ندوات
في ظل الهجمة الاستعمارية على المنطقة:
ماذا يرتب للقرن الإفريقي؟
إعداد: وائل عبد الغني
يعد القرن الإفريقي من المناطق التي تتطلع إليها غالب القوى الاستعمارية
اليوم، وقد اتضحت هذه الأهمية مع بداية العدوان الأمريكي على العراق حيث
يبرز التلازم بين التحركات في الخليج والتحركات في القرن في حرب الخليج
الثانية في عهد بوش الأب، ثم في عهد بوش الصغير، فيما بات يُعرف بـ
(حرب الإرهاب) ؛ هل هذا التلازم هو من قبيل المصادفة، أو جزء من
الاستراتيجية الأمريكية؟ وما طبيعة هذه المنطقة؟ وماذا يرتب لها؟ وما أثر ذلك
على المنطقة العربية باعتبارها قلب العالم الإسلامي؟ هذا ما سنناقشه في ندوتنا
التي تستضيف فيها (مجلة البيان) كلاً من:
أ. د. حمدي عبد الرحمن: الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية،
ورئيس مركز الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة.
الأستاذ: طلعت رميح: الرئيس السابق لتحرير صحيفة الشعب القاهرية.
الأستاذ: هاني رسلان: المتخصص في الشؤون الإفريقية بمركز الأهرام
للدراسات الاستراتيجية.
لمناقشة هذا الموضوع وأبعاده المختلفة.
البيان: نرحب ابتداء بضيوفنا الكرام، ونستهل الموضوع بالحديث عن
خصائص القرن الإفريقي من جوانبها المختلفة؛ حتى نتمكن من تتبع ما يجري أو
يمكن أن يجري هناك.
- أ. طلعت رميح: في سياق الحديث عن القرن الإفريقي من المفيد أن
نستحضر الخلفية المشتركة لطبيعة مشكلات القارة الإفريقية بصورة كلية خلال
المرحلة الأخيرة أولاً؛ فهناك قاسم مشترك من المشكلات بين مناطق القارة بكل
أبعادها السياسية أو العرقية أو الطائفية أو الصراعات المسلحة، وانهيار دولة وقيام
أخرى، والحدود شبه المفتوحة بين الدول، مثل هذه الرؤية تبصرنا بما عليه القرن
الإفريقي كجزء من القارة، وتختصر لنا مساحات كبيرة من التفاصيل. صحيح أن
منطقة القرن الإفريقي مشدودة نوعاً ما جهة قلب المنطقة العربية وتقلباتها، لكن هذا
لا ينفي وجود سمات تحكم تلك المنطقة في إطار إفريقيا بوصفها قارة، وهنا أُجمل
كلامي حول ثلاث سمات أساسية للقارة:
أولها: أننا لو بحثنا عن الأماكن الجاهزة للاستعمار أو الباقية للاستعمار
بمعناها التقليدي، لوجدنا أنها أصبحت محصورة في إفريقيا التي بقيت فيها حالة
الاستعمار القديمة؛ بخلاف آسيا التي أصبح فيها إما ديناصورات أو قوى إقليمية..
أمريكا اللاتينية معروفة بوضعها التاريخي بالنسبة للولايات المتحدة.
الأمر الثاني: أن هناك خصوصية شديدة للوجود الإسلامي في إفريقيا، ولا
أكون مبالغاً أو متجاوزاً إذا قلت إن هناك حالة رعب خاصة من الوضع الإسلامي
في إفريقيا، سواء درجة انتشار الإسلام أو نمو الاتجاه المطالب بالعودة إلى الشريعة
والعودة إلى الإسلام بشكل عام، وهذا ما سيحكم بعض السياسات في التصرف،
سواء فيما يتعلق بالسودان، أو فيما يتعلق بنيجيريا، أو بكينيا، أو ما يتعلق بما
يجري من أسياس أفورقي.
الأمر الثالث: أن القارة في مجملها تعيش حالة من التمزقات والتشرذم
والتفتت والصراعات المركبة والمكثفة وعدم الاستقرار، إلى درجة ليست موجودة
في أي إقليم آخر على الإطلاق، والتي يؤججها الصراع الأنجلو أمريكي -
الفرنسي على القارة، كل الصراعات اليوم نجد فيها الولايات المتحدة في طرف
وفرنسا في طرف، الهوتو والتوتسي كانا في أشد الوضوح: الولايات المتحدة
وإسرائيل مع التوتسي، وفرنسا مع الهوتو لمصالحها ومعهم بعض الدول العربية،
قبل ذلك كابيلا ودعم الأمريكيين له، ليبيريا وما حدث فيها مؤخراً. المسألة
واضحة ومحددة؛ فالجديد هنا أن خط الصراع داخل إفريقيا بدأ يدخل عليه الصراع
الخارجي بشكل مكثف وواضح، هذه هي أبرز الملامح العامة.
- أ. د: حمدي عبد الرحمن: أريد تأكيد هذا المدخل؛ لأننا لا نستطيع أن
نفهم حالة الجزء إلا إذا كان لدينا تصور عام عن واقع إفريقيا في مرحلة ما بعد
الحرب الباردة.. هناك قواسم مشتركة تجمع ما بين غرب إفريقيا والقرن الإفريقي
والجنوب الإفريقي وحتى الشمال الإفريقي. أما الخصوصيات فبالغة الدقة. هذه
القواسم تكفينا مؤنة الاستغراق في تفاصيل الصراع أو التنافس الأمريكي الفرنسي
أو الأوروبي الفرنسي أو حتى بعض القوى الأخرى مثل روسيا والصين، ونحن
بصدد هذه الرؤية تقابلنا ثلاث رؤى كلية تتعامل مع الشأن الإفريقي:
هناك الرؤية الغربية التي تقلل من الأهمية الاستراتيجية للقارة الإفريقية فيما
بعد الحرب الباردة، وتنقل الاهتمام الاستراتيجي إلى أماكن أخرى من العالم كدول
شرق أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق، هذه الرؤية تشيع النظرة التشاؤمية
بالنسبة لمستقبل القارة الإفريقية على اعتبار أن الدولة الإفريقية لا مستقبل لها،
وكونها تعيد تراث اللا دولة؛ حيث انهيار الدولة وإخفاق تجاربها التنموية. هذا
الاتجاه الفكري يعكس توجه الاستراتيجية الأمريكية وليس الفوضى التي تحاول أن
ترسخ مفهوم أنه لا سبيل لنهضة هذه المجتمعات إلا بتبني الوصفة الأمريكية؛
قضايا الدمقرطة والتوصيات الخاصة بالتكيف الهيكلي والاندماج في منظومة
الاقتصاد، ومن هنا فنحن لا نستطيع فهم كثير من المشكلات الأنجلو - أمريكية
بعيداً عن هذا التوجه.
في مقابل هذا؛ هناك المنظور الإفريقي في رؤية القارة الإفريقية ومشكلاتها،
هذا المنظور وإن بدا طوباوياً يؤكد مرة أخرى مفهومات الجامعة الإفريقية والعودة
إلى مرحلة التحرر الوطني، ومفهوم التكامل على المستوى القاري الذي تجسد في
مفهوم الاتحاد الإفريقي، ونرى أحد صوره اليوم في المبادرة من أجل التنمية في
إفريقيا (نيباد) .
ما بين هذين الاتجاهين هناك من يرى الحل الوسطي الذي يزاوج بين
الرؤيتين: بين أن يكون هناك تعاون بين الدول الغربية، وبين النهضة الإفريقية.
أعتقد أن هذه الرؤى الثلاث هي التي يطرحها بعضهم للنظر إلى مستقبل
القارة.
- أ. طلعت رميح: الآن أدخل مباشرة للحديث عن خصائص القرن، والذي
تأتي أهمية التركيز عليه من خلال إدراك البعد الحضاري لهذه المنطقة، والتي
كانت معبراً للحضارة الإسلامية إلى إفريقيا، وهي المنطقة التي دخل منها الإسلام
إلى قلب إفريقيا، وهي المنطقة نفسها التي تحاول الولايات المتحدة إيجاد محل أقدام
لها في القارة، وهي تشرف تقريباً على الوجود الإسلامي من جهتيه في الجزيرة
العربية ووسط إفريقيا، ولو نظرنا إلى الخريطة لوجدنا الصراع بين الهوتو
والتوتسي على حدود هذه المنطقة، وسنجد الوجود الإسلامي في كينيا وفي نيجيريا
متاخم لهذه المنطقة، واعتبار القرن اليوم بوابة تسعى من ورائه الاستراتيجية
الأمريكية إلى إقامة منطقة عازلة من جنوب السودان إلى وسط إفريقيا وما بعد
الصحراء؛ لتفصل بين الكتلة المسلمة في الشمال وبقية القارة، وطرح مسميات
إفريقيا السمراء في مواجهة الشمال الإفريقي الأبيض، وهي النقطة الأخطر كهدف
استراتيجي حضاري رئيس للتفرد بالمنطقة كلها.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: لدي عدة إشارات سريعة يمكن من خلالها
الكشف عن خصائص هذا القرن:
المسألة الأولى: تتعلق بالمفهوم.. مفهوم القرن وخصوصيته وتعريفه وما
يمثله لنا من أهمية استراتيجية كبيرة، ونحن هنا نتحدث عن معانٍ ومضامين
مختلفة لمفهوم القرن الإفريقي. هناك قرن إفريقي بمعناه الضيق، وهو النتوء الذي
يخرج من اليابسة ويضرب المياه. وهناك المعنى الواسع الذي يُضم له السودان
وكينيا وأوغندا، حتى جغرافياً بعضهم يوسِّع ليشمل ما يسمى في الأدبيات
الأمريكية القرن الإفريقي الكبير ليشمل منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة
الإفريقية، بل إن بعضاً امتدوا به ليشمل منطقة الخليج العربي فيما يسمى
بـ «قوس الأزمة» . وعلى هذا فهناك سوء إدراك في التعامل مع المفهومات،
وهناك من يمارس ما يمكن تسميته بتسييس المفهوم لخدمة أغراضه، وهذه نقطة
أردت أن أتوقف عندها وألا أقبل المفهوم على إطلاقه دون تمحيص.
المسألة الثانية: ماهية القضايا الأساسية التي يطرحها مفهوم القرن الإفريقي
والتي يمكن أن أضع يدي عليها وأناقشها، هناك قضايا الصراعات الحدودية
والحروب الأهلية، سواء إثنية أو عرقية؛ لأن القرن الإفريقي - وهذا من السمات
العامة - هو ميراث سياسة استعمارية؛ سياسة تجزئة وتقسيم القارة الإفريقية بدون
مراعاة للمعطيات الثقافية والحضارية والسكانية، وحصر الدول بحدود مصطنعة.
من الأمور الطريفة أن ملكة بريطانيا أهدت أحد الأمراء قطعة من الأرض
هدية عيد ميلاده في منطقة جبل كليمنجارو على الحدود بين كينيا وتنزانيا، فتم
تعديل الحدود استناداً إلى هدية عيد ميلاد. هكذا كان يتم تقسيم الحدود في الدول
الإفريقية.
المسألة الثالثة: هي الاستقرار السياسي؛ إذ لا يوجد استقرار سياسي بالمعنى
المتعارف عليه في الأدبيات؛ فقد شهدت المنطقة على مدى السنوات الماضية عدداً
من الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والتقلبات، إلى حد أن النظام يعاني
من غياب الشرعية السياسية.
القضية الرابعة: وهي قضية المياه؛ لأنه إذا نظرنا إلى القرن الإفريقي بمعناه
الضيق أو الواسع؛ فسنجد أنه منبع نهر النيل؛ وهذا يعني أن مصر تحصل على
٨٥% من حصتها السنوية من هضبة الحبشة، و ١٥% من البحيرات العظمى،
وهذا وفق المفهوم الكبير للقرن الإفريقي. قضية المياه كانت أحد قضايا الاستقطاب
الخارجي الغربي الإسرائيلي في المنطقة، وبالنسبة إلى مصر هي قضية بالغة
الأهمية.
القضية الخامسة: قضايا التنافس الدولي كما أشار الأستاذ طلعت؛ فمن
الواضح هنا أيضاً التنافس الأنجلو أمريكي - الفرنسي. وقضية الوجود الإسرائيلي
في المنطقة. أعتقد أن كينيا، إريتريا، الحبشة هذه المناطق فيها وجود مكثف
لإسرائيل؛ وبصفة خاصة في مرحلة ما بعد الحرب.
القضية السادسة: ما أشار إليه الأستاذ طلعت كذلك حول الوجود الإسلامي،
وأذكر أن الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وكان القرن حلقة اتصال لانتشار
الإسلام.. وهي منطقة ذات تركز إسلامي عالٍ. مثلاً كان يقال إن إثيوبيا أو
الحبشة منطقة التركز المسيحي في شرق إفريقيا، وكانت السياسات الغربية كلها
تتعامل مع هذا الافتراض، واتضح أن هذا الكلام غير صحيح حتى من الناحية
العددية؛ حيث إن عدد المسلمين غالباً ما يفوق عدد النصارى في إثيوبيا.
البيان: وما الذي تعنيه هذه المنطقة تحديداً بالنسبة للرؤية الغربية؟
- أ. طلعت رميح: أريد أن أكمل ما ذكره الدكتور حمدي، ولكن محاولاً
الإجابة عن: لماذا الحرص الأمريكي والغربي على القرن؟
النقطة الأولى: تأتي أهمية القرن الإفريقي أيضاً على خلفية الصراع العربي
الإسلامي - الصهيوني، وكما هو مفهوم هذه المنطقة مارست دوراً حيوياً ومركزياً
أثناء حرب رمضان إغلاق باب المندب، ومن ثم منذ هذه اللحظة واستمراراً لها
وكان وهناك رؤية استراتيجية أمريكية صهيونية إلى ضرورة عدم تكرار هذا الأمر،
وما يرتبط به من فكرة أن البحر الأحمر بحيرة عربية واستبدالها بتدويل البحر
الأحمر، وهو أحد فصول الصراع العربي الصهيوني، ويصبح الوجود الصهيوني
في الشمال، والوجود العسكري الغربي والصهيوني في إريتريا وجيبوتي في
الجنوب.
النقطة الثانية: أن منطقة القرن مقابلة لمنطقة تركُّز البترول العربي في
الجزيرة، ومن هنا تسعى الولايات المتحدة إلى إيجاد قواعد عسكرية منخفضة
التكاليف سياسياً وأمنياً، ويمكن لهذه القواعد أن تعزز المصالح الأمريكية في الخليج،
دون الحاجة إلى زيادة قواتها في الوسط العربي الملتهب، وبهذا تبقى هذه المنطقة
أكثر استقراراً وأكثر أهمية من المناطق الموجودة داخل الأحداث نفسها، وكما
لاحظنا رغم الوجود المباشر للقوات الأمريكية في منطقة الخليج؛ إلا أن أهمية
جيبوتي وإريتريا ظلت أهمية فائقة للوجود الأمريكي والصهيوني في هذه المنطقة.
النقطة الثالثة: تتعلق بالقلق البالغ من الوجود الإسلامي في القرن الإفريقي،
وأحد صور هذا الوجود القبائل في الصومال وعلى أطراف السودان وكذلك في
إثيوبيا، هذا الكمُّ من الوجود السكاني العربي والإسلامي بنسب ليست قليلة في هذه
المنطقة يمثل أهمية لنا، وقلقاً لخصومنا وأعدائنا الحضاريين.
وحيث إن الأبعاد القبلية يمكن أن تؤدي دوراً مهماً؛ كان التحالف الأمريكي
والصهيوني مع جماعات عرقية إفريقية كالدينكا والتجراي والتوتسي، ودفعها
لاتخاذ مواقف ضد العرق العربي وضد الإسلام، هذا الأمر متكرر كنمط عام في
داخل القرن، من هيلا ماريام، أو أسياس أفورقي الذي تحدث عن ذلك صراحة
رغم وجوده في الخرطوم، أو جارنج الذي يقول هذا بشكل واضح جداً إنه ضد
العرق العربي، وأن «الجلابة» في السودان لا يزيد وجودهم على ٣٠ أو ٤٠%.
التعاون مع المجموعات العرقية إذن يهدف إلى مواجهة المشروع الإسلامي
والوجود الإسلامي داخل القارة.
النقطة الرابعة: تتعلق ليس فقط بالوضع الإسلامي الاجتماعي، وإنما
بالوضع الإسلامي الحركي؛ فهذه المنطقة تتميز بنشاط حقيقي، ومن ثَمَّ كان
التحرك مؤخراً ضمن ما بات يعرف بالحرب على الإرهاب.
النقطة الخامسة: هو الوجود العسكري المباشر كما في جيبوتي وإريتريا
وأوغندا وإثيوبيا والصومال، بقواعد عسكرية مباشرة موجودة في هذا المكان ودون
تكاليف سياسية أو أمنية تقريباً.
النقطة السادسة: العمل على إحداث حالة من الانفراط في الدول ذات الأغلبية
المسلمة، وأظن أن تجربة الصومال كانت بتخطيط متقن. وبالمناسبة فإن انشقاق
إريتريا يعتبر الحالة الاستثنائية الوحيدة التي ووفق فيها على أن ينقسم بلد منذ إنشاء
منظمة الوحدة الإفريقية. لم يسمح بانشقاق أي دولة في إفريقيا إلا الحالة الإريترية،
ومن ثم حصل عملية تفريغ من حالة إدارة الدولة بشكل عام، وهذا لم يحدث مثلاً
في جنوب إفريقيا، يعني رغم كل الاضطراب رتب النظام هناك، ولم يحدث
خروج داخل النظام الإفريقي؛ فهم أوجدوا احتلالاً مباشراً بقوات عسكرية وقواعد،
وتعاونوا مع جماعات عرقية في مواجهة العرب والمسلمين في تكسير سلطة الدول.
النقطة السابعة: لا يمكن إنكار حركة التنصير، وبالفعل هناك حركة تنصير
نشطة وضخمة في هذه المنطقة بشكل غير مسبوق. وهذا يعني أن الوضع في
الصومال الآن يصل إلى درجة الرعب، والوضع في جنوب السودان فيه الأمر
نفسه، فالنصارى في جنوب السودان لا يمثلون أغلبية، وأقصى التقديرات كانت
١٧% والباقي مسلمون ووثنيون. الآن أعتقد أن النسب تتغير.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: هناك ما هو أخطر من التنصير كمّاً وكيفاً
لسهولة نشره وقبوله وهو نشر القيم المدنية العالمية الجديدة التي هي غير إسلامية،
وهذا جانب من التنصير؛ ليس التنصير بمعنى التبشير القديم، إنما هو تغيير نمط
الحياة؛ يعني نجد في غرب إفريقيا في مناطق التركز الإسلامي التي تصل إلى
أكثر من ٩٩%، نجد المسلم لا يجد غضاضة في أن يشرب الخمر ويصاحب
النساء، فيتم تغيير نمط الحياة ضمن فكرة العولمة، ومن ثم أصبح التبشير ليس
تحويل محمد ليصبح جون، ولكن يبقى نمطه نصرانياً حتى لو بقي اسمه محمداً.
- أ. هاني رسلان: حتى توضع الملاحظات المهمة التي ذكرها أخواي
الكريمان في نصابها؛ أود أن أشير إلى عدة ملاحظات:
الأولى: أن الإطار العام للقرن الإفريقي لا ينفي خصوصية الكيانات السياسية
القائمة؛ فلا يمكن تصور شكل واحد داخل تلك الكيانات؛ فالحالة السودانية مختلفة
اختلافاً كبيراً عن الحالة الإريترية، مختلفة عن الصومال، مختلفة عن كينيا، عن
إثيوبيا ذلك ما أردت تأكيده هنا.
الثانية: أن الاهتمام الغربي البالغ بهذه المنطقة يأتي في إطار النظام الدولي
الراهن الذي تؤكد فيه الولايات المتحدة الأمريكية على مكافحة الإرهاب وخاصة بعد
١١ سبتمبر، واعتبار الإقليم تعم فيه حالة من الفوضى ويعشش فيه الفقر، ومن ثَمَّ
هو مسرح مناسب لنمو حركات إسلامية مسلحة تقاوم الوجود الأمريكي أو تهدده
سواء في التخطيط أو الاختباء، أو لمهاجمة مصالح الولايات المتحدة. وزاد من
أهمية هذا الأمر حادثتا سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا، وكذلك بعد
قصف الطائرة الإسرائيلية في كينيا.
الثالثة: أن جزءاً من المكون الاستراتيجي الغربي ولا أجد فرقاً كبيراً بين
التفكير الفرنسي والتفكير الأوروبي أو التفكير الإسرائيلي قائم على فكرة الزعماء
الجدد والتحالف مع الأقليات ضد الأغلبية السكانية. إسرائيل تتعاون مع الأقليات،
أمريكا فيها فكرة الزعماء والأقليات الموالية لها استراتيجياً التي تتقبل مصالحها،
ونلاحظ في هذا الإطار أن جون جارنج يتحرك في إطار فكرة الأفرقة أو الأفريقانية،
وله تعاون وثيق مع موسيفيني في أوغندا، ولو لاحظنا أيضاً أن الزيارة الأخيرة
للرئيس الأمريكي بوش في إفريقيا كانت أوغندا محطة أساسية فيها، وحظي بالثناء
والدعم وهو يتدخل في مشكلة جنوب السودان بطريقة سلبية بالتعاون مع أسياس
أفورقي في إريتريا، هناك مشتركات كثيرة بين جون جارنج وموسيفيني؛ تعلما معاً
في دار السلام في تنزانيا، وحظيا برعاية أمريكية، ولديهما مقولات اشتراكية منذ
نشأتهما، ولكنهما تناسياها الآن، وانقلبا إلى التعامل مع الغرب بشكل عام. فهناك
اتجاه الأفريقانية؛ حيث تعاد الروح الأفريقانية على حساب الإسلامية والعربية.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: ما أطلقت عليه الأدبيات الأمريكية القادة
الجدد بغضِّ النظر عن خلفيتهم السابقة ذكر الأستاذ هاني أن أسياس أفورقي ومليس
زيناوي وجون جارنج كانوا من مدرسة واحدة تربَّت على الأفكار الاشتراكية، ولم
تأنف الولايات المتحدة من استخدامهم وتوظيفهم لخدمة مصالحها ضمن النمط الجديد
من القادة، والذي يعني مجرد أن يكون موالياً للسياسات الأمريكية والغربية، وكما
ذكر الأستاذ هاني أن هذا النمط من القيادات ينتمي إلى جماعات الأقلية وفي معظمها
جماعات أقلية مسيحية يعني جون جارنج دينكاوي. نعم! الدينكا هي أكبر قبيلة في
الجنوب، ولكنها تمثل أقلية في جنوب السودان، أيضاً نجد أسياس أفورقي من أقلية
التيجراي، بول كاجامي.. مليس زيناوي ولوران كابيلا، ويوري موسيفيني
أصله من التوتسي. إذن هناك نمط ترتيب جديد من الزعامات التي تعتمد عليها
الولايات المتحدة.
- أ. هاني رسلان: أنا أريد أن أشير إلى المستوى الإجرائي وما يحدث فعلاً
في الواقع ضمن البرنامج الأمريكي لمفهوم القرن الإفريقي الكبير؛ وذلك من باب
أن الولايات المتحدة هي اللاعب الأكبر في العالم اليوم، وهذا مهم في فهم كثير مما
يدور؛ حيث تسعى الولايات المتحدة إلى الدفع بمجموعة من القادة الجدد ونشر قيم
الديمقراطية؛ حتى تصبح أدبيات السياسة الأمريكية مفهومات حاكمة، وهي تسعى
من وراء ذلك إلى أمور منها:
- تطويق وتقليص الثقافة العربية الإسلامية، ومنعها من التمدد والتفاعل الحر
مع الوسط الإفريقي؛ لأن هناك دراسات كلاسيكية تقول إن الإسلام في إفريقيا
ينتشر بشكل تلقائي وبمعدلات عالية جداً، وأسرع من كل جهود التبشير التي يوفر
لها إمكانات هائلة مالية وبشرية وتنموية، وهم يعلمون القدرة الذاتية للإسلام على
الانتشار في إفريقيا، ومن ثَمَّ يكون مصحوباً بثقافة ووجود، فتطويق وتقليص
الثقافة العربية ومنعها من التمدد والتفاعل الحر هذا هدف أساسي.
- وتسعى كذلك ضمن فرض سيطرتها الكونية إلى السيطرة على منطقة البحر
الأحمر وما يتعلق به من امتيازات استراتيجية؛ ولهذا حرصت الولايات المتحدة
على وجود قواعد لها في كل من إريتريا وجيبوتي، وهذا يأتي ضمن حرصها على
الاقتراب من مناطق البترول في العراق والخليج العربي ومنطقة وسط آسيا، وهي
تحرص على أن يكون الوجود الأمريكي قوياً وفي بيئة حاضنة لهذا الوجود، تدعمه
وتضمن استمراره دون قلق، ومن ثَمَّ لا بد من ترتيب الإقليم على هذا الوجود
باعتباره جزءاً طبيعياً.
- أ. طلعت رميح: حتى ندرك أهمية القرن للولايات المتحدة، لا بد أن نعلم
أن إدارة القوات الأمريكية المنتشرة على مستوى العالم تتركز في مناطق: واحدة
في الخليج، والثانية في القرن الإفريقي، والثالثة في آسيا، هذا يعني في ظل
الاستراتيجية العسكرية؛ أن المشكلة على أساس هذه القوات منذ قرابة العقدين حتى
الآن كان القرن الإفريقي أحد مراكزها، وهناك تزايد في هذه الأهمية.
- أ. هاني رسلان: نقطة أخيرة؛ وهي متعلقة بظهور مصالح اقتصادية
حسب ما أعلنه مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية، وهي أن هناك
تخطيطاً خلال سبع سنوات لأن تستورد الولايات المتحدة ٢٠% من احتياجاتها
النفطية من دول إفريقية، وحددها بالاسم؛ منها السودان ونيجيريا وتشاد
والكاميرون والجزائر، هناك أيضاً قدر كبير من المواد الخام والمعادن والثروات
في إفريقيا تنتظر الاستغلال.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: لو تأملنا الفكر الاستراتيجي الأمريكي في
التعامل مع منطقة القرن الإفريقي؛ فسنجد أنه تم التعبير عنه بشكل رسمي وفي
وثائق الخارجية الأمريكية بصفة خاصة منذ عهد كلينتون. سوزان رايس مساعدة
الوزير للشؤون الإفريقية طرحت فكرة مشروع القرن الإفريقي الكبير في الأدبيات
الأمريكية، والذي يتألف من القرن بمعناه الجغرافي شرق إفريقيا امتداداً إلى منطقة
البحيرات العظمى ووسط إفريقيا. إن هذه الدول يجمع بينها الغنى والثراء سواء في
المياه أو في المواد الخام أو في البترول إلى آخره، وأمريكا في المحصلة النهائية
تحتاج إلى المواد الخام، والغرب حينما يتعامل مع الدول الإفريقية يسيطر على
ذهنه المواد الخام والأبعاد الحضارية والدلالات الرمزية التي تمثلها هذه المنطقة،
وكان في أذهانهم أن يتم الاهتمام بإنشاء طرق تربط بين المنطقتين، ومن ثم تسهل
عملية التجارة هذه المنطقة في منظومة التجارة العالمية.
البيان: وما هي الخطوات الفعلية للولايات المتحدة لإعادة رسم خريطة
القرن وفقاً لرؤيتها؟
- أ. هاني رسلان: في تصوري الشخصي أن ما يحدث الآن في السودان
هو حجر الزاوية للسياسة الأمريكية المقبلة في المنطقة، والوضع السوداني حتى
الآن لم يأخذ شكله النهائي، لكن الولايات المتحدة تدفع به في اتجاه معين ليصب في
إطار السياسة الأمريكية في القرن الإفريقي، فيما يتعلق بالسودان بشكل أساسي؛
وأنا أعتبر أنه انطلاق للقرن الإفريقي الكبير؛ حيث يتعلق الصراع أساساً حول
هوية السودان وإجبارها على التخلي عن المشروع الحضاري الذي قامت به ثورة
الإنقاذ منذ مجيئها للحكم سنة ١٩٨٩م، وتعاد الصياغة لإعطاء مساحات أكبر
لتغليب الهوية الإفريقية على حساب الهوية العربية الإسلامية؛ بحيث تكون منطقة
جنوب السودان منطقة عازلة، وتعتبر منطقة صد في الوقت نفسه.
هذا مرتبط باتخاذ إريتريا كقاعدة أمريكية على مدخل البحر الأحمر تتحكم في
أمن البحر الأحمر، وتمثل نقطة ارتكاز للاستراتيجية الأمريكية العسكرية تجاه
منطقة الخليج العربي ومنطقة وسط إفريقيا، وهذا يتم بالتعاون مع إسرائيل وموقعها
على شمال البحر الأحمر بطبيعة الحال الذي يتيح لها التحكم في البحر الأحمر بهذه
الطريقة، وهو تهديد للأمن القومي المصري والمملكة السعودية واليمن، وكلها
دول عربية ذات أدوار فاعلة ومهمة. الصومال ستعاد صياغته فيما بعد؛ بينما
إثيوبيا الوضع فيها مستقر، ومن ثَمَّ ما يدور في السودان من المفترض أنه يتم طبقاً
للمشروع الأمريكي: دولة واحدة بنظامين، وهذا يحقق أغلب الأهداف الأمريكية
في المنطقة؛ بمعنى أنه سيكون في السودان نظام فضفاض يسمح بدولة في جنوب
السودان تقريباً مستقلة، تمثل حائط الصد للعرب والمسلمين والثقافة العربية
والإسلامية من الشمال، لكن في الوقت نفسه تحافظ على صلة ما مع الدولة الشمالية،
وهذه الصلة مطلوبة لضغط وتقليص المشروع الحضاري الإسلامي في الشمال،
هذا الوضع تفضله الولايات المتحدة الآن؛ لأن الانفصال يعني بقاء النظام في
الشمال على إسلاميته؛ بحيث يتخذ ما يريد من سياسات وتحالفات وتوجهات
استراتيجية مختلفة؛ لكن بقاء دولة الجنوب التي هي شبه مستقلة في إطار مع
الشمال يحدد هذه المسألة ويضع عليها كثيراً من القيود، كما أن بقاء السودان في
هذه الوحدة الهشة القلقة مطلوب، فيبقى السودان موحداً؛ لتبقى إثيوبيا موحدة؛ لأن
إثيوبيا تتكون من عدة قوميات، والدستور الإثيوبي يعطي حق تقرير المصير لهذه
القوميات إذا شاءت. وفي الوقت نفسه يتم تفعيل الإقليم الإريتري؛ وهذا فيه نوع
من التلاقي بين أطماع أسياس أفورقي ورؤيته لذاته ولدولة إريتريا، وهذا يتلاقى
أيضاً مع الاستراتيجية الأمريكية والمصالح الإسرائيلية في المنطقة، وهو ما
سينعكس لاحقاً على الصومال، وما يمكن أن نسميه الأطر العامة للتحركات داخل
القرن الإفريقي.
* السودان:
البيان: لو أخذنا خصوصية كل حالة بشيء من التفصيل؛ فما الذي سيؤول
إليه الأمر في الحالة السودانية؟ وما أثر ذلك على الأمن القومي للمنطقة العربية؟
- أ. هاني رسلان: ما يجري في السودان هو حجر الارتكاز لمستقبل
المنطقة، والذي يعطينا إضاءة كاشفة لهذه الاستراتيجية في الفترة المقبلة. وكما
أسلفت: ما يحدث الآن في السودان هو إعادة صياغة السودان في اتجاه أفرقته على
حساب الهوية العربية والإسلامية؛ وهذا ليس على الجانب الثقافي فقط وإنما يتداخل
معه البعد الأمني والاقتصادي والاستراتيجي. دولة أو منطقة جنوب السودان الذي
يتكون من الولايات الجنوبية الثلاث المعروفة، والتي هي «أعالي النيل»
و «بحر الغزال» و «الاستوائية» ، سيعطى مواصفات أو سلطات دولة
ذات صلاحيات مطلقة للحاكم الجنوبي، ويتم تقاسم الثروات، ويسيطر الجنوبيون
على وزارة الدفاع، ويكون لديهم بنك مركزي يرتبط شكلياً بالبنك المركزي في
الخرطوم، كما ستكون لهم هيمنة مطلقة في حكم الجنوب، وأن يتم وضع ترتيبات
تجعل من الوحدة شيئاً مستحيلاً بإجراء استفتاء بعد وضع انتقالي لمدة ست سنوات،
مع صلاحيات مطلقة للجنوب مع المشاركة في حكم الشمال، وحق استخدام الفيتو
على كل القرارت السيادية للرئيس السوداني؛ بما في ذلك تعيين السفراء والوزراء،
وتعيين الولاة، وإعلان حالة الطوارئ، وإجراء انتخابات ... ، إذا تأملنا هذه
الحالة؛ فسنجد أن قضية السودان مفتوحة على احتمالين:
الأول: أن فترة ست السنوات تكون فترة تهيؤ وإعداد لدولة جنوب السودان
المقبلة؛ لإنشاء البنية التحتية من طرق ومؤسسات لتدعيم استقلال الجنوب.
الاحتمال الثاني: أنه لا يتم الانفصال بحيث يبقى جون جارنج منفرداً بحكم
الجنوبيين وفي الوقت نفسه يشارك في حكم الشمال، ويملك فيتو على الشمال.
إذا تأملنا هذين الاحتمالين فسنجد أن دولة جنوب السودان المقبلة دولة غير
قابلة للحياة؛ بمعنى أنه ليس لديها أي بنيات تحتية على الإطلاق، فلا يمكن
الانتقال من مكان إلى آخر إلا عبر الغابات والأحراش والطرق البرية الوعرة،
كذلك ليس هناك ثقافة واحدة، وليس هناك لغة مكتوبة ولا قابلة للتداول. هناك لغة
عربية ركيكة.
باختصار: الجغرافيا والطبيعة والسكان في هذه المنطقة في مرحلة ما قبل
التاريخ، هذه الدولة بهذا الوضع غير قابلة للحياة، تعتبر طبقاً للثقافة التي زرعها
المنصِّرون أن الشمال العربي المسلم هو العدو «الجلابة» ، وهو الذي استرقَّ
أجدادهم وآباءهم، ومن ثم هذه الدولة لكي تستطيع الاستمرار ولكي تتبلور في أطر
محددة لها الحد الأدنى من قابلية الحياة؛ لا بد أن تعتمد اعتماداً على الخارج؛ فمن
هو الطرف المرشح لذلك..؟ هو الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. هذه
الدولة سواء انفصلت أم لم تنفصل مطلوب بقاؤها بهذا الشكل، وتكريس هذا
الوضع في أطر قانونية متفق عليها تحظى برقابة إقليمية ودولية للتطبيق بضمانات،
ومن ثم ستتحكم في عدة قضايا. قضية المياه: ستكون هناك قيود على حصة
مصر من المياه القادمة عبر جنوب السودان إذا انفصل، وطبيعي أن مصر دخلت
في حد الفقر المائي؛ بمعنى أن الإيراد القادم لا يغطي الحد الأدنى من الاحتياج،
وهذا سيتزايد في السنوات المقبلة. النقطة الأخرى: ستضع قيداً على شمال
السودان في إطاره العربي والإسلامي؛ بمعنى أن السودان ليس عربياً وليس مسلماً
وإنما هو خليط من العروبة والأفرقة والوثنية والمسيحية وخلافه؛ فمن ثم هناك
قيود على تفاعله مع إطاره العربي والإسلامي، ونحن لدينا مثال واضح جداً في
هذه القضية، وهو ما حدث بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا سنة ٢٧٩١م؛ حيث إن
الرئيس النميري لم يستطع أن يشارك في اتحاد الجمهوريات العربية في ذلك الوقت
الذي كان بين مصر وليبيا وسوريا بسبب هذه الاتفاقية؛ لأنه سيواجه معارضة
من الجنوبيين الموجودين رغم أن الاتفاقية المبرمة في ذلك الوقت كانت تتحدث عن
اتحاد فيدرالي وليس كونفدرالياً.
إسرائيل سيكون لها دور، وهذا سيؤدي إلى التأثير في أمن البحر الأحمر،
وسيكون حائلاً دون التعاون بين مصر والسودان في المستقبل، ويحوِّل السودان
بشكل أو بآخر إلى منطقة عازلة للمد العربي الإسلامي فيها وجود إسرائيلي.. فيها
هيمنة ونفوذ أمريكي، وانطلاقاً من هذا المكان ستعاد صياغة وسط إفريقيا وشرقها
بما فيها القرن الإفريقي سواء الصغير أو الكبير، إثيوبيا في هذه اللحظة لديها تعامل
مع حكومة الخرطوم؛ لكن في إطارها الاستراتيجي الأبعد ليس من مصلحتها أن
يكون هناك سودان موحد قادر على التنمية والنهوض له صلة بالعالم العربي
والإسلامي، ولكن لها مصلحة في بقاء السودان منقسماً ومقيداً طبقاً للصيغة التي
تصاغ الآن، بينما يبقى الصومال في حالة سيولة كاملة.
- أ. طلعت رميح: الأستاذ هاني طرح قضية السودان باعتبارها شيئين:
- أنه النموذج لما يجري في المحيط: نموذج صراعات، ونموذج إدارة
أمريكية، ونموذج تدخل، ونموذج حالة دولة.
- ثم باعتباره وجهاً من أوجه الاشتباك مع جميع دول المنطقة؛ ومن ثم
عكس العلاقات مع أوغندا ومع إريتريا.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: جانب كبير من مكونات السياسة الأمريكية
نحو السودان هو تأثير المنظمات الأنجليكانية على صانع القرار، هؤلاء مثلاً
يرفعون شعارات مثل: ادفع دولاراً تنقذ حياة السودان. وهذه عادة ما تستقبل كل
الجماعات النازحة من الجنوب، وتحاول أن تعلمهم تعليماً مسيحياً، وتنشئهم
مسيحياً، ثم تدفع بهم إلى المعترك.
- أ. طلعت رميح: اليوم جميع عمليات الإغاثة التي تتم في جنوب السودان
تقريباً تتم تحت إشراف مؤسسات تنصيرية.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: فيما يتعلق بالحالة السودانية، لو لم يكن
هناك دعم للمتمردين من الدول الغربية بل ومن دول عربية أيضاً، لما كنا سمعنا
عن مشكلة في السودان ... المعارضة السودانية شمالها وجنوبها غير قادرة على
الإطلاق على أن تحقق نصراً عسكرياً حاسماً.
- أ. طلعت رميح: هناك ملاحظة بالغة القوة وبالغة الذكاء: لا يوجد في
الجنوب السوداني أي مقومات لدولة؛ إذن من أين للتمرد في السودان هذا التسليح،
وهذه القوة من أين؟!
- أ. هاني رسلان: من كينيا ومن أوغندا وعبر منظمات الإغاثة التي لا
تقوم في الحقيقة بأعمال إغاثية، وإنما تقوم بأعمال مساندة للتمرد؛ حيث تقصر
جهودها على المناطق الخاضعة لجون جارنج، وتحمّل الطائرات أحياناً بأسلحة.
هناك إمداد مالي. والخلاصة أن حركة جون جارنج في جنوب السودان لا يمكنها
البقاء لشهرين متتاليين على الإطلاق دون الدعم الغربي سواء المباشر أو غير
المباشر، حتى نفقات قادة التمرد الشخصية، تأتي من الغرب؛ لأن دخل جنوب
السودان منذ الاستقلال حتى هذه اللحظة سواء في الحرب أو السلم هو من إيرادات
الشمال الضحلة المحدودة.
معلومة مهمة: وثيقة «ناكورو» غير المتوازنة، وما انبنى عليها فيما بعد
والتي أعطت للمتمردين الجنوبيين أعلى مما كان يطالبون به أنفسهم، هذه الوثيقة
صاغها باحث أمريكي مرتبط باليمين الصهيوني اسمه «جون برندر جاست» ،
وهو الذي صاغ الوثيقة لوسطاء «الإيجاد» باعتباره خبيراً في الشأن السوداني،
ولهذا نلحظ انعكاس هذا في التزام اليمين الصهيوني في قضية جنوب السودان
وصياغة هذه المنطقة بشكل عام.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: أريد أن أختم بمثال وهو يصب في هذا
السياق في الحالة السودانية: كبير أساقفة كنتربري السابق الدكتور جورج كيري،
حينما أراد أن يزور جنوب السودان في التسعينيات، تقدم بطلب إلى السفارة المعنية
والسفارة حسب المتعارف عليه في العرف الدولي باعتباره شخصية لها وزنها وثقلها
الديني ترتب زيارة من قِبَل الحكومة، فما كان من الدكتور جورج إلا أن رفض
برنامج الزيارة الذي أعدته له الحكومة السودانية، ورفض أن يتقدم بهذا الطلب؛
فماذا فعل جورج كيري بعد ذلك؟ قام بزيارة جنوب السودان من خلال كينيا.
فكيف نفسر مثل هذا الموقف حتى في العرف الدولي، وفي العلاقات السائدة بين
الدول؟! هذا اختراق فاضح.
- أ. طلعت رميح: الفكرة الأوضح عندي هي أن السودان بلد خطر للغاية؛
لأنه البلد الوحيد الذي إذا تمكن من إحداث تنمية وبناء دولة؛ فسيكون أقوى بلد في
المنطقة، وسينقل الوضع العربي والإسلامي في هذه المنطقة بشكل كبير جداً، كما
تعلمون البترول الموجود في هذا المكان فاق التقديرات الحقيقية؛ وهذا جزء من
سعي الأمريكان نحو المنطقة؛ لأن تقديراتهم أن البترول هناك قد يفوق البترول
السعودي. الأمر الثاني: بلد فيه من ٢٠٠ إلى ٣٠٠ مليون فدان صالحة للزراعة،
بينما بلد مثل مصر في أعلى معدل لم تتخط ٧.١ ملايين فدان. الماء متوفر في
كل مكان. بالفعل امتداده الجغرافي مخيف! وهذا تقدير كثير من الاستراتيجيين،
ومن ثم فإن فكرة الإنقاذ في السودان بالفعل كانت ضرورة تفكيك إثيوبيا، وإثيوبيا
هي التي مارست الدور الأخطر في إعاشة التمرد، وأنه كان هناك صراع في
المنطقة بين هذه الحضارة وتلك الدولة في المنطقة. الغرب تدخل فساند إثيوبيا،
والغرب دفع بأوغندا إلى المعترك، والمحيط العربي تخلى عن السودان، لم يحدث
أن هناك بلداً حوصر هذا الحصار بخلاف العراق كما حدث للسودان، وهو اليوم
مفتوح عليه جبهات من الجنوب والشرق والغرب! ?
* إريتريا:
البيان: تبدو الحالة الإريترية مليئة بالتناقضات، مشبعة بالكره لكل ما هو
عربي وإسلامي: كيف يمكن أن نفسر هذه الحالة؟
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: التقسيم هو أحد آليات العمل الأمريكي في
المنطقة، ولم تنج دولة واحدة من عملية الانفراط، إريتريا هي الحالة الاستثنائية
وكينيا.
- أ. هاني رسلان: بالنسبة للحالة الإرترية الاستقلال الإريتري كان بناء
على أسس قانونية في قرار الأمم المتحدة بإجراء استفتاء، لكن هيلاسيلاسي لم يقم
به، ومن ثم كان هناك مسوِّغ ما قانوني للاستثناء في هذه الحالة، هذه موجودة في
حالات أخرى بما فيها حالة جنوب السودان.
- أ. طلعت رميح: أتصور أن القرار الصادر الخاص بإريتريا يمثل
خصوصية في التطبيق. وفي المقابل جيبوتي؛ ألم يكن لها حق الاستقلال عن العلم
الفرنسي؟ لكن متى استقلت جيبوتي؟ لقد ظل الفرنسيون يحتلونها، وضربوا
بعرض الحائط كل ما صدر من قرارات لمجلس الأمن.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: وهناك قرارات خاصة بفلسطين!
- أ. هاني رسلان: فيما يتعلق بالحالة الإريترية نلاحظ الآن أن ما يفعله
أسياس أفورقي في الداخل عكس ما تنادى به الاستراتيجية الأمريكية من مسألة
الدمقرطة، ومسألة حقوق الإنسان، ومسألة تداول السلطة، ونشر القيم الأمريكية
في الداخل، وتتغافل عنه الولايات المتحدة؛ لأنه يحقق لها مصالح استراتيجية.
معروف أنه ينتمي إلى أقلية (التجراي) عرقياً، وينتمي إلى الديانة المسيحية التي
تتعادل مع المسلمين في النسبة؛ تقريباً ٥٠% لكل منهما. الآن أسياس أبعد اللغة
العربية عن التعليم، ويتخذ مواقف حادة للغاية من العرب والمسلمين وقضاياهم،
وأذكر على وجه الدقة: دولة قليلة الموارد ينتهك نظامها كل الأعراف المتعلقة
بالحريات، ويقوم الآن بسجن أعداد هائلة حتى من رفاقه الأساسيين الذين خاضوا
حرب الاستقلال لعشرات السنوات، ولا يبالي بأي احتجاجات أمريكية أو أوروبية.
- أ. طلعت رميح: بل لنبقى في هذه النقطة تحديداً: الوضع الإريتري كان
وضعاً مسيحياً محدداً؛ هذا هو العامل الأساسي في الاعتبار في تقديري في كل ما
حدث.
- أ. هاني رسلان: حتى هذه اللحظة المسيحيون في إريتريا لا يشكلون
أغلبية.
- أ. طلعت رميح: هذا مفهوم، وهو من ضمن المفارقات؛ أن السعي
الراهن في كل المنطقة يهدف إلى أن تتركز كل السلطات السياسية في أيدي الأقلية
النصرانية، رجوعاً لقاعدة الوضع في إفريقيا كله؛ فهنا مسألة التقسيم وردت:
إثيوبيا نفسها قُسِّمت، السودان مقسّم، الصومال أصبح مقسماً إلى أربعة أو خمسة
أقسام؛ الأوجادين، وأرض الصومال، وهناك صومال حسن صلاد.. هذه هي
الخطة التي ساروا عليها طوال الفترة الماضية: تنصير.. تغيير.. تقسيم، هناك
أيضا فكرة المعونات؛ لأنهم مارسوا أدواراً بالمعونات في مجال التنصير.
هذه خصوصية المكان وهذه وضعيته.. لكن الملاحظة الأهم أن غالبية السكان
في هذه الدول جميعاً هي أغلبية مسلمة، لا يوجد أي منطقة في إفريقيا جرى فيها
هذا التركيز الشديد من قِبَل الأمريكان والإسرائيليين في النشاط كمنطقة القرن، كما
تتذكرون أن الزيارات الأمريكية لا بد أن يكون فيها دولتان أو ثلاثة إلى جانب
بعض الدول المتفرقة في الغرب أو الجنوب، لكن لا توجد منطقة حظيت بهذا
التركيز والاهتمام الأمريكي والصهيوني سوى هذه المنطقة؛ وهذا يعود إلى الأغلبية
الإسلامية وإلى ضرورة الحرب على الإسلام.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: منذ وجود الدولة العبرية في أيام حرب
فلسطين كان يسود التفكير الصهيوني، وهو أنه لا بد أن تحرص العسكرية
الصهيونية على أن تحصل على موطئ قدم في البحر الأحمر بأي ثمن، وهذا ما
تحقق لإسرائيل بحصولها على مرفأ إيلات. في الحقيقة أن البحر الأحمر والذي يعد
بحيرة عربية لهذه المشاطأة العربية الكبيرة له، وقع له: إسرائيل في الشمال عن
طريق إيلات، وإريتريا في الجنوب؛ فالوجود الصهيوني في هذه المنطقة يعطيها
أهمية خاصة، ولذلك تقليدياً إسرائيل موجودة مع منجستو وهيلاسيلاسي، ومع
العهد الحالي؛ مع كل التغيرات التي شهدتها هذه النظم. إسرائيل موجودة في القرن
الإفريقي بشكل كبير، وهذا الوجود مرتبط بالوجود الأنجلو أمريكي.
- أ. هاني رسلان: أسياس لما قام باعتقال كل رفاقه، وكان منهم وزير
الدفاع ووزير الخارجية وكبار قادة الجبهة الشعبية الحاكمة الآن في إريتريا، وصل
احتجاج من الاتحاد الأوروبي حمله سفير إيطاليا في إريتريا وهو ممثل الاتحاد
الأوروبي، وذهب ليسلم الرئيس أسياس احتجاجاً على خرق حقوق الإنسان؛ فما
كان من أسياس إلا أن قام بطرد السفير من إريتريا بالكامل، ومع ذلك الآن هو
الطفل المدلل للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة؛ لأن مشروعه الأساسي
بالإضافة إلى ما تفضل به الأستاذ طلعت أنه ليس لديه أي موارد ولا إمكانات لا
بشرية ولا ثروات على الإطلاق، لكن كل ما يعتمد عليه هو أنه يريد أن يتحول
إلى إسرائيل أخرى في جنوب البحر الأحمر عند باب المندب، يتحالف مع قوى
عظمى يمثلها في المنطقة، ويكون الناطق باسمها والحارس لمصالحها، ومن ثَمَّ
يكتسب قيمته من هذا التحالف؛ فهو يدرك الموقع الاستراتيجي المهم على مدخل
البحر الأحمر، ويحاول تسويق هذا الوضع للحصول على مساعدات ودعم خارجي،
ولبقاء نظامه الديكتاتوري واستمراره.
- أ. طلعت رميح: الدول العربية أيضاً مارست دوراً خطراً جداً في الحالة
الإريترية في أنها صنعت فجوة استراتيجية سمحت لإريتريا أن تكون دولة لها
حضور.. إريتريا أصبحت دوله تخوض حرباً ضدك.. في حين لا يتجاوز سكانها
٣.٨ ملايين نسمة، دولة بدائية جداً بلا أي مصادر وثروات ومع ذلك تتمكن من
أن تشن حرباً على إثيوبيا، وتشن حرباً على اليمن وتساند تمرداً ضد السودان،
وتتولى إعادة صياغة القرن الإفريقي كله؟! هذا لم يحدث في التاريخ. نحن فعلاً
في وضع استثنائي غير معتاد.. والفجوة الاستراتيجية التي سمحت لإريتريا بهذا
أن الصومال تكسَّر، وإثيوبيا تمر بحالة من الضعف، والسودان تتآكل بسبب حالة
الجنوب، في الوقت الذي كان فيه اليمن يتوحد، والدور السعودي والدور المصري
ضعفا في المنطقة، ومن ثم أصبحت إريتريا في هذا الفراغ الاستراتيجي دولة لها
قدرة ولها معنى ولها قيمة، وأياً كانت المقدرات القومية لدى إريتريا من خلال
ثرواتها وسكانها ووضعها، فإن ذلك لا يؤدي على الإطلاق لأن تكون دولة محورية
ولا دولة إقليمية بأي معطى من المعطيات.
* الصومال:
البيان: بالنسبة للصومال ألا ترون أن هناك مؤامرة غربية تدور عليه ليبقى
مقسماً؟ وما الذي تريده أمريكا من الصومال، وما الذي لا تريده له؟
أ. د. حمدي عبد الرحمن: أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة وإن كانت في
بعض الأحيان واضحة. إن هناك ترتيباً لمنطقة القرن الإفريقي منذ انهيار
الزعامات التقليدية في أول التسعينيات، (هيلا ماريام، وسياد بري) في مؤتمر
لندن، «وديفيد كوهين» مسؤول الملف الإفريقي في الإدارة الأمريكية وهو
يرتب للمسألة الإثيوبية، وتم أيضاً تهجير يهود الفلاشا من إثيوبيا وعبر السودان
إلى إسرائيل، أمريكا قامت بعملية رسم للخريطة الاستراتيجية للقرن الإفريقي؛
والدليل على ذلك أن المتابع لمنطقة القرن الإفريقي والصراعات فيها يجد أن
الصومال كانت مرشحة لتكون دولة متجانسة ليس فيها انقسامات؛ فالجميع مسلمون
يتحدثون لغة واحدة، حوالى ٩٩% أو ٩٩.٥% مسلمون، لغتهم واحدة،
والحرفة السائدة الرعي، ولديهم مطامح وآمال مشتركة نحو إقامة الصومال
التاريخي أو الصومال الكبير. على الوجه المقابل نجد إثيوبيا دولة إمبراطورية
قامت على التوسع والغزو تاريخياً؛ فالمفترض أن الذي يتفكك هو إثيوبيا وليس
الصومال. الترتيب الذي حصل أنه وُضعت صيغة ما للحكم، وأدت إلى وجود
دولة فيها سلطة مركزية وهناك مؤسسات للدولة، بغضِّ النظر عن طبيعة نظام
الحكم، ديمقراطياً كان أو غير ديمقراطي في الحالة الإثيوبية.. وفي الحالة
الصومالية تفككت الدولة وانهارت تماماً، هل هذه مسألة عفوية..؟!!
- أ. طلعت رميح: تعبير فكرة المؤامرة تعبير يروج في أوساطنا الثقافية
للتعمية على فكرة التخطيط الاستراتيجي، المؤامرة هذه يمكن تشبيهها بالسرقة
وعمليات السطو، لكن الذي نواجهه ونتحدث عنه هو تخطيط استراتيجي له مراحل
وأهداف تتحقق، ومن ثم السؤال لا يكون هو نظرية المؤامرة بمعنى الأحلام
وأضغاث الأحلام والأحاجي والألغاز. الذي نتعامل معه هو وجود خطط استراتيجية
على مستويات حضارية أو دينية أو ثقافية أو عسكرية أو اقتصادية، وهذا أمر
الولايات المتحدة لا تخفيه ولا فرنسا تخفيه، ولا أي أحد يخفيه، ومن ثَمَّ ما نتعامل
معه ليس فكرة المؤامرة بمعنى التآمر على نمط قلب نظام الحكم في الخفاء، الفهم
الصحيح هو أننا إزاء خطط استراتيجية بعيدة المدى، نحن يجب أن نصوب هذه
النقطة ونقول نحن بصدد تخطيط استراتيجي أمريكي لهذه المنطقة يقوم على فكرة
الفك والتركيب، وأن الديمقراطية لا تعني لهم في إفريقيا سوى التفكيك، وأنه لم
يثبت حتى الآن أنه ذهب إلى توحيد منطقة وهذه مسألة طبيعية وضرورية؛ لأن
التركيبة المستقرة في كل دولة تركيبة قائمة على نفوذ: إما للفرنسيين، أو الألمان،
أو البريطانيين. وهو يريد الدخول: كيف يدخل؟ يعيد التفكيك والتركيب مرة
أخرى. ولماذا هو يطرح حقوق الإنسان والأحزاب؟ ليس لإيمانه بهذه القيم، ولكن
لمسائل الفك والتركيب؛ ولهذا أقول: لا بد من أن نستبدل فكرة المؤامرة بفكرة
التخطيط الاستراتيجي؛ لأن فكرة التخطيط الاستراتيجي تريحنا من مسألة الداخلي
والخارجي؛ لأنه لا يوجد أي نظام محلي غير مرتبط بتقديرات استراتيجية خارجية؛
سواء في الفساد أو في الديمقراطية أو في غيرهما.
البيان: إذن النية الأمريكية هي بقاء ما كان على ما كان في الصومال، ألا
تريد التدخل المباشر كما حدث في العراق؟
- أ. طلعت رميح: المخطط العام هو التفكيك اليوم، ولو كان هناك حكومة
إسلامية قوية في الصومال؛ فهل ستنجح أمريكا في وضع أقدامها هناك؟ المطلوب
أن يبقى الصومال مفككاً؛ لأنه لو كان هناك حكم آخر لكان يمكن أن يوجد تصور
آخر. وفي تقديري أنسب حالة إلى الحالة السودانية هي التي لا ينطبق عليها هذا
والحالة الإريترية. أنسب حالة للوضع في الصومال هو بقاء الحال على ما هو
عليه مجرد تحويله إلى مكان على هذا النمط بشرط واحد ألا يكون هذا مجالاً لنمو
النشاط الإسلامي الجهادي، ومن ثم كل ما يحدث من تطورات الآن في الصومال
كلها في الاتجاه نفسه لا السماح بوجود حلول عربية، بل حتى الآن تمنع الولايات
المتحدة وإسرائيل وحدة جمهورية أرض الصومال المشكلة وبها وجود إسرائيلي
ليس بالقليل، وبالعكس تسعى لأن تكون إسرائيل هي أول دولة تعترف بها. الجزء
الآخر من الصومال موجود الآن تحت السيطرة الإثيوبية ممثلاً في إقليم أوجادين.
الجزء الثالث من الصومال مقسم ولا يراد أن يقام له دولة، ومن ثم هذه هي الحالة
النموذجية بالنسبة للمخطط الأمريكي والإسرائيلي، سواء لأنه يتيح أكبر فرصة
للتنصير، وسواء أن هذا يضعف الوجود الإسلامي، وسواء أن هذا لا يجعل هناك
حالة من الدفاع الذاتي في المنطقة. في تقديري أن هذا الحال النموذجي، وساهم
في هذا حالة الضعف في القلب العربي والإسلامي، وعدم اتخاذ مبادرات ومساندة
الصومال مساندة مالية من قِبَل الدول العربية والإسلامية حتى الآن، ومن ثَمَّ المعيار
الوحيد أن أوجادين تحت الاحتلال الإثيوبي وأرض الصومال تحت سيطرة صهيو
أمريكية، وبقية الصومال مقسمة ومفتتة؛ وهذا التقسيم بالمناسبة هو التقسيم نفسه
الذي كان سارياً في نهاية الحرب العالمية الثانية وهو ما كان يسمى بالصومال
الفرنسي، وما كان تحت إثيوبيا، وما كان تحت إيطاليا، وما حصل بعد الحرب
الثانية تم الانتهاء منه وإعادتنا إليه مرة أخرى.
- أ. هاني رسلان: الذي يهم الولايات المتحدة في هذه اللحظة في الصومال
هو السيطرة الأمنية لمنع أي نشاط إسلامي باتجاه معاد للولايات المتحدة؛ خصوصاً
أن المناطق التي تضعف فيها السلطة المركزية أو تنعدم يكون هناك إمكانية للتمدد
وإمكانية أوسع للحركة والتدريب. لكن لا يعني هذا أن الولايات المتحدة تنوي
التدخل في الصومال بالصورة نفسها التي حدثت في العراق؛ لأن الذاكرة الأمريكية
مثقلة بالمشهد الصومالي، وهي الآن تعاني من التجربة العراقية وتخشى من التواجد
في ظل حالة من الفوضى.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: أنتم تحيزتم للسودان، وأنا أتحيز للصومال؛
لأن الصومال يعكس كل القضايا المتشابكة التي تحدثتم عنها من الاستعمار
والتخطيط الاستراتيجي الذي تحدث عنه الأستاذ طلعت؛ لأن الصومال الكبير
بمعناه التاريخي كان يشمل خمس مناطق، وهذه هي الدلالة الرمزية للعلم الصومالي
الذي كان يتألف من خمس نجوم تمثل المناطق المفقودة بالنسبة للصومال. كان
هناك ما عرف بالصومال البريطاني، والصومال الإيطالي، وهما ما استقلا وشكَّلا
ما عرف بجمهورية الصومال. أما الإقليم الثالث: هو عفر وعيسى وهو ما اتفق
على تسميته باسم «جيبوتي» وهو الصومال الفرنسي. الإقليم الرابع هو إقليم
«الأوجادين» الذي تم ضمه لإثيوبيا، وهذا أدى إلى مصادمات وحروب دولية
بين الصومال وإثيوبيا، كما اصطلح على تسميتها بحروب القرن الإفريقي.
الإقليم الخامس وهذا إقليم منسي في الحقيقة وكثير من الناس لا يذكره هو الإقليم
الشمالي بالنسبة لكينيا والذي تم ضمه ويعرف بـ: «NFD» المقاطعة الشمالية
الحدودية اختصاراً لـ: «northern fronter distreet» ، وهذه تم الإطباق
عليها من زمن، كان كينياتا الزعيم الكيني يقول للصوماليين: إذا أردتم الاحتفاظ
بالهوية الصومالية فاركبوا جمالكم وارحلوا. يعني طبق قضية الحكم الذاتي على
الأشخاص وليس على الإقليم، هذا كان الحلم التاريخي للصوماليين كما تحدثنا قبل
ذلك في أن الصومال له خصوصية واحدة: كلهم يحدثون لغة واحدة، كلهم
يمارسون نشاطاً اقتصادياً واحداً، دينهم جميعاً الإسلام، لديهم مجموعة إثنية واحدة،
تم تقسيمهم بهذا الشكل؛ وهذا مخطط استعماري في مقابل المشروع الإثيوبي ولا بد
من المقابلة بين النموذجين. لو تحقق المشروع الصومالي لأصبحت دولة قوية
ودولة كبرى، إثيوبيا لا تمتلك مقومات الشعب المتجانس، ولو فتحنا المجال
للقوميات الست الموجودة في حق تقرير المصير لتفتت إثيوبيا في ظل ما اتفق عليه
من حق تقرير المصير، هنا نجد حق تقرير المصير على ورق ولا يمارس، أنا
أؤيد ما تقول من أن التخطيط الاستراتيجي الآن ودعونا نقبل المصطلح، هو لتفتيت
الصومال؛ لأن وحدة الصومال ليس في مصلحة الغرب؛ لأن معنى وحدة الصومال
دولة مركزية قوية، معناه حذف «جيبوتي» و «إريتريا» وإنهاء مشكلة
جنوب السودان؛ فتدخل الدولة المركزية في صِدَام مع إثيوبيا وتأخذ الأوجادين مرة
أخرى، ستتدخل في معادلة الصراع مع المتمردين في جنوب السودان، فأعتقد
أنه هذا ليس في مصلحة الأمريكان. الأمر الثاني أن الأمريكان لن يتدخلوا بشكل
مباشر كما في حالة العراق، في الحالة الإفريقية كما تعكسها خبرة ليبيريا حالياً أن
الأمريكان يتدخلون من خلال قوات إفريقية أو قوات دولية، ويقومون هم بتقديم
المساعدات اللوجستية، ولهم في الصومال تراث سيئ؛ فأي رئيس أمريكي لن
يفكر في دخول الساحة الصومالية دخولاً مباشراً؛ لأن الأمور تسير وفق مراده،
هذه الكيانات المفككة: أرض الصومال، جمهورية بلاد بوند، ومقديشيو،
وصلاد حسن، هذه الكانتونات يسهل عليه الضغط عليها ويفتش عليها، ومن
ثَمَّ يتحكم في هذه الكيانات الضعيفة. إذن! أنا أدعم الرأي القائل: ليس في
مصلحة القوى الفاعلة وحدة صومال بعد الاستقلال؛ لأن هذا معناه أنه سيعيد مرة
أخرى وحدة المناطق المفقودة من الأوجادين وجيبوتي وهكذا، وهذه معناها
التأثير على رسم الخريطة الاستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي.