيراً عن الثوابت الإسرائيلية التي تنافح عنها (اللجنة الرباعية) وكان آخر ذلك تصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية مع حركة حماس؛ حيث قال في لقائه مع كونداليزا رايس وإيهود أولمرت: «كل الوزراء في الحكومة سيلتزمون بثوابت الرباعية، ولن يلتزموا بإملاءات الجهة التي جاؤوا منها» (يقصد حماس بالطبع) !
إننا أمام معادلة تقول: كلما انخفض سقف الخطاب العربي والإسلامي في القضية الفلسطينية، ارتفع سقف الطمع في التنازلات والتراجعات على الجانب المعادي، إسرائيلياً كان أو أمريكياً أو أوروبياً؛ ولهذا أقول: إن هذا هو التحدي الكبير الذي يواجه الإسلاميين الفلسطينيين في حماس وغيرها.
ü السؤال الأكبر:
بعد عام تقريباً من الآن، يكون الاحتلال اليهودي لفلسطين عام ١٩٤٨م قد مضى عليه ستون عاماً، وإذا أرَّخنا لضياع فلسطين باحتلال الإنجليز لها عام ١٩١٨م، والذي تواصَل حتى الاحتلال الإسرائيلي، يكون قد مضى في العام القادم على القضية الفلسطينية تسعون عاماً!
خلال الستين عاماً ... أو التسعين عاماً، أضاع العرب والمسلمون الكثير والكثير من الفرص لتحرير فلسطين، وما ذلك ـ في رأيي ـ إلا بسبب التخبط والتردد والتخليط في اختيار الرايات التي ستُحرَّر تحت ألويتها الأرض المقدسة المغصوبة، حيث أكثرَ ساستنا التنقل بين الليبرالية والاشتراكية والقومية والوطنية، مستعينين تارة بالشرق، ومرتمين تارة في أحضان الغرب، وهو ما جعل «ثوابت» القضية الفلسطينية لا تكاد تثبت على حال.
تراودني كثيراً في الآونة الأخيرة تساؤلات، تنطوي على مقارنات، بين أوضاع قضية (احتلال فلسطين) التي مضى عليها ما يقرب من ستين عاماً أو تسعين عاماً، وبين قضية (احتلال العراق) التي مضى عليها نحو أربع سنوات فقط!!
وتبرز في تلك التساؤلات الكثير من الفروق والمفارقات:
سنجد بعد الإجابة الموضوعية عن تلك الأسئلة ـ أن الفارق كبير جداً بين مؤهلات الانتصار الأسهل في فلسطين (افتراضاً) ومسببات الانتصار الأصعب في العراق (واقعاً) !
وهنا نعيد السؤال القديم ـ بصيغة جديدة ـ: «لماذا العراق.. وليس فلسطين؟!» لا تقليلاً من قدر العراق أو تهويناً من خطر الأمريكان، ولكن، لنطرح ذلك التساؤل الأصعب: كيف حققت المقاومة العراقية تلك الانتصارات المذهلة في ذلك الوقت القياسي القليل جداً، مع تلك الإمكانات المحدودة جداً وفي تلك الظروف الأصعب جداً؟! في حين أنها تقاتل في وقت واحد عدوين كبيرين: علوج الأمريكان الهائجة وجُعلان إيران الهمجية؛ إضافة إلى قوات التحالف المجموعة من حثالات الأمم!
إن المقاومة في العراق لم تحرز انتصارات كبيرة على أمريكا وحلفائها فحسب، في ظروف استضعاف وتنكُّر وخذلان وإعراض من الأكثرين؛ بل إن أداءها الأسطوري المرعب لأعداء الله، كان سبباً ـ بفضل الله ـ في حماية بقية دول الجوار من بقية مسلسل الجور الأمريكي الذي كان مخططاً لما بعد نجاح الغزو في العراق.
ونعود إلى فلسطين.. حيث السؤال الذي لا يزال يفرض نفسه: متى نرى في اليهود هناك، مثل ما نرى في الأمريكيين وحلفائهم في العراق..؟! إن الجواب يمكن التفصيل فيه، ولكنه يكمن في كلمات محددوة: تنقية الراية، وتصفية وتقوية الثوابت الفلسطينية إسلامياً لتكون خالصة من شوائب «الثوابت» العلمانية، ومصادرها الرئيسية المستمدة من مبادئ الظلم الكامنة في «الشرعية الدولية» ذات الوجهة الصهيونية.
إن الشعب الفلسطيني ـ من حيث هو ـ شعب أبيٌّ صابر ومجاهد ومرابط، ولا يمكن المزايدة على تضحياته بتضحيات أخرى، ولكن تسلط بعض زعاماته بفرض قناعات بعيدة عن المنهج السوي، هو ما قلل من قطف ثمرات تلك التضحيات، وإن ما نشهده من تضييق (الحصار المنهجي) على حركة حماس لتتخلى عن الثوابت الإسلامية، لهو أخطر من الحصار الاقتصادي المفروض على بقية الشعب؛ لأن حصار البطون سيهون وينتهي، ولكن حصار العقول والقلوب لو نجح ـ عياذاً بالله ـ فسوف يباعد أكثر من النصر، ويمكِّن أكثر للعدو، ويفتح المجال لسنن الاستبدال.
إن فلسطين في حاجة إلى مزيد من التشبث بتحرير الولاء لله، لتحرير المقدسات والأراضي والمقدرات من أعداء الله، وهذا ما سوف يحدث قطعاً، عندما تكون الرايةُ الإسلامَ، والغاية العبودية؛ فبهذين الوصفين، سيلتفت العرب وسيتضامن المسلمون، بل سينطق الحجر والشجر لنصرة المظلومين ضد اليهود الظالمين، مصداقاً لقول النبي #: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله!» (١) فالنداء هنا بوصف الإسلام ووصف العبودية وليس بالقومية أو الوطنية العلمانية التي أضاعت الأرض والعرض في فلسطين لنحو تسعين عاماً.