البيان الأدبي
[الأدب بين الأصالة والتأصيل]
د. مصطفى إبراهيم حسين
الأصالة هي ارتباط الثقافة بعامة والأدب خاصة بأصولنا: عقيدة وشريعة،
وفكراً ولغةً وتاريخاً. والأصالة عندنا: تمثل هويتنا التي تميّزنا على من سوانا،
وهذه تقوم مقام البصمة من الإنسان.
وعلى هذا، فلا يخفى معنى التأصيل؛ إذ هو حرص الجماعة على أن تظل
موصولة بأصولها وجذورها. إنها تتواصل مع الآخرين: أدباً وثقافةً؛ حتى لا
تكون بمعزل عن هؤلاء الآخرين.
إن قانون (التوازن والاتزان) هو القانون الراسخ في صنع الحضارات؛ فإن
جمدت الأمة ضاعت، وإن أغرقت في الأخذ والتواصل ضاعت أيضاً. فكما أن
جمودها يعزلها ويضيع وجودها، فكذلك انبهارها بلا ثقة في تراثها، وأعني بذلك
انبهارها بما لدى الآخرين، مع فقدان الثقة بما لديها. وهذا الانبهار المتهالك يسلمها
إلى الذوبان والفناء.
نقول ذلك ونقرره حين يكون مثقفو الأمة ومفكروها وأدباؤها واقفين عند حدود
الانبهار، فماذا يكون الحال حين يتجاوزون الانبهار إلى عداءٍ مَرَضي لتراثهم،
ودعوةٍ إلى تدميره والإلقاء به في البحر؟
إن هذه الحالة المَرَضية سوف تُسلم إلى موت محقق، تماماً كحال مريض
بالانفصام أو الاكتئاب، أسلمه المرض إلى الانتحار أو الموت البطيء.
هل نحن بحاجة إلى تأصيل؟
نعم! بل نحن في أمسّ الحاجة إلى التأصيل، وفي حاجة إلى أن ندعو إلى
وجوب التأصيل، وإلى مؤازرة الدعاة إليه، بل وأن يكون الدعاة إلى التأصيل صفاً
واحداً متسانداً، له رؤيته الواضحة وبرنامج عمله الواضح المحدد، وقياداته الفكرية
الأمينة المستنيرة.
نظرة إلى الساحة الأدبية:
ونظرة إلى الساحة الأدبية تسلمنا إلى حالة تتجاوز الانزعاج، وتضعنا أمام
مسؤولياتنا بلا تردد؛ فالشعر العربي فَقَدَ هويته، بل لا أكون مبالغاً لو قلت: إن
شعرنا العربي الراهن يعاني ما يعانيه الانسان العربي من فقدان للهوية والكرامة معاً. والمضحك المبكي أن صانعي أزمة الشعر العربي هم الذين يتحدثون عن (أزمة
الشعر) . وكما انفردوا بصنع كيان ضائع شائه، واقفين وحدهم في الساحة، لا
يجدون من يتجاوب معهم، فإنهم حين يُلقون بسؤالهم عن أسباب أزمة الشعر لا
يجدون من يجاوبهم، خوف الإرهاب الذي فرضوه.
لقد ران على الساحة صمت مطبق، فلا (القصيدة الحداثية) تجد تجاوباً
وتواصلاً، ولا أزمتها التي صنعتها العلمانية المشبوهة تجد من يبحث لها عن الحل؛ ذلك أن تلك العلمانية المشبوهة قد أنتجت وليداً قبيحاً دميماً، هو الحداثة، التي
تآمرت على كل ما له صلة بمقدراتنا وأصولنا، وهوت عليه بالتدمير، ونصبت
على منابرها أبواقاً بالتّهم لكل من يقف أو يتصدى من ذوي الأصالة: تُهم الجهل،
والجمود، والرجعية، والغوغائية.
وقد كان ذوو الأصالة من الضعف والهوان، بحيث وجدوا في الصمت ملاذاً
يحميهم من الاتهام، ثم تركوا الساحة لأقوام يجيدون العبث ويروّجون له.
ويصنعون صنيع السحرة والحواة حين يتحدثون، ويغريهم صمت الآخرين بالتمادي
في عبث يزينون له، ويجيدون طبخه وتقديمه ... والويل ثم الويل لمن يتصدى
لإفكهم وغرورهم الفارغ.
وطبيعي أن الساحة حين تخلو من الأصلاء، وتعج بالسحرة والحواة؛ فإن
حالة الفوضى وانعدام التناغم والتناسق تسودها. وهنا يصبح الأمر بحاجة إلى وقفة
شجاعة تتخلى تماماً عن الخوف والتردد والنكوص.
القصيدة العربية:
إن أقل الناس معرفة بتاريخنا الأدبي الحديث يعلم أن البارودي يمثل (الريادة
الكبرى) في القصيدة العربية، وهي ريادة أنقذت القصيدة من التردي والتراجع حين
عمد الشعراء قبل البارودي إلى الانفصال عن النبع الأصيل، أعني الشعر العربي
في عصور الازدهار، من العصر الجاهلي والأموي إلى المعري والشريف الرضيّ، مروراً بأبي تمام والبحتري والمتنبي العملاق. لقد كان الشعراء قبل البارودي
يلوكون مادة خلت من كل مقومات الحياة والتأثير، فضلاً عن انحصارهم في
مضامين شخصية محدودة، ولغة هابطة، وافتقار أشعارهم البائسة إلى التواصل،
بما يشبه الحالة التي انتهت إليها (القصيدة الحداثية العلمانية) في وقتنا الراهن.
واقتضت طبائع الأشياء، أن يعود إلى الساحة الأساس المفقود؛ حتى يتم
التمكن من بناء الصرح، فكان البارودي..، لقد جاء ليعيد الأساس المفقود.. ومن
هنا يجد قارئ البارودي أصداء أبي تمام والبحتري والمتنبي والشريف الرضيّ وأبي
فراس. ولم يكن بوسع الرجل أن يصنع سوى ذلك، بحكم المرحلة التي ظهر فيها. كان عليه أن يعيدنا إلى النبع ويردنا إلى الأصل.. كان صنيعه (بعثاً) . ومع هذا
البعث الذي تبناه البارودي كانت نهضة جديدة للشعر العربي في العصر الحديث.
لقد جدد البارودي من خلال المحاكاة، ومن خلال العودة إلى النبع الأصيل.
وهذا ليس بالأمر السهل؛ إذ كان يتطلب شاعراً يذخر وجدانه بإمكانات إبداعية
تمكنه من الهضم والتمثل، وإحداث حركة التحول الكبير في مسيرة الشعر العربي
بعد طول انحراف.
ثم كان شوقي صانع البناء الشامخ فوق الأساس الذي أرسى دعائمه البارودي. أدخل الشعر المسرحي، وخاطب الطفل العربي من خلال قصص على ألسنة
الحيوان، ومن خلال أشكال أخرى للشعر التهذيبي. هذا إلى جانب ربطه الشعر
العربي بالواقع السياسي والاجتماعي، وربط القصيدة العربية بآفاق عربية وإسلامية
وإنسانية عامة، بالإضافة إلى ألوان أخرى من التجديد حققها أمير الشعراء في اللغة
والصورة والفكر، جديرة بأن تتناولها المزيد من الدراسات النقدية الأمينة،
ترصدها وتكشف عن أبعادها، برغم الأصوات الحداثية الناعقة.
ولسوف يظل أمير الشعراء قمةً تتطلع إليها عيوننا بكل الفخار، ورمزاً
عظيماً لتراثنا وأصالتنا، ولن يقلل من شأنه ما سجله عليه العقاد وطه حسين،
ويكفي أن العقاد الذي أوسع شوقي نقداً وانتقاصاً، قد أبدى اعتذاراً له في مقدمة
الكتاب الذي أصدره المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بالقاهرة، الذي يضم
الكلمات والأشعار التي ألقيت في احتفال المجلس بذكرى أمير الشعراء، وكان العقاد
أيامها مقرراً للجنة الشعر بالمجلس، خلال الستينيات الميلادية.
وقد دخلت القصيدة الشعرية بعد أمير الشعراء فلكاً جديداً صنعته مدارس
مضت في تجديد الشعر أشواطاً أبعد، منها مدرسة المهجر الشمالي، ومدرسة
الديوان، وحركة أبولْلُو؛ التي اختلف الباحثون في تحديد هويتها، لكنها على كل
حال ضمت ما يصر فريق من الباحثين على تسميته بالاتجاه الرومانسي [١] ،
ويمثل هذا الاتجاه: علي محمود طه، ناجي، والهمشري، والتيجاني يوسف بشير، وأبو القاسم الشابي، وآخرون، عدا مطران رائد الحركة.
وبرغم المآخذ التي نسجلها على مدرسة المهجر الشمالي إبداعاً ونقداً، وعلى
أصحاب الاتجاه الوجداني بالموطن، وبرغم النقد اللاذع الذي أبداه نقاد الديوان ضد
شوقي، فإن القصيدة العربية ولو بشكل نسبي ظلت موصولة بالتراث. ويقال مثل
ذلك عن الممارسات النقدية للعقاد والمازني؛ فالعقاد يترجم (الذخيرة الأدبية) التي
تضم باقة مختارة لشعراء الرومانتيكية الإنجليزية، ويتأثر بها ويؤثر بها في
الآخرين، لكنه في الوقت نفسه يكتب عن ابن الرومي والمتنبي والمعري، وهم
رموز كبرى للتراث الأدبي، وبشكل عام فإن الحركة الشعرية بعد شوقي استطاعت
أن تحقق قدراً من التوازن بين الأصالة والمعاصرة.
وقفة مع قصيدة الشعر الحر:
لقد ظل الشعر العربي في مرحلة ما قبل (الشعر الحر) موصولاً بالتراث،
ظل إلى حد كبير موصولاً بالأصول والمنابع، ظل له قراؤه الذين يقبلون على
قراءته والاحتفاء به، ولم تكن قراءة الشعر العربي قاصرة على النقاد والمختصين
منهم بخاصة، بل ظلت القرائح الشعرية الجديرة بالقبول تتوافد على الساحة،
وظلت الساحة تستقبل تلك القرائح بأذرعة مفتوحة.
والخلاصة: أن القصيدة الشعرية ظل لها عشاقها، وظلت هناك حلقة من
التواصل بين الشعراء والمتلقين، ولو ظل عشاق شوقي لا يتذوقون شعر هذه
المرحلة التي جاءت بعده، فإنه لم تكن ثمة أزمة.
لماذا؟
لأنه لم يكن ثمة انقطاع عن الأصول والجذور؛ فقارئ الشعر العربي إنسان
عربي في المقام الأول، وهو يتجاوب مع ما يتناغم مع أصالته العربية وشخصيته
التي صنعها وشكّلها تاريخ طويل.
فإذا ما اختلف اللسان والوجدان، وإذا ما أريد له أن يجبر على إفراز حداثي
متهافت؛ فإن عليه أن يدير ظهره للساحة؛ لأنه لو نبس ببنت شفة لاتهم بالجهل
(وتهمة الجهل كتهمة معاداة السامية في الدستور الصهيوني) فإن عليه أن يلوذ
بالصمت.
وهنا تكون الأزمة: أزمة الشعر العربي من صنع (خواجات ذوي رطانة في
اللسان وفي الفكر) مما دعا خواجات أوروبا الحقيقيين إلى انتقادهم محتقرين منهم
انسلاخهم عن هويتهم، وإمعانهم في التزلف لثقافة أوروبا، ومحاولة إقناع الغرب
بأنهم (عالميون) ساعون إلى العلمانية، طالبون بإخلاص بالغ الانضمام إلى دولة
الأدب الأوروبي، والدخول إلى حلقة (الأدب العالمي) .
لكن أوروبا رفضتهم والعرب أيضاً رفضوهم.
فيا لهول الأزمة: أزمة القصيدة العربية التي يحملها الحداثيون هَمّاً مؤرقاً في
المنام واليقظة.
وفي ظل ما يسمى بالشعر الحر ماجت الساحة بالفوضى.. فكل ناعق بكلام لا
معنى له، وبلغة الرطانة، وبصور سريالية لا رابط بين أطرافها، صار شاعراً،
وأفسحت له المجلات صفحاتها، ولقي غثاؤه وهراؤه حفاوة وترحيباً لدى المنتديات، ولدى المتظاهرين بالثقافة الحداثية الرفيعة، دون أن يفقهوا شيئاً مما يسمعون أو
يقرأون.
المهم أن يجيد هذا (الشعرور) الدعيّ كتابة هرائه على هيئة سطور تتفاوت
طولاً وعرضاً، ويمعن في الإغراب والتغريب. وما زالت الذاكرة تعي تلك
الفضيحة الأدبية الشهيرة خلال الستينيات حين عمد صحفي ماكر إلى كلام غامض
ملفق على الطريقة نفسها، ثم نشر هذا الكلام الغريب الغث وطلب من السادة النقاد
تحليلاً لهذا النص الموهوم، فتبارى فريق من السادة النقاد في التحليل والتهليل.
وبعد انتهاء (الزفّة) أخرج لهم الصحفي لسانه وصارحهم بأن هذه القصيدة ليست
لشاعر أوروبي أو عربي وإنما هي من تلفيقه ومكره. فسُقط في أيدي السادة النقاد.
وكانت الفضيحة لنقادنا الذين أوقعهم الصحفي في الفخ، ومع ذلك فقد ذهبت
الواقعة بكل دلالاتها، وابتلعتها ذاكرة الناس، وما أكثر ما تبتلع ذاكرة الناس ما
يسيء ويشين.
والظاهرة اللافتة أن ما يسمى بالشعر الحر قد تمادى في تحلله وانفراط عقده
على مدى قصير من الزمن، فمن قصيدة التفعيلة الواحدة التي تُختار من البحور
الصافية، إلى قصيدة التفعيلات المتعددة، وهي في واقع الأمر مزيج متنافر من
التفعيلات من شتى بحور الخليل، ثم تتوالى القفزات إلى ما يسمى بقصيدة النثر.
والمحصلة في النهاية هي الانفلات والفوضى الضاربة والتحدي الأبله لكل الثوابت. وفي النهاية لم نعد في شعرنا العربي وهو لساننا ووجداننا عبر أحقاب التاريخ
ننتسب إلى الغرب الذي ذبنا هياماً بتقليده ومحاكاته، ولا إلى الشرق، أي إلى
تراثنا وأصالتنا التي تبرأنا منها.
ودعونا نسجل بعض أقوال الأساتذة الخواجات:
يقول أدونيس الكاهن الأكبر لمعبد الحداثة: (قد تكون علاقتي بسوفوكليس أو
شكسبير أو رامبو أو ماياكو فسكي أو لوركا أعمق من علاقتي بأي شاعر عربي،
دون أن يعني ذلك أنني خارج على التراث العربي) .
ولا أدري كيف يطلّق الكاهن أدونيس التراث بالثلاثة، ثم لا يعني ذلك
الخروج على التراث؟ إنها البهلوانية الحداثية، وأساليب السحرة والحواة في
استغفال المثقف العربي وإيهامه.
ونجد عبد العزيز المقالح ابن الجزيرة الشاعرة وأحد الرموز لدعوة التغريب
يقول عن الأصالة: (أنا لا أعتقد بالأصالة، إنها لَصَنَمٌ آخر) . ومع ذلك فالمقالح
على خروجه المستفزّ أفضل حالاً بصراحته من الكاهن أدونيس في عبارته المتقدمة.
مما تقدم يتضح لنا أن الحداثة وليدة العلمانية البكر وإفرازها الصديدي المنذر
بالهلاك.
قانون التجاور والإحلال:
ومع كل الذي قدمنا، هل كنا نطالب بوأد حركة ما يسمى بالشعر الحر أو
طردها تماماً من الساحة؟
أقول: لا. ما إلى هذا قصدنا، وإنما حسبها أن تبقى، وأن تبقى في حالة
جوار للقصيدة العربية الأصيلة، لا على سبيل التسامح فحسب، ولكن على سبيل
التجريب، لا التخريب.
لقد شهد تاريخنا الأدبي العريق أشكالاً شتى من التجديد في إطار القصيدة
العربية، كان من أظهرها الموشحات التي يحتج بها دعاة ما يسمى بالشعر الحر.
غير أن الموشح بقي في حالة جوار فقط، ولم يجئ ليحل محل الشكل الخليلي
الدقيق للقصيدة العربية؛ بل إن الوشاحين أنفسهم كانوا يجمعون بين الشعر
والتوشيح. وما كان أحدهم يرضى أن يكون الموشح هو الأصل، بل هو حالة من
(الاستثناء الطارئ) لغرض مجالس الأنس واللهو.
وما محاولة ابن سناء الملك وهو شاعر وشّاح لضبط إيقاعات الموشح وأوزانه
إلا محاولة لإيجاد شرعية البقاء والوجود قياساً على أوزان الخليل لفن جديد طارئ
لم يتجاوز وضعه (المجاورة) فقط. ولم يحاول أحد من الوشاحين أن يتجاوز
(المجاورة) إلى (الإحلال) ، كما حدث مع ما يسمى بالشعر الحر، الذي ما زال
يعيش بيننا غريباً مرفوضاً، لا يكاد يتلقاه سوى حفنة قليلة من المختصين وحملة
المزامير والبيارق من كهنة (التغريب) ، التغريب بأوسع مداه لا في الأدب وحده.
وهذا الرفض للشعر المسمى بالحر، هو سر الأزمة: (أزمة الشعر) التي
يبحث كهان ما يسمى بالشعر الحر عن كل أسبابها، ويغفلون الأسباب الحقيقية، أو
هم يتجاهلونها عمداً، مع أنها واضحة وضوح الشمس، إنها أسباب كامنة فيه،
باعتباره كائناً غريباً مرفوضاً، جاء على أيدي المتآمرين على أصالتنا وهويتنا،
وعقيدتنا ووجودنا، وسيظل غريباً مرفوضاً، حتى يلحقه المُوات.
وماذا قال (الخواجات) ؟
و (الخواجات) الذين يعنيهم المقال هنا: هم المثقفون الأوروبيون من
المستشرقين وغيرهم، ولهم موقفهم الساخر المستغرب من ركام ما يسمى بالشعر
الحر، وغيره من أدب التغريب.
يقول المستشرق الإيطالي إيجنازيو سيلوني للأدباء العرب: (إن الطبيعة تأبى
أن تعترف بأدب عام لأقوام اختلفت أمزجتهم وعقلياتهم، وتفاوت ميراثهم النفسي
والحضاري، ولهذا نود أن نقرأ أدبكم عربياً متميزاً؛ لأنه إنما يأخذ مكانته أدباً
عالمياً بتفرده وأصالته) .
وعبارة سيلوني هذه هي أبلغ ردّ على دعوى العالمية البلهاء التي يدّعيها
الحداثيون سواء في الشعر أم في النثر ويسوّغون بها مسلكهم الشائن في التغريب،
وسقوطهم كالذباب على موائد الغرب، وهي عادة موائد تكون قد فرغت من آكليها،
ولم يبق عليها سوى بقايا تنتظر الأيدي التي تلقي بها بعيداً عن المائدة الشهية.
نعم. لقد صدق سيلوني: (الخواجة) الإيطالي؛ فالأدب لا يكون عالمياً
بالمحاكاة الفجة، ولكن بالتفرد والأصالة. الأديب العربي لا يكون عالمياً إلا
بأصالته وسحنته العربية.
حينئذ يكون الأدب صدقاً وليس أفتعالاً وانسلاخاً هو خير ما يخاطب الإنسان
به أياً كان هذا الإنسان: زماناً ومكاناً، لساناً وثقافة.
ونقول: إن دعوى (عالمية الأدب) على طريقة الحداثية العلمانية هي أشبه ما
تكون بدعوى مثل دين (الإنسانية) العام الذي نادت به يوماً الماسونية الصهيونية
المتخفية لتذوب كل العقائد والأعراق، حتى يبقى اليهود وحدهم، ويتلاشى كل من
عداهم.
ثمة مقولة أخرى صدرت عن الناقد الإنجليزي (ستيفن سبندر) عندما حضر
إلى (مؤتمر الأدب العربي المعاصر) الذي انعقد بروما أوائل الستينيات من هذا
القرن الميلادي، واستمع سبندر إلى أدونيس (الباطني المعروف) ، وهو يلقي كلمة
يدعو فيها صراحةً إلى هدم القديم.
يومها وصف سبندر كاهن الحداثيين المارق بالتطرف، ووضع أمامه نماذج
للتجديد والمجددين في الأدب الإنجليزي الحديث، وكيف أن هذه النماذج المجددة قد
بدأت من أرضية الأصالة؛ فالشاعران: ت. س إليوت، وماثيو أرنولد وهما من
أكبر شعراء هذا العصر، وهما في نفس الوقت ناقدان أصيلان، لم يهملا التراث
الشعري القديم، بل هضماه هضماً، وأبقيا منه ما هو جدير بالبقاء، ثم زادا عليه،
فجاء الشعر عندهما مبنياً على أسس متينة وجذور عميقة، ثم انتهى الناقد
الإنجليزي إلى أن وصف منحى (أدونيس) و) يوسف الخال) بالتطرف والضياع
وعدم الحكمة.
إننا بحاجة إلى وقفة مراجعة، ننظر فيها بصدقٍ وموضوعية إلى حصيلة
ممارساتنا الإبداعية والنقدية المرتكزة الآن على التغريب، وهي ليست حركة تجديد
بل هي حركة تذويب واقتلاع لكياننا العربي الإسلامي من جذوره.
إننا لا نرفض التجديد، ولا يرفضه مثقف لديه أدنى قدر من الوعي بحركة
الحياة ومسيرتها الحتمية نحو التطور، لكننا نرفض التغريب الذي يستهدف تذويب
هذه الأمة والقضاء على كينونتها والتنكر لوجودها وأصالتها، تحت ستار العالمية..
نرفض هذه الفوضى الضاربة بأطنابها في كل مكان، في الساحة الأدبية الثقافية،
فوضى باسم الإبداع، وفوضى باسم النقد، وانغلاق دائرة التواصل بين حملة
الأقلام من جانب والقراء من جانب آخر. الشعار المرفوع الآن على سارية الساحة
الأدبية: (إذا أردت أن تنضم إلينا فاكتب ما لا يفهم وقل ما لا يفهم) .. انغلاق في
الإبداع، وانغلاق في النقد، وانغلاق في الدراسات اللغوية، ومصيبة الدراسات
اللغوية ونظرياتها الحداثية أشد خطراً؛ فهناك مجلات تكتب بلغة خاصة.. وكتب
تؤلف بلغة خاصة، ومؤتمرات تنعقد، ومحافل تقام، وكل ما يجري فيها غريب
غريب.
إن هذا التطرف الأدبي الذي ينسف وجودنا المعنوي، ينبغي الاحتشاد
للتصدي له، فصنيع بعض مثقفينا تطرف.. تطرف حقيقي، وقد سمّاه بذلك الناقد
الإنجليزي سبندر، كما مضى وسبندر ليس عربياً غيوراً على تراث الأمة وأصالتها، بل هو مثقف أوروبي يؤمن بوجوب الالتزام بمنطق الواقع، ويعي أكثر من
مثقفينا مقتضيات التطور، ومفهوم التراث.
ثمة كلمة أخرى للمستشرق الفرنسي الشهير شارك بيلاّ فيها: (أقرأ الأدب
القديم وحده ولا أقرأ الحديث؛ لأنه أدب أوروبي مكتوب بحروف عربية) .. وهذه
شهادة بريئة من الشبهة والطعن.. وما أظن حداثيينا (الخواجات) يتهمون بيلاّ
بالجهل والتخلف والرجعية!
وبعد: فتلك وقفة نرجو أن تتبعها وقفات.. وأن تدلي الأقلام المخلصة بدلوها.. عسانا نرد عن هذه الأمة ولو بعض ما يراد لها من شرٍ مستطير.
(١) يسميه الناقد الكبير عبد القادر القط: الاتجاه الوجداني.