للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية

أيها الدعاة

رمضان لكم قبل غيركم!

عثمان بن عطية المزمومي

يمر بنا رمضان كل عام، فلا يجد فيه كثير من الدعاة والمصلحين المعين

الذي يجدد الإيمان في قلوبهم ويعينهم على مواصلة ما نذروا أنفسهم للقيام به من

دعوة وإرشاد وتربية للناس على مفاهيم هذا الدين، وتعليمهم ما يحتاجون إليه في

أمر دينهم.

إن رمضان الذي مرَّ على الأمة سابقاً، وأثّرَ فيها تأثيراً عميقاً ولا نجد له

مثيلاً في حياتنا هو رمضان نفسه.

والقرآن الذي تلاه سلفنا الصالح وحرّك كوامن الإيمان في قلوبهم وملأها

بالخوف والخشية هو القرآن الذي نقلبه بين أيدينا في عصرنا هذا، فلماذا تغيرت

أحوالنا عن أحوالهم؟ وما هو الخلل الذي حدث في حياتنا؟

إننا حين نقف مع هذه الظاهرة الخطيرة في نفوس الدعاة والمصلحين نلحظ

الأسباب التالية:

أولاً: خطأ كثير من الدعاة في تغليب الاهتمام بالآخرين على حساب الاهتمام

بالنفس، والفهم الخاطئ للنصوص التي جاءت مرغبة للخير في هذا الشهر.

ومن تلك النصوص:

١ - «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون

في رمضان» [١] ؛ حيث يفهم الكثير من هذا النص أن من أنواع الجود التي يمكن

أن يقدمها الداعية الجود بالوقت في تعليم الناس وتوجيههم، والتفرغ لهم «كما هو

معروف من أنواع الجود المختلفة» .

وهذا فهم فيه شيءٌ من الصحة، ولكن لا يعني بالضرورة الجود بالوقت كله

للآخرين وإهمال النفس؛ لأن النفس الجزء الأكبر من الجود بشغلها بالطاعات

والقربات لتطهر ولتتزكى، وخصوصاً أنها هي مصدر الجود الذي يراد بذله

للآخرين.

ومن هذه النصوص:

٢ - «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت

الشياطين» [٢] .

حيث يفهم بعضنا من هذا النص أن نفوس الناس يحصل لها من التهيؤ لتقبل

الخير في رمضان ما لا يحصل في غيره؛ وذلك لأن الشياطين تُصفد فلا تخلص

إلى ما كانت تخلص إليه في غير رمضان. وهذه بالطبع فرصة سانحة لزيادة

التأثير على الناس وترقيق قلوبهم وربطها بالله تعالى. وهذا فهم صائب، ولكن

الخطأ عدم الموازنة بين الأمور وعدم تقديم الأولويات؛ فالنفس هي أحق من

تُقتنص لها الفرص لتعبيدها وتذليلها وتعويدها على جوانب العبادة المختلفة.

ثانياً: نسيان كثير من المصلحين أن النفوس العاجزة عن التأثير في ذاتها

وقصرها على جوانب العبادة المختلفة ستكون أشد عجزاً عن التأثير في الآخرين

وغرس المبادئ والقيم الخيّرة في نفوسهم، وهذا هو مضمون العبارة التي تقول:

«فاقد الشيء لا يعطيه» .

- إذ كيف يوصل الإيمان للقلوب ويعلقها بالله قلب مقطوع عن الله؟

- وكيف يرقق القلوب ويغذيها بالخوف والخشية قلب قاسٍ لم يتمرغ في طاعة

الله، ولم تدمع عين صاحبه من خشية الله، ولم تتغذَّ روحه بالصلاة والقيام وتلاوة

القرآن؟

ثالثاً: الغفلة عن حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الدعاة،

وعن حال السلف الصالح.

- فهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم: «كان ينزل عليه جبريل في رمضان

كل ليلة فيعارضه القرآن» [٣] ، متفق عليه بلفظ «فيدارسه القرآن» .

- وكان صلى الله عليه وسلم «إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشدَّ

المئزر» [٤] .

- يقول ابن القيم: «وكان هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان

الإكثار من أنواع العبادات» .

- وكان الإمام مالك إذا دخل رمضان أوقف حلقات العلم وكفَّ عن التدريس

والفتيا وقال: «هذا شهر رمضان» .

فكل هذه النصوص تعطي للدعاة درساً في وجوب الاهتمام بالنفس قبل

الاهتمام بالغير.

* يا صُنّاع الحياة!

إن اهتمامكم بأنفسكم وصلتكم بالله هي من الدعوة ذاتها؛ لأنها المعين الأول

لكم بعد توفيق الله على مواصلة جهدكم في دعوة الناس وتعليمهم وإصلاح فساد

مجتمعاتنا، والتي تحتاج إلى ثقة كبيرة بنصر الله لهذا الدين مهما بلغ حجم

الانحراف والفساد في هذه الأمة، وهذا ما تغرسه العبادة والاتصال بالله في النفوس

حتى لا تقع ضحية اليأس والإحباط من التغيير.

* وأخيراً:

لا يعني كلامي هذا أن يتفرغ الدعاة والمصلحون لأنفسهم، ويتركوا الميدان

للمفسدين والمضللين ودعاة الشر بحجة الاهتمام بالنفس قبل الغير، ولا يعني في

المقابل أن يبذلوا لهم كل أوقاتهم وجهودهم بل التوسط مطلوب في كل الأمور. فكلا

طرفي قصد الأمور ذميم؛ كما قيل. والوقت فيه مُتَّسع لهذا وذاك إذا أخلصنا النيات

وجردنا المقاصد ورتبنا أولوياتنا، واستبعدنا كثيراً من الأمور التي تُعدُّ من الترف،

أو يمكن قضاؤها بعد رمضان.


(١) متفق عليه.
(٢) متفق عليه.
(٣) متفق عليه.
(٤) متفق عليه.