للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا ثقافية

الإسلاميون وسؤال النهضة

(٢)

عبد العزيز التميمي

تفاوتت إجابات الإسلاميين على سؤال النهضة تشخيصاً ومعالجة، وتنوعت

كذلك ترتيباً للأولويات، وتحديداً لبرامج المعالجات ومداخل النهضة، بين مقدم

للعمل السياسي باعتباره في هذا العصر مفتاحاً للنشاط الاجتماعي كله ومقدم للعمل

التربوي باعتبار أن الإنسان هو محور البناء المجتمعي كله ومقدم للعمل التعليمي

باعتبار أن آفة أهل هذا الزمان الجهل المطبق للكثيرين منهم بدينهم، وهناك

اجتهادات أخرى متنوعة ذكرنا طرفاً منها في الحلقة الأولى من هذه المقالة.

وفي هذا المقال سأحاول المساهمة قدر الطاقة في هذه الإجابات، حريصاً ما

أمكن على الضبط المنهجي لهذه الإجابات، والدقة العلمية، والحياد الموضوعي،

ومن الله استمد العون والتوفيق.

كلمة في المنهج:

ذكرت في مقال سبق أن مصادر المعرفة في الرؤية الإسلامية تدور بين دليل

الشرع، ودليل الكون، ودليل العقل، ودليل التاريخ والفطرة.. ففي أي الحقول

يدور بحث هذه المقالة؛ وذلك لتحري الضبط والدقة فيها؟

من الواضح أن علاقة المنهج بالشرع والوحي متينة؛ ذلك أن الله تبارك

وتعالى عندما أمر بتبليغ الرسالة دلنا كذلك على أفضل وأنجح السبل لتحقيق البلاغ

المبين.. ولا ريب أن سائر الدعاة والمصلحين يحتجون لطرقهم ومناهجهم بأدلة من

الكتاب الكريم والسنة النبوية الصحيحة ... والشأن كله ليس في أن تستدل على ما

أنت بصدده بدليل صحيح؛ فذلك قد يحسنه كل أحد.. وإنما تظهر معالم التوفيق

لمن يستطيع أن يلم بأطراف الأدلة في موضوعه فلا يهمل منها شيئاً، ولا يضرب

بعضها ببعض، ولا يقدم المتأخر أو يؤخر المتقدم، وإنما يتعثر الكثير في مثل هذه

المسائل بسبب المواقف المسبقة، والتحيز لقول عالم أو طائفة أو حزب لا يستطيع

منه فكاكاً، فيذهب نسأل الله العافية يلوي أعناق النصوص ويحمّلها ما لا تحتمل،

وينطقها ما لا تنطق، ويوسعها تأويلاً واعتسافاً وتحويراً.

المدخل الآخر المهم لمثل هذا المبحث مدخل سنني تاريخي اجتماعي يتعلق

بمعرفة سنن الله تعالى في بناء المجتمعات وقيامها وسقوطها، كما يتعلق بالتشخيص

الصحيح والدقيق للواقع، وشبكة علاقاته، وحيوية حركته وصيرورته التاريخية،

والعوامل الفاعلة حقيقة فيه ... إنه جهد مضاعف يتطلب من الباحث الجاد أن يتجرد

من أهوائه وتعصباته وتحيزاته المسبقة، ويدرس بصبر وتؤدة مصادر الأدلة

الشرعية ثم ينزلها على واقع ما ينفك يتغير حتى ليكاد أن يفلت من بين يدي الباحث

المراقب في وتيرة تغيّر لم يشهد لها التاريخ مثيلاً..! !

كلمة في سنن التغيير:

توصف الحركات الإسلامية بأنها أكثر الحركات الاجتماعية رفعاً لشعار

التغيير في واقعنا المعاصر؛ ومع ذلك فإن وعيها في تصوري لا يزال قاصراً عن

فهم سنن الله تعالى في التغيير، سواء كان ذلك في نطاق الأدلة الشرعية أو في

نطاق الواقع التاريخي ففي كثير من الأحيان نجدها تنشغل بمراقبة تفاصيل الأحداث

عن إدراك العوامل الأكثر فاعليةً وحضوراً في مسيرة الحدث التاريخي. ولنضرب

على ذلك مثلاً من حياتنا المعاصرة:

هل كان سقوط الخلافة الإسلامية بسبب مؤامرات الدول الكبرى المتربصة

شراً بالخلافة العثمانية؟ أم كان بسبب عمالة حزب تركيا الفتاة وقيادته المشبوهة؟

أم كان بسبب المكائد التي كان يحيكها يهود الدونمة؟ ! أم كان بسبب طموحات

ورغبات أتاتورك العلماني التي كانت بلا حدود؟ الكثير من الباحثين يختار واحداً

أو أكثر من هذه الأسباب، وفي تصوري والعلم عند الله تعالى أنه ليس لواحد من

هذه الأسباب منفردة القدرة على وضع النهاية لإمبراطورية إسلامية فاتحة،

استطاعت قيادة المسلمين بكفاءة طيبة ما يزيد على أربعة قرون.. أما المؤامرات

الخارجية فشيء معتاد؛ ولو لم تحدث هذه المؤمرات لكان ذلك مثيراً للاستغراب،

وهي لن تضرنا شيئاً ما دمنا مسلمين؛ فقد قال تعالى: [وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا

يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] [آل عمران: ١٢٠] .

أما يهود الدونمة فقد كانوا موجودين داخل الدولة طوال تاريخها، ولم يكن لهم

أثر يذكر بل إنهم أو الكثير منهم احتاجوا إلى إعلان الإسلام كذباً من أجل الحصول

على مميزات المواطن المسلم. أما عن أتاتورك وحزبه، فهو لم يكن إلا الدابة التي

أكلت منسأة الخلافة حتى خرت على وجهها وكانت هي الكاشف عن موت الخلافة

لا سبب الوفاة، تماماً كما لم تكن دابة الأرض سبباً لموت سليمان.

إن من سنن الاجتماع التي علّمنا الله تعالى إياها أن الله لا يغير ما بقوم حتى

يغيروا ما بأنفسهم؛ فالبحث عن الأسباب الذاتية الداخلية، ونقد الذات يأتي أولاً في

الرؤية الإسلامية السديدة، بل حتى في الرؤية الموضوعية العلمية الدقيقة؛

فالإدراك العميق إذاً بالسنن الاجتماعية شرط ضروري وحيوي من أجل النجاح

المطلوب في التغيير الإسلامي المنشود ...

ومن سنن التغيير الاجتماعي كذلك أن للتمكين في الأرض شروطاً قَبْلية، هي

بمثابة إعداد الرجال للمعركة، وشروطاً بعْدية، تمثل تحرر الغايات والمقاصد، فلا

يكون هدف الداعية أو الكيان أو الطائفة إبراز الذات وإنجاحها؛ وإنما أن تذوب

الذات وتتضاءل إزاء الهدف الكبير [وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى

لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: ٥٥] .

إذن فلا بد من إيمان وعمل صالح سابق للتمكين، وعبادة خالصة لله تعالى

وإظهار لدينه بعد التمكين [الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ

وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: ٤١] ؛ ولذلك فإنه

في طور الإعداد للجيل الأول، فرض الله تعالى عليهم أن يقيموا الصلاة إقامة

خاصة، تتوافق مع الهدف العظيم الذي إليه يسعون ومن أجله يجِدّون. [يَا أَيُّهَا

المُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً (٢) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ

القُرْآنَ تَرْتِيلاً] [المزمل: ١-٤] يا له من جهد ثقيل، نصفه أو انقص منه قليلاً أو

زد عليه ... لماذا؟

لـ[إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً] [المزمل: ٥، ٦] قالت عائشة زوج النبي: (فقام رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله ختامها أي السورة في

السماء اثني عشر شهراً) [١] .

هكذا كانت صفة الجيل الأول: جيل التأسيس، الغرباء الأولين، فما هي

صفة الجيل الثاني جيل الغربة الحديثة؟ ! أُمسكُ عن الجواب! !

ومن سنن الله تعالى في الاجتماع البشري أن دوام الحال من المحال.. وأن

جيل البناء الأول المشحون بأهداف البناء العظيم، لا يلبث بعد تحقيق نجاحاته أن

تفتح عليه أبواب الدنيا، وليتشكل جيل آخر لم يرتقِ ارتقاء الجيل الأول، ولم يتلقّ

الصياغة الأولى ذاتها، وما يزال في انحدار حتى تدول الدولة [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا

بَيْنَ النَّاسِ] [آل عمران: ١٤٠] ولذلك نشأت ظاهرة التدافع الحضاري تخفيفاً عن

كاهل البشرية؛ وحتى لا يستبد بها ظالم واحد، [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم

بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً]

[الحج: ٤٠] ؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه لما قدموا عليه مستشرفين للعطاء: (أبشروا وأمّلوا ما يسركم، واللهِ ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم..) [٢] .

ومن سنن الله تعالى في الاجتماع البشري كذلك أن الأرض يرثها عباد الله

الصالحون، وأن الظلم شرط ناقض للتمكين، فإذا كانت طائفة التغيير الإسلامي

المنشود تمارس الظلم داخلها وتكرسه، بل أحياناً تسوّغه وتدافع عنه؛ فلا مكان لها

في المستقبل.. ومنها كذلك أن لا تمكين بلا بلاء، وأن البلاء مقدمة الاصطفاء،

ويشهد لهاتين السّنّتين قوله تعالى: [وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي

جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] [البقرة: ١٢٤] .

ومن سننه كذلك أنه يأخذ المجتمعات الظالمة بالتدرج والإمهال حتى لتظهر لك

كأنما هي في أوج عزتها ومجدها كما هو الحال مع الحضارة المعاصرة؛ لكنها لا

تلبث أن تخر منهارة على وجهها كأن لم تغن بالأمس، [حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ

زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا] . [يونس: ٢٤] .

إن الوعي بهذه السنن مجتمعة، وبغيرها من سنن الله في مسيرة الحضارات

ضرورة، وكذلك الجمع بين تدبرها في كتاب الله المقروء، وتدبرها في مسيرة

المجتمعات البشرية عبر التاريخ من خلال حضارات سادت ثم بادت، حضارات

امتلكت ناصية القوة والهيمنة على غيرها من المجتمعات، ثم لم تلبث أن توارت

في زوايا الزمان، تلعق ذكريات مجد غابر حيل بينها وبينه؛ فليس لها إلى

استعادته من سبيل.

المنهج النبوي في التربية والتزكية والتغيير في كلمات موجزة:

بُعث النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وسط جاهلية جهلاء كانت تعم

صحراء الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها وقد استبدل العرب عبادة الأوثان

بملة إبراهيم عليه السلام، وشاع فيهم وأد البنات، ورذائل العادات، وكان من قدر

الله تعالى ومكره للمؤمنين أن البعثة النبوية جاءت في منطقة بعيدة عن نفوذ

الحضارتين الفارسية الآرية والرومانية الجرمانية.. وكانت كلتا الحضارتين تعانيان

من جراحاتهما الداخلية، كما توالت الصراعات بينهما حتى أنهكتهما الحروب [الّم

(١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]

[الروم: ١- ٣] وكان العرب الذين بُعث فيهم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مجتمعاً بعيداً عن إدارة الدولة المركزية الصارمة المدججة بالسلاح، القامعة بقسوة ووحشية لخصومها ومخالفيها، وإنما كانت الهيمنة لقبائل متصارعة متوازنة القوى، لا تنفك الحروب تنشب بينها دون أن ينتصر أحدها انتصاراً حاسماً مهيمناً على الجميع، حتى صارت الحروب والمعارك صفة لازمة لهم يبحثون عنها ويسببون لها الأسباب وإن لم توجد:

وأحياناً على بكرٍ أخينا ... إذا ما لم نجدْ إلا أخانا

ولم يكن للعرب ميراث حضاري أو ثقافي عريق، بل لم يكن عامتهم يجيد

القراءة والكتابة؛ إنما كانوا أمةَ ثقافةٍ شفهية، وبيان ولسان وشعر وأدب [هُوَ الَذِي

بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ] [الجمعة: ٢] كان لسان العرب قد اتسع وتشقق حتى

بات خير وعاء يحوي البيان المنزل، كما لم تشوّش فطرتهم الحذلقات العقلية

والجدليات الفلسفية التي تملأ أصحابها عادة بالغرور الكاذب؛ دون أن يكون لهم في

العلم والحكمة ذلك النصيب الوافر. والصدق كان مزيتهم الأولى، وهي الصفة

الضرورية للبناء الأخلاقي كله، ولذلك لم يكذب أبو سفيان أمام هرقل عظيم الروم،

في وقت كان فيه بأمَسّ الحاجة للكذب؛ ذلك أن هرقل كان يمكن أن يهتدي للإسلام

ويكون عوناً للرسول -صلى الله عليه وسلم- الخصم اللدود لأبي سفيان في ذلك

الحين؛ كما لم يظهر في مكة رغم بقاء النبي -صلى الله عليه وسلم-فيها مدة ثلاثة

عشر عاماً لم يظهر أي أثر للنفاق والمنافقين..

كانت المنهجية الأساس المستخدمة في التربية النبوية المكية هي: [كُفُّوا

أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ] [النساء: ٧٧] وبقي -صلى الله عليه وسلم- يُعلّم أصحابه

في مكة معالم الدين الجديد، ويجردهم من العبودية لغير الله تعالى، ومن العبودية

للدنيا، ومن العبودية للذات وحظوظها، حتى إن أحدهم ليسمع سب ربه تبارك

وتعالى فيصبر طاعة لله، ويسمع سب أحب الناس إليه وهو النبي الكريم -صلى

الله عليه وسلم- ويصبر.. وهو الذي كان بالأمس يثير الحروب لأتفه الأسباب،

من أجل ناقة قُتِلت، أو حصان سبق ... بعد هذا الصبر كله، والتشكيل لهذه الثلة

الكريمة هاجر بهم النبي -صلى الله عليه وسلم-مؤذناً بقيام المجتمع الجديد الوليد؛

حيث لم يلبث إلا يسيراً حتى نزل عليه قول الله تبارك وتعالى: [أُذِنَ لِلَّذِينَ

يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] [الحج: ٣٩] . وانطلقت الدعوة

بعد ذلك تواجه شتى صور الوثنيات والانحرافات والضلالات، داخل المجتمع

المسلم وخارجه، حتى فتح الله تعالى عليها بفضله. لقد بنى النبي -صلى الله عليه

وسلم-أصحابه في ربع قرن، ولم يمضِ ربع القرن الثاني حتى سقطت فارس تحت

جحافل جيوش المجاهدين، وانحصرت الدولة البيزنطية في أوروبا، فكمنت وهي

ترتعد فَرَقاً أن تواجه جيوش الموحدين، ولحكمة يعلمها الله تعالى فقد سقطت فارس

حتى صدق فيها قول الصادق المصدوق: (إذا هلك كسرى فلا كسرى غيره) وعندما

حاول شاه إيران الغابر إحياء الكسروية لم ينشب أن سقط، ولكن بقيت روما تقاوم

حتى يأتيها يومها الذي توعد.

لقد كان الحجاز بعيداً عن نفوذ فارس والروم، بل لو قلنا إن الفرس والروم

كانوا زاهدين في السيطرة على جزيرة العرب، لم نكن بعيدين من الحقيقة؛ ومع

ذلك استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم-بتوفيق الله تعالى له، ثم بالتربية

الصبورة والنّفَس الطويل أن يعيد تشكيل نفسية وسلوكيات أصحابه الكرام حتى

استحقوا الوصف الكريم: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] [آل عمران: ١١٠]

ولقد ذهلت فارس والروم عندما تصدى لهم هؤلاء في مواجهة لم يعرف لها تاريخ

العرب مثيلاً؛ حتى إن أعرابياً كان يعيش في الماضي على هامش الحياة البشرية،

نراه يخاطب كسرى بقوله: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى

عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة

الدنيا والآخرة..) أيّ رجال هؤلاء، وأيّ جيل ذلك الجيل؟ !

لقد اصطفى الله تبارك وتعالى نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة

الخاتمة، واصطفى أصحابه كذلك لصحبة هذا النبي الكريم: [اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ

المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ..] [الحج: ٧٥] [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]

[الأنعام: ١٢٤] . إن في شواهد التاريخ النبوي الكريم، وصحبه العظام لأبلغ دليل

على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى عظمة هذا المنهاج الرباني الكريم

أتطلبون من المختار معجزة؟ ... يكفيه شعب من الأجداث أحياه

إن المنهج النبوي الكريم في التغيير ليس صورة بديعة نتأملها ونعجب لها ثم

نقف عند ذلك ... لا، ثم لا.

ومع ذلك، وفوق ذلك معالم تُقتفى، وسنن يُسار عليها، ومنارات تهدي

القاصدين السبيل، وما يمكن لمقال موجز مثل هذا المقال أن يحيط بأطراف هذا

الموضوع الحيوي الكبير؛ لكنها كلمات تؤشر وتدل، وعلى الظامئ أن ينهل من

ذلك النبع الكريم بتفاصيله ووقائعه كي يجد بجلاء ووضوح كامل الصورة تتشكل

أمام عينيه، ثم عليه بعد ذلك أن يمارس ويعايش ذلك الرهط الكريم بسلوكه

وممارساته اليومية، كي تتحول المعرفة من مجرد معلومات في الأذهان إلى

مشاهدات في العيان [وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ] [محمد: ١٧] .

ورغم الإلمامة السريعة بهذا الموضوع الحيوي الكبير ... إلا أن له بقية لا بد

أن تقال حول تنزيل هذا الشاهد الشرعي، والشاهد السنني الاجتماعي على واقعنا

المتجدد الذي لا ينفك يتغير، وبه تكتمل إجابات التساؤلات التي تم طرحها في

المقال الأول، ولهذا التنزيل مكان في مقال ثالث لاحق بإذن الله تعالى، والله هو

الهادي إلى سواء السبيل.


(١) سنن النسائي، (١٦٠١) .
(٢) صحيح البخاري، ٤٤ المغازي، (٤٠١٥) ، أخرجه مسلم في الزهد والرقائق ٢٩٦١.