للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأملات دعوية

[الصحوة الفكرية]

محمد بن عبد الله الدويش

www. dweesh. com

تعاني مجتمعات المسلمين اليوم من بساطة في التفكير، وضحالة ومحدودية

في الثقافة، وهذه المشكلة تركت أثرها على جيل الصحوة باعتباره إفرازاً لهذا

الواقع. وأسهم البعد عن المؤثرات، والحرص على عدم الاحتكاك بالآخرين،

والسعي للعزلة عن الثقافة المعاصرة لما يشوبها من انحراف وخلل، أسهم ذلك كله

في تعميق هذه المشكلة لدى جيل الصحوة.

لكن ملامح التغيير بدت واضحة، بل تجاوزت مجرد الشكوى والشعور

بالمشكلة إلى السير في خطوات عملية نحو تجاوز هذه الإشكالية.

ومن مظاهر هذا التغيير: ارتقاء أسلوب الخطاب الدعوي والفكري في

أدبيات الصحوة، وشيوع المَلَل من التناول التقليدي والنمطي للقضايا الدعوية

والفكرية، والاعتناء بالقراءة الواعية المتفتحة، وارتقاء الحس النقدي ونموه ...

إلخ.

وبقدر ما نُشيد بهذا التحول والارتقاء فلا بد من التنبه لبعض المؤثرات

الجانبية التي قد لا يخلو منها أي اتجاه نحو التغيير.

وهذه المؤثرات منها ما قد يكون نتيجة غياب التوازن والإفراط في ردة

الفعل، ومنها ما يكون نتيجة استيراد القالب وأحياناً المضمون الثقافي والفكري من

الآخر، وصعوبة الفصل بين القضايا الشكلية والموضوعية، والافتقار للدقة في

الانتقاء والتمييز.

ومن هذه المؤثرات الجانبية، والمشكلات المصاحبة لليقظة الفكرية:

* الإيغال في الجانب الفكري النظري، والغياب عن الواقع والحياة العملية،

سواء في التفكير ومعالجة المشكلات، أو في السلوك الشخصي، أو البعد عن هموم

الناس ومعاناتهم العملية، وهي شكوى نادى بها طائفة من المثقفين غير الإسلاميين،

فلا نبدأ من حيث بدأ الآخرون. وهذا الأمر الإيغال في الجانب الفكري على

حساب الجانب العملي هو ضمن دائرة القول دون العمل المذموم شرعاً: [يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ]

(الصف: ٢-٣) ، وقديماً قال السلف: «الذي يفوق الناس في القول جدير بأن

يفوقهم في العمل» .

* المبالغة في الشكل والأسلوب، وهذا يقود إلى التقعر والتكلف المذموم، وقد

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال

الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها» [١] ، كما صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم

قوله أيضاً: «إن مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً،

وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون والمتشدِّقون

والمتفيهقون» [٢] ، ويؤدي التشدُّق المذموم ببعضهم إلى الزهد في المصطلحات

الشرعية والبحث عن بديل يتناسب مع الرقي الفكري، ويزيد من رصيد العبارات

التي لا يعيها الحاضرون مما يدل على رقي المتحدث وسعة ثقافته! وما أجمل

الهدي النبوي البعيد عن التكلف، والجامع لأبواب الفصاحة.

* الجرأة غير الموزونة؛ وتبدو في جوانب عدة، منها: الجرأة على الأحكام

الشرعية والقول فيها بالرأي، والجرأة على حديث الشخص فيما ليس من

اختصاصه ولا مما يحسنه، والجرأة على الأكابر وانتقادهم، والجرأة على النقد

عموماً وتحوُّله إلى غاية وسِمَة للشخص الذي كما يقال لا يعجبه العجب ولا الصوم

في رجب.

* غياب التحقيق والتأصيل العلمي للمسائل التي يتناولها المتحدث والكاتب،

والاعتماد على الآراء الشخصية، والأسلوب الأخَّاذ.

* التعالي على الآخرين، والشعور بالتميز عنهم.

إنها مضاعفات وآثار لا بد من الحذر منها، ولا بد من السعي لتلافيها في

مسيرتنا نحو الارتقاء الفكري، ومع ذلك لا ينبغي أن تعوق عن المواصلة في هذا

الطريق والسير فيه، ولا أن تشغلنا عن أهميته؛ فالأمة أمام معارك فكرية، وحين

تفقد النماذج الفكرية الملتزمة فسيكون البديل النموذج المنحرف الضال.


(١) رواه أبو داود، ح/ ٥٠٠٥، وأحمد، ح/ ٦٥٠٧.
(٢) رواه الترمذي، ح/ ٢٠١٨.