للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[يخربون بيوتهم بأيديهم]

فوجئ الصحافيون الذين يتابعون اللقاء الذي عقد في السفارة الأمريكية في

باريس بين باراك وعرفات وأولبرايت بخروج عرفات غاضباً، وركب سيارته

وهو يردد: هذه إهانة لا يمكن السكوت عليها. وفوجئوا ثانية بأولبرايت تخرج

راكضة من المبنى وتأمر الحرس بإغلاق البوابات لمنع سيارة عرفات من الخروج،

وأعيد عرفات إلى مبنى السفارة بعد أن مسحت أولبرايت الإهانة بقُبَلٍ طبعتها

على خده! والسؤال الملحُّ أنه إذا كان الاجتماع سيتم في السفارة الأمريكية فما الفرق

بين واشنطن وباريس والقاهرة و.... .؟ وهل هدف تغيير الأماكن يتعدى

استخدام زعماء هذه الدول في الضغط على الجانب الضعيف وإضعاف مقاومته؟

وأن ما يعجز عنه كلينتون في مخيم داود قد ينجح فيه شيراك في باريس أو حتى

مبارك في القاهرة؟

لقد حرص اليهود منذ بداية ما يسمى بمفاوضات السلام على الإمساك بخيوط

اللعبة جميعاً؛ وكان تخطيطهم محكماً بحق؛ فقد ركزوا على اختراق الخارجية

الأمريكية، وتمكنوا من السيطرة على مراكز القرار فيها، وأصبح بأيديهم رسم

السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وإذا كانت أولبرايت اكتشفت

ماضيها اليهودي متأخرة وعلمت به من الصحف؛ فإنها لم تستطع أن تخفي أن جُلَّ

المحيطين بها هم من اليهود الطارئين على الخارجية؛ ومارتن إنديك ليس إلا

واحداً منهم. لقد أصبح المفاوض الفلسطيني حين يقابل وزيرة الخارجية الأمريكية

يجد نفسه بين يدي يهودية، وإذا زاره المنسق الأمريكي لعملية السلام فإذا به يهودي،

وإذا ذهب إلى السفير الأمريكي لدى اليهود فإذا به أيضاً يهودي، ولا ندري هل

ضباط المخابرات الأمريكية (A I C) الذين يتولون إدارة التنسيق الأمني يهود أم

لا؟

لقد كان يعتقد اليهود أن محادثات كامب ديفيد ستكون نهاية المطاف؛ ولذلك

كشفوا تصورهم للحل النهائي؛ فمشكلة اللاجئين سيتم حلها على حساب غيرهم؛

فكل دولة توطن الفلسطينيين المقيمين فيها، ومن يعود إلى فلسطين فسيعود إلى

المناطق التي تديرها السلطة وليس إلى بيوتهم؛ أي أنهم سيبقون لاجئين، وأما

المشكلة الأخرى وهي وضع القدس؛ فإن حلها في نظر اليهود سهل وبسيط؛ فقد

قاموا بإطلاق اسم «القدس» على مناطق فلسطينية في ضواحي القدس، وشيدوا

مبنى البرلمان الفلسطيني المنتظر، ولم ينسوا جَعْلَ مكتب عرفات يطل من بعيد

على المسجد الأقصى، أما ما كان يسمى: (القدس) فقد أطلقوا عليه: (أورشليم)

وبدأ التركيز الإعلامي يُشيع أن الحل المثالي هو قيام عاصمة لدولة «إسرائيل»

اسمها: (أورشليم) وعاصمة لفلسطين تسمى: (القدس) ، ولتمرير هذا المخطط

فقد أثيرت قضية السيادة على الحرم ومحاولة حصر النقاش حولها حتى ينسى الناس

القدس بعد أن نسوا فلسطين وسلموا بحق اليهود في احتلالها. وكانت المماحكات

المقصودة لا تنتهي؛ فقد اعترف اليهود بحق السيادة الفلسطينية على أرض الحرم

مقابل حقهم في السيادة على ما تحت الحرم؛ لأنهم يدَّعون أن الهيكل يقع تحت

الحرم. وأثيرت قضية مهمة جداً تمس السيادة الفلسطينية! ! ! ألا وهي أن الحرم

محاط بمنطقة سيطرة يهودية؛ فكيف يدخل الفلسطيني إلى الحرم دون المرور على

الأمن اليهودي؟ وكان أحد الاقتراحات الأمريكية أن يكون هناك ممر مغطى

بالزجاج العاكس بحيث يمارس اليهود حقهم في مراقبة المصلين الذين يفدون إلى

الحرم دون أن يروا الجنود اليهود خلف الزجاج! إن هذه الطروحات والمناقشات

تهدف إلى صرف الأنظار عن أساس القضية، وإبراز الجزء بحيث يغطي على

الكل. إن اللحظات الأخيرة الحاسمة كانت توحي بقرب التوقيع على صك

الاستسلام النهائي على الرغم من تردد عرفات الذي كان يخشى على سلطته من ردة

الفعل المتوقعة ولا يستبعد خوفه من التاريخ، وكانت الورقة الوحيدة التي كان يلوح

بها هي إعلان الدولة الفلسطينية، والتي سرعان ما تراجع عن تحديد موعده، ولم

يبق له شيء يساوم به؛ فقد أنجز بنجاح إحراق أوراقه والبركة في أجهزته الأمنية

وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان، واختلطت الأوراق من جديد، وهدم اليهود في

أيام معدودة ما بنوه في سنوات، وبقي على المسلمين استثمار كبوات العدو وعدم

التفريط في هذه الفرص التي قد لا تتكرر، وتتميز الأحداث الأخيرة بحالة الارتباك

التي يعاني منها اليهود سواء في دولة الإقامة أم دولة الحماية (أمريكا) .

وإليك أخي القارئ أبرز ملامح ما يجري، وكيفية توظيف الحدث في مصلحة

الأمة:

أولاً: لقد قام شارون زعيم كتلة اللكيود بدخول ساحة المسجد الأقصى لإثبات

سيادة اليهود على الحرم، وأنه الوحيد الذي لا يفرط في المطالب اليهودية، وكان

برفقته قوات كبيرة من الأمن قدمتها له الحكومة.

ثانياً: استعداد حكومة باراك لردة الفعل المحتملة عسكرياً وأمنياً، وكانت

تهدف إلى كسر شوكة الفلسطينيين وكسب نقاط مهمة في المفاوضات. أما في حالة

تفاقم الوضع فإن الثمن سيدفعه شارون ومن ورائه تكتل الليكود المعارض.

ثالثاً: إن قيام الفلسطينيين بمواجهة اليهود بصدور عارية ومواجهة القوات

اليهودية المدججة بالسلاح والمستعدة مسبقاً يدل على أن الأمة ما زالت حية، وأن

الخير باق فيها إلى يوم القيامة، وأن من حق الفلسطينيين الحفاظ على تضحياتهم،

واستثمار حالة التعاطف التي تعم العالم الإسلامي في القيام بأعمال إيجابية تخدم

القضية، وفي مواجهة السيطرة اليهودية على مستوى العالم عامة وفي أمريكا

خاصة.

رابعاً: إن الإعلام سلاح أساسي في هذه المرحلة وله أكبر الأثر في تحريك

الرأي العام ومن ثَمَّ التأثير على مواقف الحكومات، ويجب على المسلمين بناء آلتهم

الإعلامية القادرة على التأثير وتوجيه الأحداث. إن صورة طفل صغير يُقتَل على

يد اليهود بصورة بشعة قد ساهم في إحراج العدو وأذنابه، والسؤال هو: كم من

المشاهد لم نستثمرها؟ وكم من التصريحات والممارسات التي لم نستغلها في إبراز

صورة اليهود الحقيقية للعالم؟ !

خامساً: إن الشعوب الغربية قد تكون معادية لنا؛ ولكن يجب علينا استغلال

الأحداث في إثارة عواطفهم ضد اليهود، والتركيز على سيطرة اليهود عليهم، وأن

مصالحهم في العالم الإسلامي عرضة للتهديد في حال استمرار تبني وجهة النظر

اليهودية.

سادساً: استثمار التخبط في المواقف الأمريكية والتي تفضح سيطرة اليهود

على مواقع اتخاذ القرار والاستهانة بعواطف المسلمين؛ فبينما يصدر الناطق باسم

الخارجية الأمريكية بياناً ينتقد العبث بمحتويات مدرسة يهودية في روسيا فإن أمريكا

تقف بكل قوة ضد أي إدانة لإسرائيل في مجلس الأمن بل منعت ذكر شارون بالاسم.

إن تهمة اللاسامية يجب أن تستبدل باللاإسلامية التي يجب أن تطرح بقوة ويواجه

بها كل مسؤول أو إعلامي في الغرب.

سابعاً: إن قرار إغلاق السفارات الأمريكية في بعض العواصم الإسلامية

يهدف من ورائه إلى تصوير العالم الإسلامي أنه عدو، ولكن يجب إبراز أن اللوبي

اليهودي في أمريكا هو سبب تزايد مشاعر العداء ضد أمريكا في العالم الإسلامي.

ثامناً: إن بروز الرأي العام في العالم الإسلامي ومحاولته التعبير عن مشاعره

ومواقفه يجب أن يُدعَم من قِبَل الحكومات؛ فإن محاولة كبته سيضعف الدول

الإسلامية أمام محاولات السيطرة الأجنبية.

إن الأحداث الأخيرة تدل على أن الأمة بخير، وأن لديها القدرة على النهوض.

[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:

١٣٩) .