للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قراءة في كتاب

كتاب الدبلوماسية

رؤية كيسنجر للنظام العالمي الجديد

حسن الرشيدي

ما هو كنه النظام العالمي الجديد؟ وما هي مكوناته وبنياته وطبيعة التفاعلات

بين هذه البنيات؟ ثم ما هي غايات هذه البنيات وأهدافها؟

كل هذه لا تزال أسئلة محيرة اختلف كثير من المراقبين والمحللين حولها.

فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط نظام القطبين عالمياً الذي ظل معتمَداً

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر الثمانينيات انقسم المحللون

الاستراتيجيون إلى فريقين:

١ - فريق يؤكد أن النظام العالمي ما زال في طور التشكيل ولم تتبلور

ملامحه بعد.

٢ - فريق آخر يقول: إن هناك نظاماً جديداً قد تبلور في الساحة العالمية وإن

كان يحتاج إلى تعديلات معينة لوضعه في صورته النهائية.

وهنري كيسنجر هو وزير خارجية أمريكا الأسبق وصاحب سياسة (الخطوة

خطوة) ويشتهر بالسياسة المكوكية أسلوباً سياسياً متبعاً ونهجاً دبلوماسياً للوصول إلى

الأهداف المرسومة التي ذاع صيتها خاصة في الشرق الأوسط في أعقاب حرب

أكتوبر ونجح من خلالها في التمهيد للتسوية السلمية بين مصر و (إسرائيل) .

عمل كيسنجر محاضراً في الشؤون الاستراتيجية والسياسية في جامعات

متعددة، ومن المعروف أنه يهودي الديانة، ولا تزال آراؤه وطروحاته تجد طريقها

لدى صانعي القرار في البيت الأبيض.

ومؤلَّفه الأخير: (الدبلوماسية) كتاب ضخم يقع في واحد وثلاثين فصلاً يطل

منها الكاتب على النظام العالمي الجديد، ويحاول تقديم مشورته واقتراحاته لصانعي

القرار الأمريكي، وسوف نقوم بالتركيز على الفصلين الأول والأخير؛ لأنهما

بمثابة التمهيد والخلاصة لنظريته التي يطرحها، وتبقى في النهاية رؤيته نظرة

أمريكية ترى في أمريكا حقيقة الماضي والحاضر وحلم المستقبل.

يبدأ كيسنجر رؤيته قائلاً: (إن الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب

الباردة هي القوة العظمى الوحيدة المتبقية ذات القدرة على التدخل في أي جزء من

العالم، إلا أن القوة غدت أكثر انتشاراً، وقلَّت القضايا التي تعتبر القوة العسكرية

مناسبة لها، ودفع الانتصار في الحرب الباردة بأمريكا إلى ممارسات كانت دائماً

موضع شك من جانب الساسة والمفكرين الأمريكيين، وغياب خطر أيديولوجي أو

استراتيجي كاسح يطلق يد الدول في انتهاج سياسات خارجية ترتكز بشكل متزايد

على مصالحها القومية المباشرة، وفي نظام دولي يتسم باحتمال وجود خمس أو ست

قوى كبرى وكثرة من الدول الأصغر، ولا بد أن ينبثق النظام في معظمه كما حدث

في القرون الماضية من التوفيق والموازنة بين المصالح القومية المتنافسة) .

وقد تحدث كل من بوش وكلينتون عن النظام العالمي الجديد كما لو كان قريب

المنال؛ والحقيقة أنه لا يزال في فترة جنينية ولن يكون شكله النهائي واضحاً إلا

في القرن الجديد، وسيظهر النظام العالمي الجديد الذي يُعَدُّ في جانب منه امتداداً

للماضي، وفي جانب منه سيكون غير مسبوق، شأنه شأن تلك النظم التي سيخلفها.

وتعيش النظم الدولية بشكل غير مستقر، ويعبر كل نظام عالمي عن تطلعه

إلى الدوام، ويحمل المصطلح ذاته ادِّعاء الخلود؛ بيد أن العناصر التي يتكون منها

في حالة تغير دائم. وحقيقة الأمر أن مدة بقاء النظم الدولية تتناقص مع كل قرن

من الزمان، ولم يحدث أبداً من قبل أن تغيرت كل الوحدات المكونة للنظام الدولي

وقدرتها على التفاعل وأهدافها بمثل هذه السرعة أو العمق أو العالمية.

وكلما غيرت الكيانات المكونة للنظام العالمي شخصيتها فإنه يعقب ذلك حتماً

فترة من الاضطراب.

ثم قام الكاتب بعرض سياق تاريخي للمبادئ التي كان يسير عليها النظام

العالمي في السابق مركزاً على مبدأ توازن القوى وهو النظام الذي سارت عليه دول

أوروبا في القرنين الماضيين.

ويعتقد كيسنجر أن الدول الأوروبية لم تختر توازن القوى وسيلةً لتنظيم

علاقاتها انطلاقاً من نزوع فطري للمخاصمة أو من حب العالم القديم للتآمر، وإنما

ألقي بها في هذه الساحة حينما انهار خيارها الأول وهو حلم الإمبراطورية العالمية

في العصور الوسطى وظهور العديد من الدول المتساوية بدرجة أو بأخرى في القوى

من بين ذلك الأمل القديم، وحينما تضطر مجموعة من الدول تشكلت على هذا

النحو إلى التعامل فيما بينها فإن المحصلة المحتملة لن تتعدى أمرين: إما أن تصير

دولة واحدة تكون من القوة بحيث تهيمن على كل الدول وتقيم إمبراطورية، أو لا

تكون أي دولة أبداً على درجة من القوة تسمح لها بتحقيق هذا الهدف، وفي الحالة

الأخيرة يتم كبح جماح العضو الأكثر عدوانية في المجتمع الدولي بتجمع من

الآخرين، أو بتعبير آخر: بإعمال مبدأ توازن القوى.

ولم يكن الهدف من نظام توازن القوى تجنب الأزمات أو حتى الحروب وإنما

أريد به حينما يعمل على الوجه الصحيح الحد من قدرة دول معينة على الهيمنة على

دول أخرى، وكذلك الحد من مدى الصراعات، ولم يكن هدفه هو السلام بقدر ما

كان الاستقرار والاعتدال، ولا يستطيع ترتيب توازن القوى بحكم تعريفه أن

يرضي تماماً كل عضو في النظام الدولي، وإنما يعمل على أحسن وجه حينما يبقى

على عدم الرضا دون المستوى الذي يسعى عنده الطرف المتضرر إلى الإطاحة

بالنظام الدولي. ويعطي منظور توازن القوى عادة بأنه هو الشكل الطبيعي للعلاقات

الدولية.

والحقيقة أن أنظمة توازن القوى لم توجد في التاريخ البشري إلا نادراً؛ فلم

يعرف النصف الغربي من المعمورة أبداً نظاماً من هذا النوع، وكانت الإمبراطورية

هي الشكل النمطي للحكم بالنسبة للسواد الأعظم من البشرية ولأطول فترات في

التاريخ وليس للإمبراطوريات مصلحة في العمل داخل نظام دولي وإنما تتطلع لأن

تكون هي النظام الدولي.

ومن الناحية الفكرية كان مفهوم توازن القوى يعكس قناعات كل كبار مفكري

النهضة السياسيين؛ فالكون في نظرهم بما فيه المجال السياسي يعمل وفق مبادئ

عقلانية يوازن كل منها الآخر، والأعمال التي تبدو عشوائية ويقوم بها ناس عقلاء

تجنح في كليتها صوب الصالح العام رغم أن الدليل على هذه الفرضية كان محيراً؛

فبسعي كل دولة إلى تحقيق مصالحها الخاصة الأنانية كان من المفروض أن تساهم

كل منها في تحقيق التقدم كما لو كانت هناك يدٌ مَّا خفية تضمن أن حرية الاختيار

لكل دولة ستحقق الصالح العام للجميع. وعلى مدى ما يزيد على قرن كان يبدو أن

هذا التوقع قد تحقق. وبعد الاضطرابات الناجمة عن الثورة الفرنسية والحروب

النابليونية استعاد قادة أوروبا توازن القوى في مؤتمر فيينا عام ١٨١٥م؛ إلا أن

نظام توازن القوى الأوروبي عاد مع نهاية القرن التاسع عشر إلى مبادئ سياسة

القوة في بيئة أشد إمعاناً في عدم التسامح مما أدى إلى حدوث اختبار للقوة الواحد تلو

الآخر، وأخيراً نشبت أزمة في عام ١٩١٤م ولم تسترد أوروبا أبداً زعامة العالم

تماماً بعد كارثة الحرب العالمية الأولى، وظهرت الولايات المتحدة لاعباً مهيمناً؛

ولكنْ في ذلك الزمن كان لأمريكا رأي آخر؛ فقد كان داخل أمريكا يتنازع تياران:

الأول: هو إعطاء العالم قيم أمريكا وجعلها منارة يقتدى بها عن طريق

الاهتمام بالداخل فقط.

الثاني: هو أن قيم أمريكا تفرض عليها الالتزام بالنضال من أجل نشر هذه

القيم وتطبيقها في أنحاء العالم، وتتفق هاتان المدرستان سواء تلك التي ترى أمريكا

منارة أو مناضلة أو ما يسمى الاتجاه التبشيري والاتجاه الانعزالي أن من الطبيعي

أن يوجد نظام عالمي يقوم على الديمقراطية والتجارة الحرة والقانون الدولي، وكان

على رأس الفريق الأول الذي يؤمن بالانعزالية الرئيس ويلسون الذي حاول صياغة

نظرية للأمن الجماعي بعد الحرب العالمية الأولى من خلال نقاطه الأربع عشرة

مركِّزاً على أن النظام العالمي ينبغي من الآن فصاعداً أن يركز ليس على توازن

القوى وإنما على تقرير المصير العرقي، وأن الدبلوماسية يجب أن لا تدار بشكل

سري بواسطة الخبراء وإنما على أساس اتفاقيات صريحة يتم التوصل إليها بشكل

علني؛ ولكن الأوروبيين كانوا ينظرون شذراً إلى هذه السياسة معللين ميل أمريكا

لهذا الطرح نظراً للظروف الخاصة لأمريكا التي تعد قارة شبه خالية، وحيث إن

أهلها لم يواجهوا قوة تحتاج إلى موازنتها؛ بينما أوروبا كانت تزخر بعدة قوى

تحتاج إلى التوازن فيما بينها.

ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأ الاتجاه الثاني الذي يرى أهمية نشر

المبادئ الأمريكية بالنضال في التغلب، وانخرطت الولايات المتحدة إبان الحرب

الباردة في صراع أيديولوجي وسياسي واستراتيجي مع الاتحاد السوفييتي في عالم

ثنائي القوة يعمل وفق مبادئ مختلفة تماماً عن تلك الخاصة بنظام توازن القوى؛

ففي عالم ثنائي القوة لا يمكن الزعم بأن الصراع يقود إلى الصالح العام فأي كسب

لأحد الطرفين خسارة للطرف الآخر، وقد كان النهج الأمريكي الفريد في السياسة

الخارجية إبان الحرب الباردة ملائماً بشكل كبير للتحدي الذي كان قائماً؛ فقد كان

هناك صراع أيديولوجي عميق ودولة واحدة فقط هي الولايات المتحدة تمتلك العدة

الكاملة من الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية اللازمة لتنظيم الدفاع عن العالم

غير الشيوعي. وتستطيع دولة في مثل هذا الوضع أن تصر على آرائها وأن

تتجنب عادةً المشكلة التي تواجه ساسة المجتمعات الأقل ثراء.

وقد تحطمت المفاهيم التقليدية للقوة بدرجة كبيرة في عالم الحرب الباردة؛

فلقد عرف التاريخ في معظمه توليفة من القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية

أثبتت بوجه عام أنها متماثلة، وأصبحت العناصر المختلفة للقوة في فترة الحرب

الباردة واضحة تماماً؛ فكان الاتحاد السوفييتي السابق قوة عسكرية عظمى وقزماً

اقتصادياً في الوقت نفسه بعكس اليابان.

وبانهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة يرى كيسنجر أن النظام

الدولي سيتسم بتناقض ظاهري؛ حيث التفكك من جانب والعالمية المتزايدة من

جانب آخر، وسيشبه النظام الجديد على مستوى العلاقات بين الدول نظام الدول

الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أكثر من تشابهه مع الأنماط الجامدة

للحرب الباردة، وسيحتوي على ست قوى كبرى على الأقل هي: الولايات المتحدة، وأوروبا، والصين، واليابان، وروسيا، والهند؛ بالإضافة إلى عدد كبير من

البلدان متوسطة الحجم والأصغر حجماً. وفي الوقت نفسه أصبحت العلاقات الدولية

عالمية بحق للمرة الأولى؛ فالاتصالات فورية والاقتصاد العالمي يعمل في كل

القارات في آن واحد، وطفت على السطح مجموعة من القضايا التي لا يمكن

معالجتها إلا على أساس عالمي مثل: الانتشار النووي، والبيئة، والانفجار

السكاني، والاعتماد الاقتصادي المتبادل.

ثم يشرع الكاتب في بيان خصائص كل بنية من بنيات النظام العالمي في

تصوره.

أمريكا: يصف بعض المراقبين النظام العالمي بأنه عالم أحادي القطب،

ولكن الولايات المتحدة ليست في الواقع في وضع يؤهلها لإملاء جدول الأعمال

العالمي من طرف واحد أفضل مما كان عليه وضعها في بداية الحرب الباردة.

حقيقة أن أمريكا أكثر تفوقاً مما كانت عليه منذ عشر سنوات غير أن القوة أصبحت

أكثر انتشاراً، ومن ثم فإن قدرة أمريكا على توظيفها في تشكيل بقية العالم قد

تناقصت بالفعل، أي أن رغبتها في إظهار هذه القوة في العديد من الصراعات

الصغيرة النطاق التي من المحتمل أن يشهدها العالم مثل: البوسنة، والصومال،

وغيرها تمثل تحدياً فكرياً رئيساً بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية. وبالرغم أن

أمريكا هي الدولة الأعظم والأقوى، ولكنها دولة لها نظراء والأولى بين أكفاء ولا

ينبغي على الأمريكيين أن ينظروا إلى ذلك على أنه إنقاص من قدر أمريكا أو على

أنه من أعراض الانحطاط القومي؛ فالحقيقة أن أمريكا كانت على مدى معظم

تاريخها دولة ضمن دول أخرى وليست قوة عظمى متفوقة؛ وظهور مراكز قوى

أخرى ينبغي أن لا يزعج الأمريكيين.

ولكن ما هي المبادئ التي ينبغي أن تقيم أمريكا سياستها الخارجية عليها في

القرن القادم؟

سيتعين على القادة الأمريكيين في القرن القادم أن يصوغوا لجمهورهم

بوضوح مفهوماً للمصلحة القومية ويبينوا كيف تخدم تلك المصلحة في أوروبا وآسيا

بالعثور على شركاء أساسيين لحفظ توازن القوى، ليس على أساس الاعتبارات

الأخلاقية وحدها ولكن لمصلحة القومية الأمريكية.

إن الأمريكيين برغم أنهم استخدموا في كثير من الحالات منطق أن مصلحة

الدولة تسوِّغ الوسائل لكنهم لم يستريحوا كثيراً إلى الاعتراف بمصالحهم الأنانية

الخاصة، وظل القادة الأمريكيون يدَّعون على الدوام سواء وهم يخوضون حروباً

عالمية أو صراعات محلية أنهم يناضلون من أجل المبدأ وليس المصلحة؛ ولكن من

الحكمة الاعتراف بأن هناك حاجة لتحقيق توازن؛ فمهما كانت أمريكا قوية فإنه لا

توجد دولة لديها القدرة على فرض كل أفضليتها على بقية العالم.

روسيا: لقد ظلت روسيا طوال تاريخها حالة خاصة، ولم تكن أبداً دولة

قومية بالمفهوم الأوروبي؛ نظراً لمجاورتها لثلاثة مجالات ثقافية مختلفة هي:

أوروبا، وآسيا، والعالم الإسلامي، ويفسر المحللون النزعة التوسعية الروسية عادة

بأنها نابعة من إحساس بعدم الأمن؛ إلا أن الكتَّاب الروس سوَّغوا الاندفاع الروسي

للخارج في الأغلب بأنه بمثابة القيام برسالة، ونادراً ما أبدت روسيا في تلك

المسيرة إحساساً بالحدود وعندما كان يعوقها عائق فإنها كانت تنسحب باستياء بالغ.

وعلى مدى معظم تاريخها كانت روسيا دائماً تترقب الفرصة المواتية. ولكن

الأسئلة الأهم: هل ستسعى روسيا إلى العودة إلى إيقاعها التاريخي وإلى استعادة

الإمبراطورية الضائعة؟ وبأي مبادئ ووسائل سيكون رد فعلها على الاضطرابات

القائمة حول حدودها خاصة في الشرق الأوسط المتقلب؟

إن الإمبراطوريات المنهارة تولد سببين للتوتر هما: محاولات الدول المجاورة

الاستفادة من ضعف المركز الإمبراطوري، ثم جهود الإمبراطورية المتداعية

لاستعادة سلطتها في محيطها. وتدور هاتان العمليتان في آن واحد في الدول الوارثة

للاتحاد السوفييتي السابق؛ فإيران وتركيا تسعيان إلى دعم أدوارهما في جمهوريات

آسيا الوسطى التي تقطنها أغلبية مسلمة؛ بينما تندفع روسيا لاستعادة سيادتها على

كل الأراضي التي كانت ُتحكَم من قِبَل موسكو، وتسعى باسم حفظ السلام إلى إعادة

شكل من أشكال الوصاية الروسية، وتذعن أمريكا حتى الآن لتلك السياسة الروسية، وربما تتوازى المصلحة القومية الأمريكية مع نظيرتها الروسية في مناطق معينة،

منها على سبيل المثال: جمهوريات آسيا الوسطى المهددة بالأصولية الإسلامية،

وسيكون التعاون في تلك الساحة وارداً تماماً طالما أنه لا يكتب صكاً بعودة

الإمبراطورية الروسية القديمة.

ولدمج روسيا في النظام العالمي لا بد من مقومين متوازنين: التأثير على

المواقف الروسية، والتأثير على الحسابات الروسية. وتعتبر المعونة الاقتصادية

السخية والمشورة الفنية ضرورية لتخفيف مشاق التحول، وفي الوقت نفسه ينبغي

مراقبة النزعة الإمبريالية الروسية في الظهور.

أوروبا: استمدت حركة الاندماج الأوروبي جذورها من فرضيتين:

أولاهما: أنه ما لم تتعلم أوروبا أن تتحدث بصوت واحد فإنها ستنحدر

تدريجياً إلى وضع هامشي.

ثانيهما: أنه كان ينبغي عدم وضع ألمانيا المجزأة في وضع قد يغريها

بالسباحة بين الكتلتين والتلاعب بالجانبين في الحرب الباردة بتحريض كل منهما

ضد الآخر، وقد نما الاتحاد الأوروبي الذي كان يضم في الأصل ست دول ليشمل

اثنتي عشرة دولة؛ وهو في سبيله إلى التوسع ليشمل إسكندينافيا والنمسا وبعض

الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي.

في نهاية المطاف لقد قبلت ألمانيا القيادة السياسية الفرنسية في الجماعة

الأوروبية في مقابل صوت أقوى لها في الأمور الاقتصادية، وفي السنوات القادمة

لن تشعر أوروبا بحاجتها السابقة إلى الحماية الأمريكية، وستسعى وراء مصالحها

الاقتصادية الذاتية بشكل أكثر إقداماً، ولن تكون أمريكا مستعدة للتضحية بالكثير من

أجل الأمن الأوروبي، وستصر ألمانيا في الوقت المناسب على تحقيق النفوذ

السياسي الذي تؤهلها قدرتها العسكرية والاقتصادية له، ولن تعتمد عاطفياً على

المؤازرة العسكرية الأمريكية والمؤازرة السياسية الفرنسية.

إن الأجيال القادمة في ألمانيا وخاصة بعد كول ليس لديها أية ذكريات شخصية

عن الحرب أو عن دور أمريكا في إعادة تعمير ألمانيا المدمرة بعد الحرب، وليس

لدى هذا الجيل سبب عاطفي للإذعان لمؤسسات فوق قومية أو جعل آرائه تابعة

لأمريكا أو فرنسا؛ لقد أصبحت ألمانيا اليوم قوية إلى درجة لا تستطيع معها

المؤسسات الأوروبية القادمة أن تحقق بنفسها توازناً بين ألمانيا وشريكاتها

الأوروبيات، وليس من مصلحة أية دولة أن تركز كل من ألمانيا وروسيا على

الأخرى شريكاً أساسياً؛ ذلك أنهما إن توثقت العلاقة بينهما فإنهما تثيران مخاوف

السيادة المشتركة، وإذا تعاركتا فإنهما تورطان أوروبا في أزمات متصاعدة.

ولأمريكا وأوروبا مصلحة مشتركة في تحاشي السياسات الروسية والألمانية

الجامحة المتنافسة على مركز القارة، ولا تستطيع بريطانيا وفرنسا بدون أمريكا

الحفاظ على التوازن السياسي في أوروبا الغربية، وستقع ألمانيا في غواية النزعة

القومية. وأما روسيا فستفتقر إلى محاور عالمية، ومن الممكن أن تتحول أمريكا

بدون أوروبا نفسياً وجغرافياً إلى مجرد جزيرة بعيدة عن الشواطئ الأوروبية

الآسيوية.

لقد قام حلف شمال الأطلسي ليمثل رباطاً مؤسسياً رئيساً بين أمريكا وأوروبا؛

وبالرغم من الخلاف الدائم بين وجهتي النظر الأمريكية والفرنسية فقد سيطرت

أمريكا على حلف شمال الأطلسي تحت راية التكامل وشكلت فرنسا بتمجيد

الاستقلال الأوروبي الاتحاد الأوروبي، وتتمثل نتيجة الاختلاف بينهما في أن الدور

الأمريكي مسيطر في المجال العسكري إلى حد لا يتيسر معه إقامة كيان سياسي

أوروبي؛ بينما يتسم الدور الفرنسي بالإصرار على الاستقلال الذاتي السياسي

الأوروبي إلى حد لا يمكن معه تعزيز تماسك حلف شمال الأطلنطي.

آسيا (اليابان والصين) :

ففي حين تتجمع بلدان أوروبا في مؤسسات مشتركة فإن دول آسيا تنظر إلى

نفسها على أنها متمايزة ومتنافسة. وتحمل العلاقات بين الدول الآسيوية الأساسية

معظم خصائص نظام توازن القوى الأوروبي في القرن التاسع عشر، ويكاد يكون

في حكم المؤكد أن تؤدي أية زيادة يعتد بها في قوة إحدى تلك الدول إلى قيام الدول

الأخرى بمحاولة إعادة التوازن، وتتمثل الورقة القوية في موقف الولايات المتحدة

التي لديها القدرة وإن لم يكن لديها الفلسفة على العمل إلى حد بعيد بالطريقة التي

تصرفت بها بريطانيا في الحفاظ على توازن القوى الأوروبي حتى الحربين

العالميتين في القرن العشرين.

وقد نعمت اليابان إبان الحرب الباردة بتخليها عن اعتمادها التاريخي على

النفس بحماية الولايات المتحدة. ولكونها منافساً اقتصادياً قوي العزم فقد دفعت

مقابل حرية المناورة في المجال الاقتصادي ثمناً تمثَّل في جعل سياساتها الخارجية

والأجنبية تابعة لسياسات واشنطن، وطالما كان بالإمكان النظر إلى الاتحاد

السوفييتي على أنه التهديد الأمني الأساس لكلتا الدولتين فلعله كان من المعقول

معاملة المصالح القومية الأمريكية واليابانية على أنها متطابقة؛ إلا أنه ليس من

المحتمل أن يستمر هذا النمط؛ فمع ما تحرزه كوريا والصين من قوة عسكرية،

ومع مرابطة الجزء الأقل ضعفاً من القوة السوفييتية في سيبيريا فلن يأخذ

المخططون اليابانيون للأمد الطويل التطابق المطلق بين المصالح الأمريكية

واليابانية على أنه من المسلَّمات.

إن المنظور الياباني تجاه الجزء الرئيس من اليابسة الآسيوية يختلف عن

المنظور الأمريكي تجاهه بسبب عاملي القرب المكاني والخبرة التاريخية؛ ولذا فإن

ميزانية الدفاع اليابانية أخذت في الارتفاع إلى أن أصبحت ثالث أكبر ميزانية دفاع

في العالم، وربما تعد ثانية ميزانية دفاع فعالة في العالم إذا ما وضعنا في الحسبان

المشكلات الداخلية في روسيا. وحينما سئل كيشي ميازاوا عام ١٩٩٢م وكان رئيس

اليابان آنذاك عما إذا كانت اليابان ستقبل وجود قدرة نووية كورية شمالية أجاب

بصراحة بأسلوب غير ياباني بالمرة بكلمة واحدة: (لا) . فهل يعني ذلك أن اليابان

ستطور قدرة نووية خاصة بها، أم ستسعى إلى قمع القدرة النووية الكورية الشمالية؟ إن مجرد إثارة مثل هذه الأسئلة يوحي بإمكانية أن تتحلل اليابان إلى حد ما من

الارتباط بالسياسة الأمنية والخارجية الأمريكية.

ومن الملفت للنظر أن متانة العلاقات اليابانية الأمريكية ستكون هي الوجه

المقابل للعلاقة الصينية الأمريكية؛ فعلى الرغم من وجود درجة كبيرة من الألفة مع

الثقافة الصينية فإن اليابان ينتابها أمران: الإعجاب من جانب مع الخوف من جانب

آخر، والرغبة في الصداقة من جهة مع الدفع إلى السيطرة من جهة أخرى.

ويغري التوتر الصيني الأمريكي اليابان بالابتعاد عن أمريكا؛ وذلك في محاولة إن

لم تكن لتعزيز نفوذها في الصين؛ فعلى الأقل لعدم تقليله بالسير على الدرب

الأمريكي بكل دقة، وفي الوقت نفسه فإن اتباع نهج ياباني محض يحمل في طياته

خطر إمكانية تفسيره في بكين على أنه تعبير عن الرغبة اليابانية في الهيمنة، ومن

ثم فإن العلاقات الطيبة بين أمريكا والصين هي الشرط المسبق للعلاقات الطيبة

الطويلة الأجل بين اليابان وأمريكا. إنه مثلث لا يستطيع أي من الأطراف الثلاثة

فيه أن يتخلى عنه إلا بتحمل مخاطر كبيرة.

والصين هي الدولة الأكثر صعوداً من بين كل القوى الكبرى؛ فإنها بمعدل

النمو الاقتصادي الذي يقترب من ١٠% سنوياً وبالإحساس القوي بالتماسك القومي

وبقوة عسكرية دائمة النمو ستشهد أكبر زيادة نسبية في المكانة بين القوى الكبرى.

ويختتم كيسنجر كلامه قائلاً: هناك بون شاسع بين منظور رجل الدولة

ومنظور المحلل؛ فبوسع المحلل أن يختار المشكلة التي يرغب في دراستها؛ بينما

تفرض المشكلات نفسها على رجل الدولة. وبمقدور المحلل أن يخصص ما يلزم

من الوقت للوصول إلى استنتاج واضح؛ بينما يمثل ضغط عامل الوقت التحدي

الأكبر بالنسبة لرجل الدولة، ولا يخاطر المحلل بشيء، فإذا ثبت أن استنتاجاته

خاطئة فإن بمقدوره أن يكتب بحثاً جديداً؛ وكل الحقائق متاحة للمحلل؛ وسيكون

الحكم عليه بمدى قدرته الفكرية. أما رجل الدولة فإنه يتعين عليه العمل استناداً إلى

تقديرات لا سبيل إلى البرهنة على صحتها في الوقت الذي يصنعها فيه، وسيحكم

عليه التاريخ على أساس مدى حكمته في إدارة التغيير الحتمي؛ وهذا هو السبب في

أن فحص الكيفية التي يعالج بها الساسة مشكلة النظام الدولي ليس هو نهاية المطاف

في فهم الدبلوماسية المعاصرة؛ مع أنه قد يكون نقطة البداية.