[حرمان الظالمين من الإمامة في الدين]
أنور قاسم الخضري
في قوله ـ تعالى ـ: {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٢٤] أخبر الله ـ سبحانه ـ أنه امتّن على إبراهيم بجعله «إماماً للناس» يُقتدى ويُتأسى به في الدين؛ وذلك مقابل قيامه بالتكاليف التي أُمر بها على أتم وجه. وفي مقابل هذا التكريم طلب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من ربه أن تكون هذه الإمامة لأبنائه من بعده؛ فأجابه الله إلى ذلك، مستثنياً ـ سبحانه وتعالى ـ من ذلك «الظالمين» (١) . وهذا من شؤم الظلم على أهله.
وحول الظلم وأثره في حياة الأئمة يرتكز حديثنا في هذه الأسطر.
فالظلم معنى مبغوض من الخالق ومن الخلق؛ لذلك أخبر الله ـ تعالى ـ تنزهه عن الظلم من كل وجه من الوجوه؛ فهو ـ سبحانه ـ: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: ١٨٢] و {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: ٤٠] ، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: ٤٩] . وقد تمت كلمته ـ سبحانه وتعالى ـ: {صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: ١١٥] وحرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرَّماً بين عباده، بل أخبر ـ سبحانه ـ {إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: ٤٠] ، وأن عذابه يلحق بالظالمين، ومن ركن إليهم أو سكت عن ظلمهم.
والحديث عن عواقب الظلم وذمه يطول في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وليس هنا محل بسطه، غير أن الإشارة الواردة في الآية {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٢٤] تتحدث عن نوع آخر من الظلم: إنه الظلم الذي يجب أن يتنزه عنه «أئمة الناس» في الدين، حتى يستقيم اتباع الناس لهم، وقبولهم إياهم، والاقتداء والتأسي بهم.
إنه «الظلم» الذي يُعطّل من «العهد» بالإمامة بمقداره، وهو الذي عُصم منه الأنبياءُ أجمعين، عليهم صلوات الله وسلامه. لهذا كان وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالظلم، أو حثه على العدل ممن هو أدنى منه رتبة كفراً بصاحبه، يستحق القتل لأجله؛ لأنه يطعن في أصل من أصول الرسالة، وهو القيام بالعدل والقسط بين الناس.
إن هذا «الظلم» هو المانع اليوم بين كثير من علماء ودعاة الصحوة الإسلامية، وقادة العمل الإسلامي وبين قبول عموم الأمة لهم، وهذه قضية يجب أن تكون حاضرة في النفس والتفكير عند محاولة إخراج قيادة للأمة. هذا مع عدم لزوم الطعن في خيرية هؤلاء ـ عموماً ـ وأنهم الأسبقون بالدعوة، والتعليم، والإحسان، والجهاد.
إلا أننا في إطار البحث عن العلل في غياب القيادة المؤثرة في عموم الأمة لا ينبغي أن تغلب علينا عواطف الحب والتقدير، حتى نرى الحقائق، ونمتلك ميزان الإنصاف مع الأشياء المؤثرة والمتأثرة.
صحيح أن الأمة غير مؤهلة ـ كما يبدو ـ لاستقبال قائد «رباني» ؛ نظراً لتمزقها على مستوى مناطق، ودول، وأحزاب، ومذاهب، وطوائف، وطبقات.. وما إلى ذلك. لكن في المقابل، كثير من العلماء والدعاة ـ هم أيضاً ـ غير مؤهلين ليكونوا «إماماً للناس» بحالتهم الراهنة؛ حيث لا تزال دوافع الظلم كامنة عند بعضهم.
ولا أقصد بالظلم هنا كبائر وعظائم الأمور، حاشا وكلا! وإنما أقصد ظلماً أخص، يدور في إطار الأفكار والأحكام والتعامل، وأضرب على ذلك مثالين:
١ - الظلم في الحكم على الأمور وتسميتها بمسمياتها:
إن خير من ينزِّل الأسماء الشرعية على مسمياتها هم العلماء، والناس تبع لهم في ذلك. وكم نجد اليوم من ظلم ظاهر في هذا الجانب؛ فإمامة المسلمين، وجماعة المسلمين، وكل معاني الإسلام الأخرى تُصبغ بها شخصيات، أو جماعات، أو دول، أو تُسحب من الآخرين لا بمنطق العدل الرباني.
وكذلك شأن الكفر أو البدعة أو الفسق؛ فإنها تُطلق اليوم بعيداً عن التحقيق والتدقيق، بل ربما أُطلقت على أهل التوحيد، ويُتورع في شأنها مع مستحقيها من المرتدين والزنادقة.
وليس بعيداً من ذلك مصطلحات «الجهاد» و «التطرف» و «الإرهاب» و «الاستشهاد» ... وإلخ؛ كلها أصبحت في غير محلها عند بعضهم.
ومن العجيب أن يغلو بعض الدعاة والعلماء في أمور يعلمها الصغير فضلاً عن الكبير، إذا كان له حظ من الدين؛ كأن يقول بعضهم: «لا يوجد في بلادنا ردة أو مرتدون» ، في حين ترتفع دعوات المفسدين على منابر الإعلام مهاجمة الشريعة، وحَمَلَتَها بمقاصد معلومة، ويأتي في مقابل هذا الغلو غلو آخر يُرى في المجتمع: «مجتمع ردة» تحل دماؤه وأعراضه وأمواله؛ لا لشيء سوى ظهور المنكرات فيه، وفي هذا ما يشيع الظلم والعدوان في الناس.
إن الواجب أن لا ينطق العلماء بحكم على أمر حتى يستنفدوا طاقتهم بتأصيل أمور ثلاثة، هي:
١ - التأكد من دلالة هذا اللفظ ومن لوازمه الشرعية: من نصوص الشريعة لا من واقع الاجتهادات الزمانية أو المكانية؛ لأنها مساندة في فهم علماء الأمة للدلالة، لكنها بأي حال ليست دليلاً مستقلاً بذاته.
٢ - التأكد من حال الواقع كما هو، لا كما نحب أن نراه، أو يفترض أن يكون عليه؛ لأن الانطلاق في النظر إلى الأمور من هذين المنظارين يدفع لحجب الحقائق وتكذيبها، أو البحث لها عن المسوغات التي تزيد من حضور الأخطاء والمنكرات.
والواقع لا تحده أمتار مسطحة أو عينات اجتماعية هنا وهناك، وإنما هو رصد وتتبع ونزول ميداني، وبحث في الظواهر (التي نطلع عليها أو يطلع عليها غيرنا) .
حدثتُ أحدهم عن فندق بإحدى المدن فيه زنى وخمور؛ فقال: يا أخي! علينا بالظاهر. فقلت له: فإذا ظهر الأمر في الشوارع (وهذا الذي تريده) فسيكون أحسننا حالاً من يقول: (هلاَّ خلف هذا الجدار!) ، كما ورد في بعض الأحاديث.
إنّ وصول الناس للمنكرات، وحصولهم على خدمات تقدِّم الفحش يعدُّ من إظهار المنكر مهما غُيّب في دهاليز المباني.
غير أن بعضهم يحب أن يعمي عينه عن الموجود، حتى لا يستلزم منه ذلك النطق بأحكام يكره التفوّه بها، ولا يعلم هؤلاء أنهم بذلك يعمون بصائرهم قبل أبصارهم؛ فإنهم مع مرور الوقت يستمرئون المنكرات، بل قد يكونون مشرّعين لها كما حدث مع علماء بني إسرائيل: كان إذا زنى فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، وإذا زنى فيهم الشريف تركوه!
٣ - أن لا يستقل عالم بإعطاء حكم من هذا النوع بشخصه، وإنما عليه إن كان صادقاً مع الله ـ تعالى ـ ومع شرعه أن يعود إلى أكبر قدر من العلماء والدعاة، مبيناً لهم رؤيته وأدلته على ما ذهب إليه، ومستمعاً منهم رأيهم ومذهبهم، حتى يتفقوا على أمر واحد أو قريب منه.
إن غياب هذا المنهج في تقرير مسائل الواقع جعل بعضهم يتقفز من أقصى اليمين إلى الشمال، ومن أقصى الشمال إلى اليمين، وربما من الوسط إلى أحد الطرفين؛ ذلك أن عُمدته في الأمور هي نظرته الشخصية، ونسي الجميع أن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: ٣٨] ، ومن هذا الأمر الذي يعنيهم الحُكم على الواقع والوقائع. لكن روح الاستقلال اليوم قتلت روح العدل والإنصاف؛ فإن العدل صفة تنمو في ظل الجماعة وأحضانها، بينما الظلم ينمو عند المنفرد المستقل.
إن نشوء الإنسان في مجتمع يقوّم أفكاره، ويوضح له علل الأمور وسنن المجتمعات، وخفايا النفوس، يعدّل من أحكامه ويهذبه؛ وذلك بحسب قرب هذا المجتمع من الإيمان والشريعة. ومن جالس العلماء والدعاة واختلط بهم بنفسية المتعلم برزت له هذه الحقيقة كالشمس في رابعة النهار.
٢ - الظلم في ردود الأفعال:
إن أوْلى الناس بسلامة الصدر، ونقاء السريرة، وصفاء القلب، وعفة اللسان: العلماء والدعاة، وقد وصف الله ـ تعالى ـ خيرته من الخلق بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٢٤] ؛ فالصبر أصناف منها: الصبر على الخلق وأذاهم، وهي ميزة ممدوحة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير أعظم أجراً من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم» (١) . وأكثر الناس تأذياً هم العلماء؛ لأن عامة الناس جهلة فلا يتطاوعون معهم، وربما اعترضوا على العلماء بجهلهم، فلا يكون من العالم أو الداعية سوى الغلو في ردود الأفعال، وعوضاً عن أن تكون ساحة العلماء والدعوة ساحة أناة، وبصيرة، وسماحة تكون ساحات إثارة، وردود وهرج.
ومن المؤسف أن يترصد الإعلام هذه الحالات؛ لأنه عرف أو جهل أن أصحاب ردود الأفعال، مهما بلغت مكانتهم في العلم والدعوة، قد تتغير مواقفهم بسرعة؛ نتيجة ردة فعل بما لا تخطط له الحملات الدعائية؛ فتخسر أكثر مما تربح. ومؤسف أيضاً أن يصنع بعض العلماء والدعاة شهرتهم في ظل هذه الأجواء المنفعلة، دون أن ينتبهوا إلى ما وراء الأكمة.
إن مكانة العلماء والدعاة أعلى وأرفع، وينبغي عليهم أن يظلوا في نظر الأمة محل الاتزان الفكري والعاطفي والموقفي، حتى ولو اضطرهم هذا إلى التأخر في بيان مواقفهم؛ لتكون أكثر نضجاً وأسد مذهباً، بل إذا كان السكوت أجدى فلِمَ لا يتخذون من سكوتهم مذهباً، وهو مذهب قديم للعلماء بل وللأنبياء: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف: ٧٧] ، {إلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: ٦٨] ؟.
إن ردود الأفعال في المصائب غالباً ما تُولّد جواً مشحوناً بالفتن، وإنّ ضياع حدث دون أن ينال حكمه في مسيرة التاريخ هو خير من أن يسجل بحكم خاطئ يحرف مفاهيم الأمة والأجيال القادمة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما أدري أَتُبَّعُ لعين هو أم لا؟ وما أدري عُزَيْر نبي هو أم لا؟» (٢) ، فلا يضرُّ تُبّعاً ولا قومه، ولا محمداً -صلى الله عليه وسلم- ولا أمته أن يُعرف ماذا كان؟! طالما أنه أدى رسالته ومهمته في التاريخ، وانقطعت صلته بالأجيال؛ فذِكْره في القرآن جاء عابراً، وكم في التاريخ من ذكر عابر!
وهنا أقدِّم نصحي في أن يُغفِل الناس عند الأحداث ردود الفعل المستعجلة، وأن يتحلوا بالتريث، طالما أنها بعيدة عن العمق والخبرة والمشورة. والحذر أن يتمكن الإعلام من صياغة «الرأي العام» بأسلوب «السلق السريع» و «التناول السفري» و «إبراز من فَوقَ خشبة المسرح دون من حولها» و «التشويش» ؛ فكلها تجر إلى التعبئة العاطفية، أو التنويم المغناطيسي دون شعور المتلقي.
ويبقى أن نعيد القول للعلماء والدعاة ـ وهم محط آمالنا ومعقد أماني الأمة ـ بأن يتنزهوا عن الظلم؛ بقبول النصح، ونقد الذات، ومراجعة السجل الخاص، وتنصيب حَكَمٍ عند الخصومة، وإنصاف الآخرين من النفس؛ فإن ذلك مما يرفع قدرهم، ويعلي شأنهم، ويجمع الخلق عليهم.
(*) مدير مركز دراسات الجزيرة العربية، ورئيس تحرير جريدة الرشد اليمنية.
(١) اختلف المفسرون حول معنى قوله ـ تعالى ـ: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: ١٢٤] ، والذي ذهب إليه ابن كثير: أن الاستثناء متصل بإجابة الطلب، وأن المعنى إن الظالمين ليس لهم حظ في أن يكونوا قدوة وأسوة للناس في هذا الدين. وحفاظاً على روح المقال أعرضت عن سرد الأقوال والترجيح بينها.
(١) رواه أحمد في المسند رقم (٤٧٨٠) ، وابن ماجه، كتاب الفتن، رقم (٤٠٢٢) ، وإسناده صحيح.
(٢) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، رقم (٤٠٥٤) .