للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الآثار السياسية للشخصية الأمريكية]

د. باسم كمال

يهدف هذا البحث إلى التَّعرف على ملامح الشخصية الأمريكية، وخاصةً في الجوانب ذات التأثير المباشر على الحياة السياسية وصناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، ويركز على الفوارق بين الشخص الأمريكي والشخص الأوروبي، وعلى صعوبة وعدم واقعية جمعهما معاً على أنَّهما نموذج واحد يمكن أن يطلق عليه: «الشخص الغربي» . كما يتناول البحث الآثار السياسية لكل سِمةٍ من السمات المُميّزة للشخصية الأمريكية، وكيف أَثَّرت هذه السمة على السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية، وخاصة المتعلقة منها بالعالم العربي والإسلامي. وينتهي البحث ببعض التوصيات حول أفضل أساليب الاستفادة من فهم الشخصية الأمريكية في التأثير على صنع القرار الأمريكي بما يخدم مصالح الأمة وأهدافها.

١ - مقدمة:

تَشَكَّل المجتمع الأمريكي عبر القرون الثلاثة الماضية، ومروراً بالعديد من تجارب الصراع على السلطة، والحروب الأهلية، والتنافس العرقي، والتمايز الطبقي ليَصِل إلى ما يُعرف اليوم بالشخصية الأمريكية التي أصبحت تمثل العقل الجمعي للشعب الأمريكي، وتساهم بشكل مباشر في تشكيل القناعات والرؤى الأمريكية حول العالم ودور الولايات المتحدة الأمريكية فيه.

ورغم أن العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة تخضع لتأثيرات عديدة من قِبَل قوى مؤثرة كالإعلام، والمراكز الفكرية، ومؤسسات الضغط السياسي؛ إلا أن الناخب يبقى أحد الوسائل المؤثرة التي يصل من خلالها أيّ مرشح إلى المناصب السياسية ودوائر صنع القرار في أمريكا.

ولذلك فإن شخصية الناخب التي تُعبِّر عن الشخصية الأمريكية تساهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في القرارات السياسية في الحياة الأمريكية سواءٌ كانت هذه القرارات متعلقة بالسياسات الداخلية أو السياسات الخارجية التي تؤثر بشكل مباشر على شعوب العالم.

كما أن السياسي الأمريكي هو جزء من البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها، ومن ثم فإن سمات الشخصية الأمريكية تترك آثارها وبصماتها على قراراته السياسية وميوله الفكرية أيضاً.

إن هدف هذا البحث هو التعرُّف على ملامح الشخصية الأمريكية، وخاصةً في الجوانب ذات التأثير المباشر على الحياة السياسية وصناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية. وليس هدف هذه الدراسة التركيز على جانب واحد من جوانب الشخصية الأمريكية، وإنما محاولة تقديم رؤية متوازنة، وعادلة، وواقعية لهذه الشخصية من مختلف جوانبها، والآثار السياسية للسمات المشتركة لهذه الشخصية.

٢ - الشخصية الأمريكية:

من هو الأمريكي؟

المهاجر لا يقرر فقط الذهاب إلى مجتمع جديد، ولكنه يقرر ابتداءً التخلي عن مجتمع عاش فيه أجداده ونشأ وتَرَبَّى فيه. المهاجر يقرر التغاضي عن الماضي، والثقة في المستقبل بدلاً من الحاضر (١) ، ولذلك لا بد مِنْ تفهُّم لماذا يقرر إنسان ما الهجرة، ولماذا قرر الأمريكيون الأوائل ترك القارة الأوربية؟ وكيف شكل ذلك التركيبةَ النفسية للشخصية الأمريكية المعاصرة، وجعلها شخصية مختلفة اختلافاً واضحاً عن الشخصية الأوروبية؟

التكوين النفسي للمهاجرين الأوائل:

ترك الأمريكيون الأوائل أوروبا لأسباب عديدة: بعضهم كانت تلاحقه الديون، أو جرائم ارتكبها وقرر الفرار إلى العالم الجديد؛ للتخلص من ذلك، وبعض من البروتستانت انتقل إلى أمريكا ليحفظ نفسه من الاضطهاد الديني الذي كان يعانيه البروتستانت على يد الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية، أو الكنيسة الإنجليكانية في بريطانيا. وهاجر الكثير من الكاثوليك الأسبان أيضاً لرغبتهم في إقامة مملكة الرب في العالم الجديد.

المهاجرون الأوائل إلى أمريكا لم يتركوا أوروبا، ولكن أوروبا تركتهم أيضاً. كانوا لسبب أو آخر منبوذين من المجتمع الأوروبي أو ظنوا ذلك. ولذلك جاء الجميع إلى أمريكا لكي يتخلصوا من قيود التركيبة الاجتماعية الأوروبية.. جاؤوا ليمارسوا دينهم بحرية، أو لا يمارسوه على الإطلاق.

بين الجغرافيا والتاريخ:

حبا الخالق أمريكا بالكثير من الجغرافيا، والقليل من التاريخ؛ فأمريكا بلد غني في الموارد بلا حدود، وخفيف في أثقال التاريخ وحمولاته، وهو ما لم يتمتع به غيرها. ويرى (محمد حسنين هيكل) في تحليله للشخصية الأمريكية أن ذلك منح الأمريكي اطمئناناً إلى وفرة مادية طائلة، ثم إنه أعفاه من وساوس تاريخية ينوء بها العديد من الأوطان أو البلدان الأخرى.

فأمريكا بلد بلا تاريخ يذكر، ولكنها ذات واقع وامتداد جغرافي يعوضها عن نقص التاريخ. ولذلك فإن النظرة الأمريكية بالعموم تقلل من شأن التاريخ، وتعظم من قيمة الموقع، والحدود، والجغرافيا. ليس مهماً تاريخ الصراع حول أي قضية؛ ولكن المهم أن يترجم هذا الصراع إلى واقع جغرافي أو شيء واقعي آخر. التاريخ ليس إلا ماضياً لا قيمة حقيقية له في حياة المواطن الأمريكي، أو في السياسة الأمريكية.

ولذلك عندما أراد الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) حل معضلة القدس رأى أنه من صالح العرب أن يتركوا القدس لإسرائيل، وإذا كان العرب والمسلمون على تصميمهم بأن «القدس عربية» فإنه في مقدورهم تغيير اسم قرية قريبة وراء التل ـ هي أبو ديس ـ لتسمى «القدس» ـ وميزتها أنها على بعد كيلو مترات قليلة من القدس الأصلية أمام التل» . ثم يضيف: «إنهم فعلوا كثيراً في أمريكا؛ فهناك مدن كثيرة في أمريكا اسمها «القدس» ، وهناك مدن اسمها «القاهرة» ـ «والإسكندرية» ـ و «بيروت» !» .

الدين والمهاجرون الأوائل في أمريكا:

كان الدين أحد المحركات الهامة للحركة الاجتماعية للمهاجرين الأوائل للعالم الجديد. وعرفت طائفة البيوريتانيين «التطهيريين» التي فرت من اضطهاد الكنيسة الإنجليزية إلى القارة الأمريكية بأنها وضعت مرضاة الرب ضمن أهم اهتماماتها لنشأة المجتمع الجديد.

كما آمن البيوريتانيون بفكرة «الشعب المختار» وأن هدفهم هو إقامة أرض ميعاد جديدة، وأن رحيلهم من إنجلترا يعد خروجاً توراتياً جديداً. وبسبب فكرة الشعب المختار حدثت أكبر مجازر التاريخ في القارة الأمريكية؛ فمن أجل أن تسود مملكة الرب فلا بد من استئصال كل من يواجهها.

وتحول الدين في أمريكا تدريجياً ليصبح خادماً للإنسان الأمريكي وللمشروع الأمريكي. وكما يقول (هارولد بلوم) في كتابه (الدين الأمريكي) : «فإن المسيحية الأمريكية تجربة نفعية براجماتية أمريكية، وإن (يسوع الأمريكي) أقرب لما هو أمريكي مما هو مسيحي» (٢) .

٣ - الأمريكي في مقابل الأوروبي:

هل يوجد «شخص غربي» ؟

كثيراً ما ينظر المراقبون والمحللون في العالم العربي إلى الشخص الأمريكي والشخص الأوروبي على أنهما نموذج واحد يمكن أن يطلق عليه «الشخص الغربي» ، وقد يكون هناك بعض الصحة في الجوانب الاجتماعية والأخلاقية. أما في النواحي الفكرية والثقافية والرؤى العامة للحياة، فإن الفوارق بين الشخصيتين تجعل من غير المقبول جمعهما معاً تحت أي إطار واحد. ولعله من المناسب في هذا المقام ذكر بعض أمثلة التناقض بين الشخصيتين.

الأولويات العامة:

الأوروبيون يهتمون بلهجة المتكلم التي تدل على طبقته الاجتماعية، ودينه الذي يحدد هويته، وخلفيته العرقية التي تحدد مكانته. أما الأمريكيون فيهتمون بالقوة المالية للإنسان، وعلاقاته وقدراته الشخصية، ويعتبرون اللكنه أو الدين أو الطبقة الاجتماعية من توافه الأمور.

فرغم أن الصورة النمطية للجنوب الأمريكي مثلاً سلبية في الغالب في المجتمع الأمريكي، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيراً على فرص (كارتر) و (كلينتون) في النجاح رغم أنهما جاءا من ولايات الجنوب، ولم يحتج أي منهما إلى تغيير لهجته المعروفة في كلماته، بينما اضطرت (مارجريت تاتشر) قبل الانتخابات البريطانية في أواخر القرن الماضي إلى تعيين مدرب لغوي خاص ليساعدها على التخلص من «لكنه الطبقة العمالية» لكي تتمكن من إقناع البريطانيين بقبولها مرشحاً لرئاسة الوزراء رغم أنها كانت من خريجي إحدى أشهر جامعات بريطانيا.

الإبداع والابتكار:

الأوروبيون يعشقون ابتكار النظريات.. أما الأمريكيون فيعشقون تطبيق الأفكار وتحويلها إلى واقع معاش. أوروبا أفرزت في القرن الماضي النازية والفاشية والاشتراكية، وكلها نظريات لم يكتب لها النجاح؛ وذلك من الخير للبشرية.

أما الأمريكيون فقد أخذوا الأفكار الأوروبية الناجحة في كل المجالات، وأحسنوا استثمارها بكل الطرق الاقتصادية والتجارية والنفعية لكي تتقدم أمريكا إلى الأمام.

فعندما ابتكرت أوروبا النسبية حولتها أمريكا إلى قنابل نووية ومفاعلات ذرية، ولمَّا ابتكرت أوروبا الفكر الرأسمالي حولته أمريكا إلى مشروع متكامل للهيمنة على العالم اقتصادياً.

وحين ابتكرت أوروبا محركات الدفع النفاث حولتها أمريكا إلى صواريخ وأسلحة تهدد البشرية بالفناء، وسفن فضاء قادرة على اختراق الغلاف الجوي واكتشاف الفضاء. الشخصية الأمريكية تبحث عن تنفيذ الأفكار، أما الشخصية الأوروبية فإنها تتمحور حول الابتكار والإبداع.

الشخصية الأمريكية والقوة:

الشخصية الأمريكية تعشق القوة، بل تعبدها، وتقلل من شأن القيم والمبادئ في الحياة مقابل القوة، ولا يعني ذلك أنها تمثل مجتمعاً بلا مبادئ ولكنها تلي القوة.

الأمريكي الأول استخدم البندقية لحل كل مشكلاته وحتى وإن كانت سبباً في جر الويلات عليه. واستمر الأمريكي ينظر إلى البندقية أنها الطريق الأمثل للأمان ولحل المشكلات. فهو قد فر من قارة كانت تضطهده، وتحتقره، وتذكره دائماً بالضعف لسبب أو آخر. وعندما جاء إلى أمريكا ضعيفاً هائماً خائفاً أصبح الحصول على القوة نهماً نفسياً لا يرتوي الإنسان الأمريكي منه أبداً.

وفي المقابل فإن الأوروبي يعاني من عقدة الذنب عندما يتحدث عن القوة؛ فعندما اجتمعت للأوروبيين القوة حاولوا تدمير العالم مرتين، وكان من ضحايا الحروب العالمية التي أثاروها عشرات الملايين من القتلى. ولذلك أصبح الأوروبيون يخافون من امتلاك القوة بينما يعشقها الأمريكيون.

ومن أجل ذلك يتغنى الأوروبيون اليوم بالمبادئ الدولية، وحقوق الدول، بينما تاريخهم يشهد أنهم داسوا على كل هذه الحقوق عندما اجتمعت لهم القوة ولم يحسنوا استخدامها. الأمريكيون لا يعانون من تلك العقدة بعدُ.

إن حب استخدام القوة في الشخصية الأمريكية ساهم في قبول فكرة احتلال العراق، ولا يعني ذلك أن الأوربيين لم يكونوا يفكرون أيضاً في الاستفادة من اهتزاز الوضع السياسي في العراق. الكل كان يسعى إلى نهبها، وإن اختلفت الطريقة تبعاً لشخصية الجهة التي تسعى نحو نهب خيرات أمتنا.

وبالمجمل، فيمكننا القول إن القوة هي عقدة الذنب الأوروبية، بينما المبادئ هي عقدة الذنب الأمريكية.

العِلم الأمريكي والفن الأوروبي:

وحتى في المهارات الإبداعية تجد أن الشخصية الأمريكية تقدم القوة على الإبداع، وهذه ملاحظة عامة لا تخلو من استثناءات، ولكن يلاحظ إجمالاً اهتمام الرياضي الأمريكي مثلاً بالقوة البدنية، بينما يهتم الرياضي الأوروبي بالمهارة.

الموسيقي الأمريكي يتقن العزف على الآلات ويتمتع بالمهارة في ذلك، أما الأوروبي فيهتم أكثر بالحس الموسيقي، والإلهام الفني، وينمي حاسة الابتكار والإبداع. كنائس أوروبا جميلة التصميم، مبهرة في الاهتمام بالتفاصيل الجمالية، أما كنائس أمريكا فهي ضخمة في الحجم ومتقدمة في التقنيات. الأمريكي يحوِّل كل شيء في الحياة إلى عِلم يبنى على خطوات وبرامج محددة. أما أوروبا فإنها تمثل العالم القديم في تقدير الفن والمهارة الشخصية في الإبداع.

بين الماضي والمستقبل:

الشخص الأوروبي يرى أن التاريخ خير معلِّم للتعامل مع شعوب العالم، بينما يرى الشخص الأمريكي أن التلويح بالمستقبل الأفضل هو أفضل إغراء يمكن أن يقدم لشعوب العالم. الأوروبي يحيا في الماضي؛ فقد كانت أوروبا فيه سيدة العالم بينما يحيا الأمريكي في المستقبل؛ فلم يكن له ماض مشرف، والمستقبل خير وسيلة لمحو خطايا الحاضر.

الدين ومشروع العلمانية بين أوروبا وأمريكا:

أوروبا أقامت مدنيتها المعاصرة على اصطناع العداء مع الدين، أي دين؛ بينما قامت العلمانية الأمريكية على توظيف الدين وإحالته إلى عمل دعائي إعلامي يخدم مشروع العلمانية الأمريكية.

لقد تحول الدين في الولايات المتحدة إلى سلعة رائجة للكسب المادي، لجميع من يتاجر فيه من قساوسة، وسياسيين، وناخبين. الدين في أمريكا أصبح خادماً للعلمانية ومروجاً لها بدلاً من أن يكون حكماً على فسادها، أو حتى معادياً لها كما هو الحال في العالم القديم.

٤ - الشخصية الأمريكية، وآثارها السياسية:

الفردانية:

تقدس الشخصية الأمريكية حقوق الفرد، وما قد يستتبع ذلك من طغيان الحق الفردي على الحق الجماعي، ولذلك نشأت فكرة الفردية أو ما يسمى Individualism، وأصبح الفرد أهم من المجتمع في الحياة الأمريكية المعاصرة.

ونجحت الإدارة الأمريكية الحالية في إبراز مساوئ الفردانية الأمريكية من خلال إهمالها لرغبات العالم أجمع، بل تحديه تحدياً سافراً في أكثر من مجال من بينها حقوق الإنسان، والحفاظ على البيئة، والعمل العسكري في العراق، وغير ذلك كثير. ويمكن مقاومة هذه النزعة الفردانية من خلال إبرازها، والتعاون والتحالف مع القوى العالمية في مقاومتها.

الشعور بالاستثنائية:

الشعب الأمريكي يشعر دائماً أنه استثناء من كل قواعد الكون، وأنه قادر على القيام بما يعتبره الآخرون مستحيلاً.

كتب الروائي الأمريكي (هيرمان ملفيل) ، في القرن التاسع عشر عن الاستئنائية الأمريكية فقال: «نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب؛ والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير. ونحن نشعر في مكنون أنفسنا بالقدرة على فعل الكثير. بات لزاماً على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة. إننا نحن الطليعة ننطلق إلى البرية لنقَدم ما لم يستطع تقديمه أحد» .

ولذلك نشأت فكرة الاستثنائية في العقل الجمعي الأمريكي، وما يصاحب ذلك من الرغبة المستمرة في التجريب حتى وإن كان ذلك يعني العبث بشعوب العالم؛ فما دامت الغاية تناسب أمريكا، فلا بأس أن تكون الوسيلة بشعة أو لا إنسانية؛ فأمريكا استثناء من كل قاعدة، ولا تمانع من الجمع بين المتناقضات.

ولهذه الاستثنائية آثار سياسية متعددة ومستمرة، ويكفي أن موقف الإدارة الأمريكية الحالي ومعظم أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ يصب في هذا الاتجاه. والتقرير المعبر عن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية الصادر في سبتمبر من عام ٢٠٠٢م ينص بصريح العبارة: «إننا سوف نتخذ الإجراءات الضرورية لضمان أن جهودنا للتصدي لاهتماماتنا بالأمن العالمي لن يتم إعاقتها باحتماليات إجراء تحقيقات، أو مساءلات، أو اتهامات من قِبَل محكمة الجرائم الدولية» (١) .

النفعية والبرجماتية:

بدأ الأمريكي رحلته في العالم الجديد بفكرة أن كل وسيلة تصل به إلى غايته فهي له ومن حقه أن يستخدمها. وشمل ذلك سرقة الأطفال، وبيعهم في سوق الرقيق، واتخاذهم عمالاً، أو قل عبيداً، وقتل أهل البلد الأصليين، وسلخ جلودهم. كان البديل عن ذلك في نظر الأمريكي هو الخسارة التامة، والموت لمشروعاته وله، وهذا هو عين الشر. وتهاوت في العالم الجديد قيمة الأنساب، والأحساب إلا أن تكون القيمة كل القيمة في عمل يتيه المرء بنفسه متحملاً تبعاته نجاحاً، أو إخفاقاً (٢) .

وأصبحت السياسة الأمريكية أيضاً انعكاساً لهذه الشخصية الأمريكية التي تقدم مصالحها على كل أحداث العالم ومصالح الدول الأخرى.

كتب (جورج كينان) الذي كان يشغل منصب رئاسة إدارة الدولة للتخطيط عام ١٩٤٨م: «نحن نملك ٥٠% من ثروات العالم، ولكننا لا نشكل أكثر من ٦.٣% من سكان الأرض، وفي مثل هذا الوضع يبدو أنه لا مناص من أن نكون موضع غيرة، وحسد الآخرين. علينا التوقف عن الحديث عن مواضيع غامضة، أو غير ممكنة التحقيق تتعلق بالشرق الأقصى مثل حقوق الإنسان، أو تحسين مستوى المعيشة، أو إحلال النظام الديمقراطي. ولن يكون بعيداً اليوم الذي سنجد فيه أنفسنا مضطرين للتحرك بصراحة من خلال علاقات القوة. وبقدر ما يكون ارتباكنا بسبب الشعارات المثالية أقل، بقدر ما يكون ذلك أفضل» (٣) .

وعبر عن هذا الفكر النفعي مؤخراً الرئيس الأمريكي (جورج بوش) عندما قال: «لا يجب أن نتدخل في كل حالات العنف الإجرامي ... إن أيديولوجيات الأمة يجب أن لا تتعارض مع مصالحها» .

التناقض:

هناك تناقض مزمن في الشخصية الأمريكية، وقد ركز عليه الكاتب الفرنسي (توكفيل) في نقده للنموذج الأمريكي للديمقراطية.

وكما وصفها (سيرجيو ليون) ، فإن أمريكا كانت دائماً طيبة، وسيئة، وقبيحة.. مثالية، منافقة، وواقعية في الوقت نفسه. فهي خليط عجيب من المتناقضات تحيا معاً في نفس واحدة، ومجتمع واحد.

إن السياسة الأمريكية في بعض الأحيان تعكس التناقض في الشخصية الأمريكية، أو محاولة الجمع بين المتناقضات في الحياة. وإلا فكيف يمكن تفسير حيازة الأسلحة النووية، ثم العمل على الحد منها حتى في أمريكا نفسها؟ وكيف تكون أمة تؤمن بالتنوع، ثم تسعى إلى فرض قيمها على العالم؟ كيف تبدو أمة تسعى إلى قيادة العالم، ولكنها تظهر وكأنها غير مكترثة لهذا العالم، وتأمل أن يبتعد هذا العالم الذي تريد أن تقوده عنها؟ كيف يمكن الجمع بين فخر الأمريكي بمثاليته، وإصراره في الوقت نفسه على نفعيته..؟ كل ذلك لا يجتمع إلا في الشخصية الأمريكية؛ التي تتصارع داخلها المتناقضات.

معضلة الحرية:

الحرية الأمريكية معضلة تاريخية كبرى. بعضهم يشعر أن المجتمع الأمريكي يتمتع بمساحات من الحرية، لا يتمتع بها شعب آخر من العالم. وفي المقابل تجد من يرى أن الحرية الأمريكية وَهْمٌ كبير، وأن الشعب الأمريكي قد تمت إعادة تشكيل عقله إلى الدرجة التي جعلته وهو حر غير مقيد يختار دائماً ما أراد له السادة أن يختار، ومن ثم فهو قد فقد الحرية قبل أن يمارسها، أو قل وهو يمارسها؛ لأن عقله قد تم تدريبه وصياغته لكي يختار وفق رغبات السادة، وليس رغبات الإنسان. وهي فكرة يصعب تصديقها، ولكن شواهدها في الواقع الأمريكي أكثر من أن تغفل أيضاً.

وفي مقال كتبه أحد أبرز علماء الاجتماع الأمريكيين في بداية القرن الماضي وهو (بيرس) بعنوان: «تثبيت الاعتقاد» ونشره في مجلة The Popular Science Monthly وذلك في عام ١٨٧٨م، يقول فيه: «إذا كانت المعرفة حسب النظرة البراجماتية مستحيلة، إذن كيف للإنسان أن يعمل؟ إن الإنسان يريد أن يعيش، وله هدف يسعى إليه؛ فكيف الوصول؟ وما هي الوسائل المؤدية إلى الغاية المنشودة؟ سبيله الوحيد والأوحد إلى ذلك أن يعمل بناء على اعتقاد. وكيف نمنع الناس من الاعتقاد فيما هو خطأ؟» .

يصف (بيرس) منهج السلطة في تكوين الاعتقادات الملائمة لها، وهو من أهم ما كتب عن دور السلطة في التحكم في معتقدات الأفراد عن طريق الإعلام، والعبث بالرأي العام، ثم ترك الأشخاص يختارون بحرية مزيفة، فيقول: «لندع إرادة الدولة تعمل بدلاً من إرادة الفرد، ولننشئ مؤسسة هدفها أن تضع نصب أعين الناس مذاهب صحيحة تجعلهم يرددونها ويكررونها دائماً، وأبداً دون انقطاع، ويلقنونها للصغار، وأن تكون لها في ذات الوقت القدرة على حظر تعليم أي مبادئ معارضة، أو التعبير عنها، أو الدعوة إليها. ولنعمل على محو كل الأسباب التي يمكن أن تُحدث تغييراً في أذهان الناس. لِنُبْقِ عليهم جهلاء حتى لا يتعلموا لسبب ما التفكير في شيء آخر غير ما اعتادوا عليه، ولنعبئ عواطفهم على نحو يجعلهم ينظرون في كراهية وفزع إلى الآراء الخاصة وغير المألوفة، ولنجعل كل أولئك الذين ينبذون الاعتقاد الرسمي يلزمون جانب الصمت في هلع، ولندفعْ بالناس لكي يمزقوا هؤلاء، أو لنُجرِ تحريات وتحقيقات عن طريق تفكير المشتبه فيهم. وإذا تبين أنهم مذنبون وآمنوا بمعتقدات محظورة، فلنوقع عليهم عقوبة ما. وإذا لم تحقق توافقاً كاملاً في الآراء بهذه الطريقة، فلنبدأ مذبحة لكل من لم يفكر على النحو الذي ثبتت فعاليته؛ لحسم الآراء في البلاد» .

إن معضلة الحرية الأمريكية هي أن الأمريكي حر، ومقيد في آن واحد: حر في أن يفعل ما يشاء خاصة في أمور الترويح والملذات الشخصية، ومتع الحياة، ولكنه مقيد في الحياة العامة من خلال آلة إعلامية مُسيَّرة من قِبَل صناع القرار الحقيقيين الذين يوجهون الإنسان دائماً في أمريكا نحو خيارات لا تعبر بالضرورة إلا عن رغباتهم، وذلك من خلال سياسات إعلامية وفكرية دقيقة، ومقننة، ومنظمة تم تحسينها، وإتقانها عبر عشرات السنين من العمل الإعلامي الدؤوب.

لقد نشر عالم الاتصال الأمريكي (بول بوستمان) في كتابه «الإعلام الأمريكي.. تسلية حتى الموت» مقارنة بين رؤيتين لمستقبل الحرية في أمريكا: الأولى: كانت رؤية (جورج أورويل) في كتابه ١٩٨٤م، وفيها يتوقع (أورويل) سيطرة السلطة على حريات الأفراد. أما الرؤية الأخرى: فكانت للكاتب الأمريكي (الدوس هكسلي) في كتابه «العالم الجديد الشجاع» ، ويرى فيها أن أمريكا ستغرق في التفاهة والسطحية.

يقول (بوستمان) في مقارنته: «إذا لم يكن كابوس (أورويل) قد تحقق في ١٩٨٤م، فإن نبوءة (هكسلي) قد تحققت. نعم! لم يظهر الرقيب الطاغية من السلطة Big Brother، الذي يفرض علينا ما يريد؛ لأننا لم نعد بحاجة إلى من يسلبنا استقلالنا ونضجنا وتاريخنا. لقد عشق الناس ـ كما تنبأ (هكسلي) ـ الكبت، ونجحت التقنية في إلهائهم، وإلغاء قدرتهم على التفكير. (أورويل) كان يخشى ممن يحرموننا من المعلومات، أما (هكسلي) فقد كان يخشى من أن تغرق الحقيقة نفسها في بحر من الهراء، والتفاهات. كان (أورويل) يخشى أن نتحول إلى حضارة أسيرة.. أما (هكسلي) فقد كان يخشى أن نتحول إلى حضارة تافهة. في قاموس (أورويل) يكون سلاح السيطرة هو الألم.. أما عند (هكسلي) فإن سلاح السيطرة هو اللذة. في كتاب (أورويل) سنكره من يدمرنا، أما عند (هكسلي) فإننا سنحبه» .

الميل الدائم نحو التوسع:

يميل الشعب الأمريكي إلى التوسع الدائم في كل شيء، وأي شيء. وقد يظهر هذا وكأنه خلق طبيعي بين البشر، إلا أن من يتعرف على الحياة الأمريكية من الداخل يعرف أن الإنسان الأمريكي يعشق التوسع لذات التوسع، وليس لما قد يجلبه من راحة أو رفاهية.

وحاول السياسيون منذ بداية تاريخ أمريكا، ومغامراتها التوسعية ترسيخ مبدأ الحق في التوسع عالمياً، من خلال المواقف الرسمية المعلنة للإدارات الأمريكية المتعاقبة.

فالتوسع مزاج نفسي للشخصية الأمريكية وليس استراتيجية سياسية أو طموح شخصي فقط. والتوسع للأمريكي هو ثمرة التزامه بالحرية والفردانية معاً، وبدون نمو متواصل لهما فإنه يشعر أن حريته مقيدة. ولذلك فإن وضع حواجز، أو قيود أمام التوسع الأمريكي قد يفسر من قِبَل الشخصية الأمريكية على أنه هجوم على حريتها، ولذلك لا تستطيع التسامح مع ذلك.

ولذلك قام (ستفين إيه دوجلاس) بتذكير مجلس الشيوخ الأمريكي عام ١٨٥٨م بهذه الحقيقة قائلاً: «إن أمريكا أمة شابة ونامية، تعج مثل خلية النحل، وكما أن النحل في حاجة إلى الخلايا ليتجمع وينتج العسل، أقول لكم: إن التكاثر والتضاعف والتوسع هو قانون وجود هذه الأمة» (١) .

إن أمريكا لم تتوقف عن التوسع المكاني حتى أوقفتها الحدود الطبيعية بين المحيطين، وانتقلت بعدها إلى مشروع جديد من التوسع العسكري، الذي تصادم مع المعسكر الشرقي، ومع أطماع أوروبا في التوحد، ومنافسة الهيمنة الأمريكية، وعادت أمريكا لتمارس نوعاً جديداً من التوسع، الذي يمكن أن يطلق عليه «التوسع التجاري» ، وهو ما يحياه العالم في الأعوام الأخيرة تحت دعاوى العولمة، والتجارة الحرة.

وقد بدأ التخطيط للتوسع التجاري منذ منتصف القرن التاسع عشر استناداً لمبدأ مونرو (١٨٢٣م) للغزو والتوسع غرباً، وجنوباً، ومناداته بثالوث الحرية: حرية الملاحة البحرية في الأطلسي، حرية النفاذ إلى الأسواق الأوروبية لتصريف منتجاتهم، وحرية التجارة والتمركز في كافة أنحاء العالم الجديد، وهو ما أصبح أحد المبادئ المحركة للسياسة الخارجية الأمريكية منذ ذلك الحين.

العنف والبندقية:

بدأت أمريكا كمشروع استيلاء ونهب قارة بأكملها من أهلها الأصليين، ولذلك لم يكن هناك بديل عن البندقية، والعنف لتحقيق الهدف في أقصر وقت ممكن، وبأقل جهد.

وأصبح امتلاك السلاح، واستخدامه، كوسيلة لحل المشكلات عادة أمريكية تأصلت حتى أصبح عدد قطع السلاح في الولايات المتحدة يتجاوز عدد السكان، وأصبح العنف نموذجاً للحياة في بلاد الحضارة.

واستمر المسدس يحكم علاقات الأمريكيين مع العالم، ومع أنفسهم أيضاً. وانتشر العنف ليصبح ظاهرة فريدة في المجتمع الأمريكي بين كل المجتمعات الغربية والشرقية معاً.

ولذلك ليس بعجيب أن يجاهر بتقنين العنف سياسي مخضرم مثل (ثيودور روزفلت) الذي يقول: «إذا لم نحتفظ بصفات البربرية فإن اكتساب الفضائل الحضارية سيكون قليل الجدوى» (٢) .

ويؤكد (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأمريكي في الإدارة الحالية على الرغبة المستمرة في استخدام السلاح لحل كل المشكلات عندما يحدد سياسة وزارة الدفاع الأمريكية قائلاً: «ينبغي منع أية قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل من هذه القوة قوة عظمى. كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول الصناعية المتقدمة إزاء أية محاولة منها لتحدي زعامتنا، أو لقلب النظام السياسي والاقتصادي القائم، كما علينا التنبه، والتوقع لأي بروز محتمل لمنافس لنا على مستوى العالم» . والسؤال الهام هنا هو: ما شأن وزارة الدفاع الأمريكية بمصالح الدول الصناعية، أو مناطق الثروات؟ أليس هدف الدفاع الأمريكي هو فقط حماية الأراضي الأمريكية، أم أن البندقية الأمريكية لا تزال هي وسيلة التعامل مع كل مشكلات الدنيا؟

المبادئ أم القوة؟

«لا تحدِّث السياسي الأمريكي عن المبادئ عند الدفاع عن قضيتك؛ فهو قد ضحى بالكثير من المبادئ كي يصل إلى كرسي السياسة الذي دعاك للحديث إليه. إن حديثك عن المبادئ يوقظ في السياسي الأمريكي مشاعر الخجل والإحساس بالنقص، ولذلك يتململ، ويبحث عن أية فرصة للهروب من هذا الحديث المزعج.

أما إن حدثته عن القوة في الدفاع عن قضيتك سواء كانت عادلة أم لا.. اهتم بحديثك؛ لأنه لا يستشعر الذنب تجاه استخدام القوة، أو اللجوء إليها لخدمة أي قضية سواء كانت عادلة، أم لا. المهم أن تكون مقنعاً ليس أن تكون عادلاً. وليس مهماً أن تكون قضيتك منصفة، أو أن تكون أنت على صواب فيما تعتقد.. المهم أن تجمع لقضيتك كل عناصر القوة، وأن تكون مستعداً للتضحية من أجل ذلك» (١) .

كل شيء يمكن أن يُشترى:

يعتقد الأمريكي أن كل شيء من الممكن شراؤه في عالم اليوم، وعالم الأمس أيضاً. لم يرهق المجتمع الأمريكي نفسه في إعادة اختراع الأشياء، أو محاولة الابتكار دون داع. نظر الأمريكي الأول إلى العالم، ونقل، واشترى كل ما يريد، أو اغتصبه.. ليس مهماً تفاصيل ذلك؛ المهم أن الهدف قد تحقق. ذهب الأمريكي إلى أوروبا واشترى، وعاين ما وجد أمامه، واختار ما رآه نافعاً ـ مفيداً ـ أو حلواً، وكان له ما أراد بغير موانع.

ولذلك فالسياسة الأمريكية اليوم تحاول دائماً شراء ما تريد إن لم تستطع أن تغتصبه. وهذا ما جرى مثلاً في صفقة تسليم الرئيس الصربي السابق «سلوبودان ميلوسوفيتش» ، وكانت الصفقة بيعاً وشراء ـ تسليماً وتسلُّماً ـ قيمتها بليون دولار. وكان نصيب الولايات المتحدة الأمريكية النقدي في الصفقة ١٨٢ مليون دولار ـ لكن الصفقة جرت تحت إشرافها وإدارتها.

وعندما احتاجت أمريكا في نشأتها إلى العمالة الرخيصة، جمعت أيضاً بين الاغتصاب والنهب، وبين الشراء إن لم يتيسر النهب.

التعاطف مع المنبوذين:

ومن الآثار السياسية للشخصية الأمريكية ما يتعلق بالتعاطف الفطري للشعب الأمريكي مع المنبوذين. فالعقل الجمعي الأمريكي يرى أن المنبوذ ضمن ثقافة معينة، أو مجتمع ما يمر بنفس ما مرت به أجيال المهاجرين الأوائل إلى القارة الأمريكية، ولذلك فلا بد من التعاطف مع دعوته؛ لأن الأجداد مروا بتجربة مثيلة لها، وقد نجح اللوبي الموالي لإسرائيل في استغلال هذه النقطة؛ فبعض الكنائس الموالية لهذا التيار تعقد الكثير من المقارنات بين بداية الحلم الأمريكي، وبين نشأة دولة إسرائيل؛ فكلاهما قام على شعب غريب مهاجر استوطن أرضاً لا يملكها فراراً من الاضطهاد الأوروبي، ويسعى إلى إقامة حضارة جديدة.

وكلما كانت ظروفك أصعب كلما تعاطف الأمريكيون معك أكثر، ولذلك نجح في اكتساب الصوت الأمريكي المزارع «كارتر» ، واللقيط «كلينتون» ، والممثل المغمور «ريجان» ، والسكير الذي يعيش على ثروة أبيه «بوش» ، وغيرهم كثير في الحياة السياسية الأمريكية.

٥- فهم الشخصية الأمريكية والتأثير على القرار السياسي:

إن حسن فهم الشخصية الأمريكية، ومواطن قوتها وضعفها، ومزاياها السلبية وصفاتها الإيجابية يمكن أن يساهم بشكل هام في وضع التصورات العملية في كيفية التعبير عن قضايانا لدى المجتمع الأمريكي، وكيفية الوصول إلى التأثير على الناخب والمرشح وصانع القرار في الولايات المتحدة، ودفعهم في اتجاه خدمة قضايا الأمة.

التأثير على السياسي الأمريكي:

السياسي الأمريكي يفكر دائماً في مصلحته الشخصية، وليس في قضية أمتنا سواء كانت عادلة أو غير عادلة. وفي حساب مصالحه السياسية والانتخابية، فإنه يقيم الساحة السياسية والقوى الضاغطة فيها، والإمكانيات المالية، والانتخابية المتوفرة لكل قوة ضغط. فإن كانت قوة ضغطٍ ما لا تملك المال، أو الأصوات الانتخابية؛ فهي قوة مهملة بصرف النظر عن عدالة قضيتها. وإن كانت قوة الضغط، أو اللوبي مجهزاً بالمال، وقادراً على حشد الأصوات الانتخابية؛ فهي قوة هامة لا بد أن توضع في اعتباره عند تحديد موقفه من قضيةٍ ما.

التأثير على الناخب الأمريكي:

الناخب الأمريكي ليس هو القوة الوحيدة المؤثرة في صياغة السياسة الأمريكية، ولكنه بلا شك قوة فاعلة؛ ففي النهاية هو الذي يصوت، ويختار مرشحيه في دوائر صنع القرار الأمريكي. ولا يقلل ذلك من دور القوى الأخرى كالإعلام، ومؤسسات الضغط السياسي، والشركات الكبرى.

ومن خلال فهم الشخصية الأمريكية يمكن أن يتم التأثير عليها سياسياً من خلال المحاور التالية:

- العمل من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وتقديم نماذج واقعية، وعملية للشخصية المسلمة المتميزة، مما يقاوم الأثر الإعلامي السلبي في تشويه صورة الإسلام، والعرب، والمسلمين في القارة الأمريكية. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه (معهد زغبي) عقب حرب الخليج الثانية أن طلبة الجامعات الأمريكية هم أكثر فئات المجتمع الأمريكي تعاطفاً مع العرب والمسلمين، وأرجع (معهد زغبي) ذلك إلى كثرة الطلبة العرب والمسلمين في الجامعات الأمريكية.

- الاهتمام بالإعلام المحلي لنقل صور إيجابية عن العرب والإسلام والمسلمين، وخصوصاً الجاليات المحلية. وأهمية ذلك تكمن في أن المواطن الأمريكي لا يهتم كثيراً بالسياسة الخارجية، ولكنه يبدي اهتماماً كبيراً بالأمور المحلية. ولذلك فإن التعبير عن قضايا الأمة من خلال صفحات المحليات في الصحف الصغيرة أبلغ أثراً وأكثر وصولاً إلى القارئ الأمريكي. ويكفي أن نعلم أن عدد قراء الصحف المحلية في اليوم الواحد في أمريكا يتجاوز ٥٥ مليون قارئ مقارنة بـ (٥) ملايين قارئ فقط للصحف القومية الكبرى. كما أن الصحف المحلية لا تخضع للهيمنة الصهيونية الموالية لإسرائيل بنفس درجة الصحف القومية.

التأثير على العملية السياسية:

العملية السياسية الأمريكية مبرمجة، وذات خطوات محددة، ومعروفة مسبقاً لكل من يرغب في المشاركة فيها. ولذلك فنحن لسنا في حاجة إلى الابتكار في هذا المجال، بقدر ما نحن في حاجة إلى الفهم، وحسن استغلال الإمكانات المتاحة لتحقيق أكبر أثر ممكن.

- لا بد للعرب والمسلمين من إيجاد قوة ضغط رسمية داخل العملية السياسية الأمريكية، أي إنشاء لوبي عربي إسلامي يتولى حشد الأصوات، والأموال؛ للتأثير السياسي طويل المدى، وليس التأثير الانفعالي رداً على موقف بعينه أو قرار محدد.

- الشخصية الأمريكية ترحب بالضغط عليها، ولذلك لا بد لنا من الإصرار على مواقفنا، وحشد الآراء لها، والاستفادة من التيارات الأكاديمية الأمريكية في دعم تصوراتنا.

- هناك أهمية كبيرة لإيجاد عدد من المراكز الفكرية، والبحثية المتخصصة في دراسات أمريكا والغرب، ومعرفة طرق التأثير على القرار السياسي الغربي، واستخدام البحث العلمي كأحد وسائل تنظيم المعرفة بالغرب، وحسن استغلالها لما يدفع قضايا الأمة في أروقة السياسة الأمريكية، ويدافع عن مصالحها دولياً وأمريكياً.

٦ - الخلاصة:

لقد توقع (جون آدامز) أن أمريكا سوف تسقط إن آجلاً، أو عاجلاً، كما سقطت دولة إسرائيل الأولى، ويهوذا، وأثينا، وروما؛ لأن أمريكا سوف ترفض عبء الحرية، وتستسلم للانحطاط، والرضا عن النفس، وحتى كراهية الذات، وستدخل بعد ذلك في طور الانحدار والسقوط.

وقد نعيش عقوداً طويلة ونحن في انتظار تحقق نبوءة انهيار، أو انحدار أمريكا، وستعاني أمتنا طوال هذه العقود من جهلنا غير المسوَّغ، وغير المقنع بالشخصية الأمريكية التي تقود مسيرة العالم اليوم. وبدلاً من الانتظار على مقاعد المتفرجين فلعل الطريق الأمثل هو أن نحاول فهم هذه الشخصية، ونتعامل معها بذكاء، وقدرة على الاستفادة من إيجابياتها، وتجنب سلبياتها، وهو ما يستدعي الاهتمام بموضوع الشخصية الأمريكية اهتماماً مستمراً.

إن التعرف المستمر، والمتجدد على شعوب العالم، وأفكاره المختلفة عملية ضرورية لا بد أن يقوم بها الناس ما بين الوقت والآخر، كنوع من الحساب، والمراجعة، والتثبت بالحذف، والإضافة حيال زمن تغير، وواقع يتبدل باستمرار. وإلا فسيكتشف الإنسان في لحظة ما أن الحقائق قد اختلفت، وأن الواقع قد تغير، ونحن قد توقفنا في أحد محطات الماضي في الحكم على الأشخاص والدول والشعوب، وأضحت تصرفاتنا بعيدة كل البعد عن الزمن الذي يحيا فيه العالم، ومن خلاله يعاد صياغة مستقبل البشرية.