من الأدب السياسي
[كوميديا السلام الحامض]
ما وراء " الكوابيس " [*]
زياد الدريس
١- تأبين:
وكالات الأنباء / وكالات السفر والسياحة:
تم ظهر يوم (١٣ سبتمبر ١٩٩٣ م) في البيت الأبيض «إنهاء» القضية
الفلسطينية، حيث أجريت مراسم التوقيع على «حلها وإنهائها» وسط أجواء
«مقدسة» ! ساهم رابين في تأجيجها من خلال تلاوة آيات توراتية من سورة «الانتصار» ، تلاه عرفات بتلاوة آيات عربية من سورة «الهزيمة» !
٢- نسوة في السياسة:
الذين خطبوا أو صرحوا أو كتبوا عن اتفاق السلام بنشوة واحتفالية كانوا لا
يمرون في حديثهم على معارضي الاتفاق إلا ويوسعوهم تسفيهاً وجلداً لموقفهم من
الاتفاق أياً كانت المعارضة فلسطينية أو عربية وكأنهم يصادورن المعارض وبالذات
الفلسطيني في التعبير عن رأيه في وطنه! بل ويتهمونه بالنفعية أو الطوباوية.
ثم ما يلبث هؤلاء المحتفلون في نهاية حديثهم القمعي حتى يكرروا تلك المقولة
الجديدة في قاموس الصراع العربي/الإسرائيلي: فلسطين شأن فلسطيني،
والفلسطينيون وحدهم هم الذين يقررون مصيرهم ومصير وطنهم!
(ما أشبه هؤلاء المثقفين بتلك المرأة التي تلوك عورات جيرانها واحداً تلو
الآخر، ثم تختم مائدتها بقولها: ما لناش دعوة! !) .
* إذا كان هذا موقفكم، فلماذا تؤيدون الاتفاق أو تعارضونه؟
* إذا كانت هذه قناعتكم، فلماذا تقفون غصة في حلوق المعارضين دون
المؤيدين؟
* إذا كانت هذه فلسفتكم، فلماذا تتكلمون؟ !
* أما أنا فمازلت أؤمن بتلك المقولة التي علمتمونا إياها من قبل أيها المتكلمون، إن القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين جميعاً.
* هل تذكرون هذه العبارة / العهد، أنا لم أكفر بها حتى الآن، ولهذا فمن حقي
ومعي المؤمنون الآخرون بها أن نتكلم عن فلسطين.. أما أنتم فلا.
٣ -قال قائل منهم:
قبل طرح أي مشروع أو قرار سياسي عربي، ثق ثقة تامة أن الموقف منه
حتى قبل الاطلاع عليه وتداوله سيكون على النحو التالي:
سيقول المثقفون القوميون: نعم لهذا المشروع، من منطلق السعي نحو
تسوية الواقع العربي، ورفض «المزايدات» !
سيقول المثقفون الإسلاميون: لا لهذا المشروع، من منطلق السعي نحو
تأمين المستقبل العربي ورفض «المناقصات» !
سيقول المثقفون الفلسطينيون: نعم إذا قالت حكوماتهم: نعم، ولا إذا قالت
حكوماتهم: لا، من منطلق: وهل أنا إلا من غزية ... ولقبض جميع
«المزادات» و «المناقصات» ! !
إذاً: القوميون ينظرون إلى «اليوم» لأنهم يبحثون عن الاستقرار
الإسلاميون ينظرون إلى «الغد» ، لأنهم يبحثون عن النصر. السلطانيون
ينظرون إلى «الأمس» لأنهم يبحثون عن مواقف بطولية / خرافية كي يدرجوها
في مشروع «مذكرات سيادة السلطان» !
٤ -وطن على الريق:
آنذاك، حين كانت الشعوب العربية تقاتل من أجل تحرير أراضيها من سنة
١٩٤٨ حتى ١٩٧٣ م، مروراً بكل النكبات والنكسات والنزوات، كان المقاتل
العربي في ساحة المعركة يجرح أنامله ثم يكتب بالدم اسم وطنه على علم بلاده الذي
سيغرسه في ذلك الشبر المحرر!
وهكذا أراد عرفات أن يفعل في ذلك الشبر الفلسطيني الذي حرره في واشنطن، لكن المقام كان مقام سلام لا ينبغي لرائحة الدماء أن تفوح فيه، فما كان من خيار
آخر لممارسة ذلك الطقس الجهادي القديم في هذه الأجواء الحمائمية سوى أن يبلل
عرفات أنامله من «ريقه الناشف» ، ويكتب اسم بلاده على العلم الفلسطيني.
هكذا فعل عرفات، وهكذا ستدوم تلك الفلسطين الجديدة مادام هذا الريق!
٥ -لحية المناضل ومقص الراعي:
أيام كان عرفات مناضلاً ورقياً وقد تحول الآن إلى رئيس ورقي لم يتمالك أحد
الصحفيين أن يكتم الرغبة لديه في أن يسأل عرفات: متى ستتحول طبوغرافية
الوجه العرفاتي من المرحلة البرزخية بين الحليق والملتحي؟ ! .. ومتى سيسلخ
عرفات جلده العسكري، ويلبس بدلة آدمية تنسجم مع نزهاته وعناقاته الدولية؟ !
لم يتوان عرفات في الإجابة، فقد كان ينتظر السؤال منذ قذف آخر موسي
حلاقة، وآخر قميص «تي شيرت» . قال عرفات: ستزول كل هذه الأعراض
«الفيدل كاستروية» حينما تتحرر فلسطين، ويندحر الاحتلال الإسرائيلي عن كل «شبر من أراضينا» .
ومضت الأيام شعرةً شعرةً حتى فتح الناس أعينهم على مشهد (غزة - أريحا)
أولاً، وإذا مساحة المحرر من فلسطين لا تعدل سوى ٢% من مساحة الأشبار
المحتلة. فهل سيحلق عرفات ٢% فقط من لحيته؟ !
وهل سيخلع ٢% فقط من بدلته العسكرية، وليكن الجورب الأيمن أو ليكن
الأيسر، أو كلاهما معاً، فلا اليمين الفلسطيني «المتطرف» ولا اليسار الفلسطيني
«المتطرف» يؤيدان الاتفاق، فما أسعد عرفات بخلعهما معاً!
٦- " ٠٠٠٠٠ ":
مسكينة فلسطين، لقد عاشت وعايشت حقبة طويلة من «المزايدة» ، يوم أن
لم يكن هناك زبون ولا بيع، وربما هي الآن وقد جاء الزبون ليفاوض فإنها تعرض
عبر «مناقصة» فمن يشتري بأقل سعر؟ !
٧- من أشعل الفيروس؟
مرت أزمة الخليج فَطبَعَتْ في الصوت العربي بعامة والخليجي بخاصة خطاباً
قطرياً طامساً لذلك الخطاب القومي الذي كان يطفح في شوارع المدن العربية حتى
قبل الثاني من أغسطس ١٩٩٠م، وكان مدهشاً حقاً ذلك الانقلاب السريع في اللغة
والعلاقة بين العرب، وكان التساؤل الذي يهتك صمت المجالس العربية هو: هل
ستدوم هذه الوعكة القطرية طويلاً؟ أم ستكون كغيرها من الوعكات العربية المتتالية
التي ما تلبث أن تنجلي لتفسح المكان لوعكة جديدة!
مهما كانت التخمينات للوعكة الشفائية القادمة، فلم يكن أحد يتصور أنها
ستكون إسرائيل.
لقد بدأ اللسان العربي يتهجى من جديد اللغة الإقليمية من خلال فكرة السوق
الشرق أوسطية، بمشاركة تركيا وإيران وإسرائيل «فيروس الوعكة الجديدة» .
وفي خضم هذه الأعراض كان يخترق الذاكرة العربية في غيبوبتها المحببة
سؤال نزق: هذه الدول العربية التي اتكأت على شجرة العزلة كأنها لم تأمن بعضها، هل ستأمن إسرائيل على نفسها؟ !
٨- يا «سلام» سلم:
«رفع المقاطعة العربية» .. «السوق الشرق أوسطية» .. «إعادة توزيع
الموارد والثروات في المنطقة» ، السباق الأمريكي/ الإسرائيلي المحموم نحو
تحقيق وإنجاز هذه الإجراءات السلمية بأسرع ما يمكن، يجعلنا نتساءل: هل كانت
عملية السلام هذه منعطفاً أرادته إسرائيل لتغيير الحرب معنا من حرب عسكرية
«باردة» إلى حرب اقتصادية «ساخنة» ؟
٩- النكثة:
إذا كانت الأمة العربية قد مرت في صراعها مع إسرائيل ضمن ما مرت عليه
من قاموس الإخفاق بالنكبة والنكسة في منعطفات صراعها المزمن فإنها الآن تمر
وضمن القاموس إياه بمنعطف جديد يمكن أن يسمى: النكثة!
ففي هذا المنعطف تم نكث كل الوعود والعهود التي عقدت عربياً وعالمياً في
نخب فلسطين:
* استعادة كل الأراضي الفلسطينية «السليبة» .
* طرد دولة إسرائيل «الدخلية» من خريطة العالم العربي.
* المقاطعة العربية التامة مع إسرائيل سياسياً واقتصادياً حتى ينجلي الاحتلال
عن كل شبر فلسطيني.
* إعادة الشعب الفلسطيني اللاجئ والنازح والمهاجر إلى وطنه.
* تنفيذ القرارات الدولية ٢٤٢، ٣٣٨، ٤٢٥، وجميع قرارات هيئة الأمم
التي توشك الآن بجهود أمريكية وإلحاح إسرائيلي وهوان عربي أن تُرمى جميعها
في زبالة النظام العالمي القديم!
١٠- كيمياء السلام:
خرج مشروع (غزة أريحا أولاً) من مرحلة البروتوكولات إلى مرحلة
المنازعات ومطاردة التفاصيل بين متاهات التعميم الذي ساد بنود المشروع في
جانب الحقوق الفلسطينية، ويبدو من متابعة أولية لهذه المطاردات أن تفاعلات
السلام ستعطي المعادلة التالية:
مشروع (غزة - أريحا أولاً) + (لا للقدس) ثانياً + غليان/الفيضان
«غاز» أولاً + ريحة «ثانياً» + مشروع (لا للقدس) + (H٢O) !
١١- قراءات في الفنجان اليهودي:
(إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست
ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزقت دولة
الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن) ! !
السلطان عبد الحميد الثاني
(وسرعان ما أدركت أن أسلوب اليهود في الجدل يقوم على قواعد خاصة بهم، وهو اعتمادهم في أول الجدل على بلاهة خصمهم، فإذا لم يتمكنوا منه تظاهروا
هم بالغباء فيستحيل على خصمهم أن يأخذ منهم أجوبة واضحة) !
أدولف هتلر
(تغلغل اليهود في ديارنا.. ونحن راجعون..
صاروا على مترين من أبوابنا.. ونحن راجعون..
ناموا على فراشنا.. ونحن راجعون..
وكل ما نملك أن نقوله: «إنا إلى الله لراجعون» !)
نزار قباني
(أخي إن ضج بعد الحربْ ... «يهودي» بأعمالهْ
وقدّس ذكر من ماتوا ... وعظم بطش أبطالهْ
فلا تهزج لمن ساروا ... ولا تشمت بمن دانا
بل اركع خاشعاً مثلي ... لنبكي حظ موتانا)
ميخائيل نعيمة
١٢- الكاوبوي «كلينتون» :
الذين تابعوا تفاصيل الاتفاق وإعلان المبادئ، وحذافير لقاء التوقيع بزعامة
كلينتون، لم يمسكوا بأيديهم سوى حقيقة واحدة مفادها: لقد كان كلينتون «راعياً»
بحق!
(*) كتبت هذه الكوابيس في ديسمبر ١٩٩٣م، وقد تأخر نشرها لظروف خاصة بالكاتب، ولحسن الحظ أن مشكلات السياسة العربية تمتد وتتمطط بحيث لا تحترق المقالات التي تتحدث عنها ولها مهما تأخر نشرها! .