للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

(ندوة) لمحاولة فهم أمريكا

(٢ - ٢)

خالد أبو الفتوح

في ندوته الافتراضية التي عقدها الكاتب بين مجموعة من الكتب محاولاً فهم

أمريكا.. استعرض في الحلقة الماضية عدة محاور دارت حول: طبيعة نشأة

أمريكا وأثرها على مجتمعها وسياستها، وحقيقة الرأسمالية السائدة فيها وعلاقاتها

بأجهزة الحكم والإعلام، وعلاقتها بالرغبة في نهب الآخرين والهيمنة عليهم،

وحقيقة مكانة الدين في المجتمع الأمريكي، والأسباب الكامنة وراء استهداف العالم

الإسلامي بالعداء، وصور من النفاق السياسي الأمريكي.. ويواصل الكاتب في هذه

الحلقة استعراض نقاط أخرى..

- البيان -

سقوط: من هذه النقطة أصل حديثي المقطوع عن سمات الرأسماليين

(الجمَّاعين) وأمراض المجتمع الأمريكي التي تؤذن بسقوطه، وهي الأمراض نفسها

التي عصفت بنظام جمَّاعين سابق هو نظام الإقطاع.

المجتمع الغربي يعبر عصر الجمَّاعين منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر،

و «الرجال الأغنياء هم الذين يقبضون على مقاليد الأمور فيه. الطبقة الحاكمة

إذن تستمد نفوذها من سيطرتها على الثروة وعلى وسائل الإنتاج، مع أن الطبقات

الأخرى (المقاتلين، المثقفين، والشغيلة) تخضع طوعاً للنخبة المحظوظة. خلال

هذا العصر (عصر الجمَّاعين) يكون نظام الحكومة مغالياً في عدم مركزيته،

وبالنتيجة: يعم الإجرام، وتتفكك العائلة، وتنتشر الدعارة. وفي النهاية تطبع

الفردية المتطرفة النظام الاجتماعي. وقد عرف الغرب نظاماً اجتماعياً اقتصادياً من

هذا النمط خلال الجزء الثاني مما عرف بالعصر الوسيط وهذا ما يدعى عادة إقطاعاً.

اليوم يسود مجدداً النمط نفسه ويسمى رأسمالية. رغم الاختلافات الكثيرة

الظاهرية، فإن الإقطاع والرأسمالية يملكان عدة خصائص مشتركة.. موت

الرأسمالية لا يمكن تفاديه تماماً كما لم يكن ممكناً تفادي موت الإقطاع»

(ص ٢٧٧) .

ف «الرأسمالية تتشابه كثيراً مع نظام الإقطاع الذي ساد المجتمع الغربي ما

بين عام ٩٠٠، ١٤٠٠م، الرأسمالية ليست فقط نظاماً اقتصادياً، ولكنها أيضاً

نظام اجتماعي واقتصادي متلازمان؛ لأنه بدون الإقرار بحق الملكية غير المحدود

للرأسماليين اجتماعياً، فإن عالم الأعمال لن يعيش أكثر من يوم واحد، وإذا بحثنا

عن أسس القوة عند الطبقة الحاكمة، فإن التماثل في النظامين يبدو واضحاً. نفس

الشيء: الفلسفة السياسية والاجتماعية التي يعتمد عليها النظامان تُظهر وحدة أكبر

مما اعترف به حتى الآن.

بالنسبة لعقلية الطبقة الحاكمة: الرأسمالية والإقطاع يكونان شقيقين في تلك

الفترة في الإقطاع كما اليوم في الرأسمالية. الثروة هي المسيطرة في الإقطاع،

الأغنياء يحكمون بفضل السيطرة التي يمارسونها على الأراضي الشاسعة، وهذه

كانت آنذاك عامل الثروة، اليوم: الأغنياء يحكمون لأنهم يسيطرون على الأسهم

والأوراق المالية. الإقطاع كدَّره عراك مستمر حدث بين كبار الملاك العقاريين

الذين كانت الأرض موضوع تنافسهم. الرأسمالية تكدرها الآن حرب صناعية،

حيث تكون الشركات الصغيرة باستمرار فريسة للمجموعات الصناعية الكبرى. في

أوروبا القديمة (القرون الوسطى) كانت الثروة مركزة في أيدي ملاك الأرض:

دوقات، بارونات، كومتات، إنها اليوم مركزة في أيدي الرأسماليين: رؤساء

الشركات، نوابهم، الإداريين. النظام الإقطاعي كان بربرياً ويضطهد الفلاحين

والأقنان، والرأسمالية قاسية ووحشية، تضطهد البلدان النامية والعمال غير

المؤهلين، في الحالتين الاستغلال يقوم على عدم الملكية وعلى الظلم الاقتصادي»

(ص ٣٠١ ٣٠٢) .

و «فيما يتعلق بالحياة اليومية توجد أيضاً عدة تماثلات بين الإقطاع

والرأسمالية: الدعارة والانحراف كانا وباء الإقطاع كما هما بالنسبة للرأسمالية اليوم.

آنذاك كما اليوم العلاقات والروابط العائلية تراخت، آنذاك كما اليوم السلطة

السياسية والإدارية غير مركزية. في نظام الإقطاع الفرسان يحاربون باسم ولاتهم،

اليوم حل محل الفرسان الجنرالات والكولونيلات والجيش. باختصار: آنذاك كما

اليوم، العقلية الاستحواذية هي السائدة وهي التي تصنع القانون. لهذه الأسباب

جميعاً أعتبر النظام الإقطاعي والرأسمالية فرعين مختلفين لنفس الشجرة المسماة

عصر الجمَّاعين» (ص ٣٠٣) .

الرأسمالية الغربية التي تمثلها أمريكا أعظم تمثيل تنحدر، «أعراض هذا

الانحدار في الحاضر يمكن رؤيتها لكل من يتجشم مشقة النظر: معدلات الجريمة

المروعة، تفكك الروابط العائلية وآثارها على المسنين، نسبة الطلاق المرتفعة،

والتسامح الفاضح مع البورنوغرافي (الفن الخليع) والدعارة، وموجة سوء

استخدام المخدرات، وإدمان الكحول، وتحول الفن والرياضة وعملياً كل شيء إلى

تجارة، وعدم إحساس العمال العاملين بالآخرين العاطلين.. هي جميعاً أعراض

أزمة تعصف بالرأسمالية اليوم. إنها جميعاً أعراض لا تظهر إلا في نهاية عصر

الجمَّاعين» (ص ٣٠٥) .

الإعداد: إن ما يذكره الدكتور (سقوط) عن ظهور أمراض اجتماعية في

المجتمع الأمريكي صحيح تماماً، «وتعكس هذا: الأوضاع الصحية المتفاوتة،

وبنية الثروة والمداخيل الحالية في أمريكا؛ حيث يكسب مدير مؤسسة كمعدل

وسطي ما يبلغ حوالي ٩٠ مرة أكثر مما يتقاضاه العامل الصناعي (مقابل ٤٠

ضعفاً عام ١٩٨٠م) وفي الوقت نفسه: يكسب ٣٠% من الأمريكيين السود و٢٠%

من الإسبان أقل من حد الفقر الرسمي ويعيشون في مدن الصفائح.

وما يزيد هذه الوضعية خطورة: كمية المخدرات التي يستهلكها الأمريكيون، ووفق

بعض التقديرات: تستهلك الولايات المتحدة التي تضم من ٤ إلى ٥% من سكان

العالم ٥٠% من الكوكايين العالمي، ويؤدي مثل هذا الإدمان إلى ضغوطات قوية

على الأجهزة الصحية. ولا يقتصر الأمر على علاج الراشدين؛ إذ ولد عام ١٩٨٩

م وحده ٣٧٥٠٠٠ من الأمريكيين وهم مدمنون أصلاً، وخاصة على الكوكايين

والهيرويين.

وبدورها، تغذي المخدرات الجريمة التي تبدو في الولايات المتحدة أعلى من

أي بلد صناعي آخر، وبفضل ما لرابطة National Rifle Association من

سلطة سياسية، يستطيع الأمريكيون اقتناء الأسلحة القاتلة واستخدامها بسهولة تذهل

المراقبين الأجانب. ويقدر أن بحوزة الأمريكيين ٦٠ مليون مسدس و ١٢٠ مليون

بندقية، وأنهم يتقاتلون بمعدل ١٩٠٠٠ شخص كل سنة بالمسدسات بصورة رئيسة.

ويصل معدل جرائم القتل بالنسبة لعدد السكان إلى أربعة أو خمسة أضعاف ما هو

عليه في أوروبا الغربية، (فيما يصل معدل حوادث الاغتصاب إلى سبعة أضعاف،

والاغتصاب مع العنف إلى عشرة أضعاف) ويعتقد الخبراء أن لهذا العنف جذوراً

ثقافية، ولا يمكن رده حصراً إلى الفقر؛ فمعدل جرائم القتل أعلى بكثير في

نيويورك منه في أكواخ كالكتا [بالهند] مثلاً، وفي سياتل Seattle المدينة

المزدهرة التي اعتبرت مؤخراً الأولى في الولايات المتحدة بالنسبة لنوعية الحياة،

يصل عدد جرائم القتل إلى سبعة أضعاف عددها في بيرمينغهام Birgmingham

في إنجلترا. كما أنه لا يمكننا رغم ذلك تفسير العنف بغياب القمع وتقصير الشرطة؛

فانطلاقاً من الأرقام الأخيرة: تؤوي السجون الأمريكية أكثر من مليون محكوم،

أي نسبة أعلى من تلك التي نجدها في جنوب إفريقيا وفي الاتحاد السوفييتي السابق،

ومن أصل كل ١٠٠. ٠٠٠ أمريكي زنجي نجد ٣٠٠٠ في السجن، فيما كانت

إفريقيا الجنوبية ولفرض التمييز العنصري تسجن ٧٢٩ أسود من أصل كل

٠٠٠,١٠٠» (ص ١٩٦ ١٩٨) .

هذا، بينما «تبلغ نسبة المجرمين المسجونين في الولايات المتحدة ٤٢٦ من

أصل كل ١٠٠. ٠٠٠ نسمة، أما المعدل في أستراليا فهو ٧٢، وفي هولندا ٤٢

فقط، وكان المعدل السوفييتي ٢٦٨ لكل ٠٠٠,١٠٠ ويشكل السود الذين لا

يتجاوز نسبتهم ١٢% من السكان في أمريكا نصف المساجين تقريباً»

(ص ٢٣٨) .

طليعة: أضف إلى ما ذكر:

في الأمن: يكشف «التقرير الأخير لـ» صندوق حماية الأطفال «المؤسسة

الرئيسة لحماية الأطفال في الولايات المتحدة رصد الخط البياني الصاعد بلا توقف

للأطفال والمراهقين المقتولين بالأسلحة النارية:» منذ عام ١٩٧٩م وحتى ١٩٩١م

قتل ما يقرب من ٥٠ ألف أمريكي أقل من تسعة عشر عاماً (٩ آلاف أقل من

أربعة عشر عاماً، و٤٠ ألفاً بين خمسة عشر وتسعة عشر عاماً) قتلوا برصاصات

أو حوادث أو جرائم متشابكة. في خلال الفترة ذاتها، نجد أن عدد المحتجزين

لارتكاب جرائم قتل وذبح ممن هم دون سن التاسعة عشرة قد تزايد بنسبة ٩٣% «

وحسب ما ورد في التقرير ذاته، فإنهم في الأغلب الشباب الذين يقتلون أو يصيبون

شباباً آخرين» (ص ٩٧) .

وفي العدالة الاجتماعية: «أثبتت إحدى الدراسات التي أعقبت أحد

المؤتمرات، ونشرت في مارس عام ١٩٨٩م أثبتت أن:» الخمس الأكثر حرماناً

الأقل من مستوى خط الفقر من السكان، رأى انخفاض عائداته بـ ٦% من عام

١٩٧٩م حتى عام ١٩٨٧م، في نفس الوقت ارتفعت الدخول بنسبة ١١% بالنسبة

للخمس الأكثر رفاهية «هذه الإحصاءات قد رصدت أيضاً التضخم، وشملت

المبالغ المنفقة في الدعم الاجتماعي والضرائب، فالخمس الأكثر حرماناً انخفضت

بالفعل عائداته الشخصية بنسبة ٩. ٨%، بينما ارتفعت العائدات الشخصية للخمس

الأكثر رفاهية بنسبة ١٥. ٦%.

لقد اعترف التقرير ذاته» بالمعازل «الاقتصادية:» فلقد اتسعت الفجوة بين

الأمريكيين الأغنياء والفقراء في الثمانينيات، بحيث أمست في عام ١٩٩٠م،

عائدات ميلونين ونصف المليون من الأغنياء تساوي مجموع عائدات مائة مليون

مواطن قابعين أسفل السلم الاجتماعي « (مكتب ميزانية الكونجرس، ١٩٨٩م) »

(ص ٩٠) .

«كما أن هناك» عنصرية اقتصادية «حقيقية تقسم الولايات المتحدة إلى

أمتين؛ ففي هذا البلد الذي يجوع فيه طفل بين كل ثمانية أطفال، لا يَكُف عدد

الأطفال الذين يموتون في الأحياء الأكثر فقراً عن الزيادة، وتتعدى معدلات موت

الأطفال في مثل هذه الأحياء الفقيرة معدَّله في دول مثل سري لانكا وبنما وشيلي

وجاميكا» (ص ٩٨) .

وفي الاقتصاد: تعيش الولايات المتحدة «أعلى بكثير من إمكاناتها:

فاستغلال العالم يتم على نفس النحو الذي تمت به مجازر الهنود، كما لو كانت

مذابح الهنود الحمر لم تكفها، ويبرز هذا التعدي للحدود في التسلط القائم رغم أن

الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأغنى رسمياً في العالم، ولكنها في الواقع

أكثر دولة مدينة أيضاً بما يقدر بـ ٣٠٠٠ مليار دولار من الدين الخاص، ومبلغ

مماثل من الدين العام، وهذا يعني ما يساوي ثلاثة أضعاف ديون كل دول العالم

الثالث مجتمعة» (ص ٩٧) .

وفي الاطمئنان النفسي: «يتساوى حجم تجارة المخدرات مالياً مع حجم

تجارة السيارات والصلب داخل الولايات المتحدة، كما يتزايد الاستهلاك يومياً مع

افتقاد معنى للحياة وتفشي البطالة والإقصاء، ولأسباب أخرى عديدة. كما أصبحت

الغاية الوحيدة لاستهلاك المخدرات هي الإحساس بسعادة التسوق في السوبر ماركت

التي تسمح بها.

وهكذا، فمما له مغزى كبير: أن انتحار المراهقين ترتفع معدلاته في البلدان

الأغنى كما في الولايات المتحدة والسويد ومن ثم ينتحر الشماليون لغياب الغايات،

بينما يموت الجنوبيون لنقص الوسائل!» (ص ٤٢) .

ولكني مع كل ذلك أقول: إن من أهم أسباب الانحطاط في المجتمع الأمريكي

: الانحطاط الثقافي الذي يسوده منذ زمن «ذلك أن انحطاط الثقافة ينبع من تاريخ

الولايات المتحدة ذاتها ومن تكوينها؛ لأن الثقافة لا تلعب أي دور منظم في حياة

المجتمع الأمريكي» (ص ٤٧) .

وقد رصد ألكسيس دي توكفيل هذه الظاهرة في كتابه عن «الديمقراطية

الأمريكية» في عام ١٨٤٠م عندما قال: «لا أعرف دولة يوجد بها هذا القدر

القليل أو المنعدم لاستقلالية العقل والمناقشة كما في الولايات المتحدة» (ص ٦٥)

أي: ديكتاتورية في الفكر.

و «في القرن العشرين، أصبحت تلك السيطرة على الفكر أكثر إحكاماً،

شخصيات عامة، وباحثون في العلوم السياسية، وصحفيون، وممثلو الصناعة،

ورجال العلاقات العامة التي يتعاظم نموها، وآخرون، اعترفوا بأنه في بلد يصبح

فيه صوت الشعب مسموعاً يكون ضرورياً أن يظل هذا الصوت يقول ما يتناسب

مع النظام العام!» (ص ٦٥) أي: مسايرة العامة وحتى لو كانوا غوغاء!

الإعداد: أحب أن أشير هنا إلى أن الأزمة في ثقافة المجتمع وليست في

نظامه التعليمي، فيؤكد الخبراء: أن «الأزمة ليست موجودة في المدرسة، بل إن

المجتمع الذي بناه الأمريكيون أعطاهم بدوره نظام التعليم الذي يستحقونه، وهم

يرون أن ميل الثقافة الأمريكية إلى الابتذال أي: التركيز على رغبات المستهلك،

وثقافة البوب، والرسوم المتحركة، والضجة واللون واللهو بدل التشجيع على

التفكّر الجدي، هو بمثابة جرح ناتج عن طعنة وجّهها المجتمع إلى جسده، يشاهد

الطفل الأمريكي المتوسط خمسة آلاف ساعة أمام الشاشة الصغيرة قبل أن يدخل إلى

المدرسة، وعندما سيخرج منها يكون قد مكث عشرين ألف ساعة أمامها.

وما يفاقم هذه الثقافة الشبابية غير التفكرية التي تستمر فيما بعد عبر الانجذاب

إلى الرياضة والمنشورات السيئة إنما هو تفككُ العائلة، خاصة في أوساط الزنوج

الأمريكيين، وهو ما يدفع بالكثير من الأمهات إلى مواجهة مصيرهن بمفردهن،

وكذلك تعاظم عدد النساء العاملات الذي يؤدي (وبعكس ما هو سائد في مجتمعات

شرق آسيا) إلى غياب الأم» المربية الأولى «عن البيت خلال فترة طويلة من

النهار، وعدا أطفال بعض المجموعات التي تشدد على أهمية التربية (الأمريكيون

من أصل آسيوي) يتشرب الطفل الأمريكي المتوسط القيمَ التي تنتجها صناعة

ترفيهية فارغة، بدل القيم التي تستند إلى مرجعيات أخلاقية وتنشر الانضباط وحب

التطلع الفكري الذي يدفع إلى التدريب، ومن غير الممكن رغم ذلك الطلب من

المدارس، خاصة في المدن، أن تعالج الأزمة الاجتماعية الثقافية»

(ص ٢٠٣ ٢٠٤) .

«أليس هذا ما يفسر لماذا يتناقص إقدامُ الأمريكيين على الاقتراع؟ فإذا كان

الأمريكي المتوسط لا يهتم إلا قليلاً بالثقافات الأجنبية، ولا يستطيع تعيين الخليج

العربي على الخريطة؛ فكيف سيفهم حيثيات التدخل في الخارج أو الحاجة إلى

زيادة المساعدات المخصصة للتنمية، أو كيف سيتابع التغيرات التي تُحدثها القوى

العالمية؟» (ص ٢٠٤ ٢٠٥) .

يجب دائماً أن ننتبه إلى أنه «فيما يتركز قسم كبير من الجدل حول (أفول

وتجدد) الولايات المتحدة على الاقتصاد، فإن فشل النظام التربوي إضافة إلى

النسيج الاجتماعي ورفاهية الناس وحتى حياتهم السياسية يشكل أيضاً موضوعاً

لمناظرات عديدة، وذلك على الأرجح لوجود تخوف من أن يكون العجز عن

المنافسة ناتجاً عن أسباب عميقة وليس فقط مثلاً عن معدل غير كافٍ للتوفير.

والواقع: تبقى الفرضية بأن الشعب الأمريكي قد اختار الطريق السيئ ما يتميز به

أساساً هذا الفكر. وكما يقول المعلق التلفزيوني الشهير جون شانسلور:» القوة

متوافرة، غير أن مجموعة من عوامل الضعف تقوضها ... «» (ص ١٩٥) .

المضيف: أفهم من ذلك أن عوامل انحطاط أمريكا تكمن داخلها..

سقوط: في الحقيقة، لو تحدثنا على المستوى المادي فإنه يوجد «في أمريكا

جيل جديد من الاقتصاديين الكلاسيك الجدد بدأ يعترف ببعض فشل الرأسمالية، مثل:

غياب المنافسة الكاملة، قلة إنتاج الخيرات المطلوبة اجتماعياً مثل الطرق

والحدائق، وجود آثار جانبية غير مرغوبة اجتماعياً مثل تلوث الجو وتوسيخ البيئة،

وفوق كل شيء الأزمات الاقتصادية» (ص ٢٩٨) .

وفي المقابل «المدافعون عن الرأسمالية يؤكدون أن النظام لا زال سليماً،

وأنه لم يشهد في التاريخ مثل هذا الازدهار، وأنه رغم التركيز الهائل للثروات في

بعض الأيدي، فإن أي نظام لم يقدم مثل هذا القدر من الرفاهية والسعادة لهذا العدد

الكبير من المواطنين، هنا بالضبط يخدعون أنفسهم! ؛ الشيء الوحيد الذي له

حساب عندهم هو المادة، ولكن في العمق هذه المادية الفائقة خاصة هذه المادية التي

نراها والنفاق الرأسمالي هما المسؤولان عن كل أمراض المجتمع، قادة العالم

الغربي لا يوحون اليوم لا بالثقة ولا بالاحترام، كل ما يثيرونه هو الغيرة: الغيرة

من حياتهم المرفهة، الغيرة من السهولة التي يخدعون بها الجمهور العام»

(ص ٣٠٥) .

وكما ذُكِر سابقاً فإنه «حتى في المستوى المادي، بعض ادعاءات الرأسمالية

وليس كلها زائفة. أمريكا التي تضم ٦% من سكان العالم تستهلك على الأقل ٣٠%

من الموارد الطبيعية في العالم كله. ومع ذلك يوجد داخل حدودها فقر حاد خاصة

بين السود والأقليات الأخرى فإذا كان هذا أفضل ما تستطيع الرأسمالية عمله بعد أن

تستنزف كل سنة ثلث الموارد العالمية، فإننا نتساءل: لماذا الازدهار الاقتصادي

يكون موضع هذاالصخب؟ !» (ص ٣٠٦) .

الإعداد: «الواقع أن حجم الاقتصاد الأمريكي، وما يتصف به من تعقيد،

لا يسمحان بتصنيفه في خانة الاقتصاد الضعيف إلى حد اليأس، ولا بالمقابل في

خانة الاقتصاد الجبار: إنه مزيج من القوة والضعف.» (ص ١٨٣) هذا إذا

تحدثنا عن الاقتصاد، وهو جانب مهم جداً من وجهة نظري.

ولكني ألفت النظر إلى وجود أبعاد خارجية أيضاً بالنسبة لتقدم أو تأخر (أو

ما تسمونه انحطاط) أمريكا، وخاصة في الجانب الاقتصادي، وهي تتمثل في

المنافسة الشديدة، ليس فقط مع خصومها، بل حتى مع أصدقائها، كما تتمثل في

أولويات الإنفاق والاهتمام بالنسبة لأمريكا مقارنة مع هؤلاء الأصدقاء والحلفاء

«ففي عام ١٩٨٨م مثلاً خصص أكثر من ٦٥% من الأموال الموجودة للأبحاث

الفدرالية للدفاع، مقابل ١٥، ٠% لحماية البيئة و ٢، ٠% لتطوير الصناعة.

ولْنُشر هنا أيضاً إلى أن الولايات المتحدة عمدت وهي تخوض سباقاً مكلفاً على

التسلح مع موسكو، ولتحسين حصتها من السوق العالمية.. إلى منازلة حلفاء لها

مثل اليابان وألمانيا اللتين لا تخصصان إلا نسباً أدنى من مواردهما للدفاع،

ويتوفر لهما بذلك ما يلزم من رساميل وجهاز بشري وأبحاث للصناعة التجارية،

أي ما لا يحصل عليه قسمٌ من القاعدة الصناعية الأمريكية. إذاً والحال هذه، يطلب

الأمريكيون من حلفائهم المزيد من المساهمة في الدفاع المشترك؛ بحيث يتمكنون

من عصر النفقات العسكرية لتلبية الحاجات اليومية» (ص ١٨٢) .

المضيف: كلامك الأخير يوضح لنا لماذا تصر أمريكا دائماً على إشراك

حلفاء وأصدقاء لها في حروبها المعاصرة حتى لو لم يكن لهؤلاء الحلفاء ناقة ولا

جمل في هذه الحروب، وهنا تختلط مصلحة أمريكا بمصلحة النظام العالمي الذي

روجته ثم أعلنت نفسها حامية له.

نشوء [١] : دعني أوضح لك الأمر بجلاء أكثر وأضرب لك مثالاً: عندما

تكون في سباق ما: لا يعد تقدمك للأمام وحده تقدماً، ولكن ينبغي أن يقاس هذا

التقدم نسبة إلى مواقف منافسيك الآخرين، فلو كنت تتقدم ومنافسوك يتقدمون أكثر

منك فإنك في الحقيقة تعد متأخراً.. أليس كذلك؟ وقد يزيد من صعوبة موقفك وجود

أثقال تحملها وحدك أو وجود انحراف في مسار سعيك للوصول للهدف، لذا: فمن

طرق تحقيق تقدمك: إلقاء بعض هذه الأثقال على منافسيك، فإذا نجحت في ذلك

فإنك سوف تتخفف منها ويزداد تقدمك في الوقت الذي يقل فيه تقدم منافسيك نتيجة

الأثقال التي أُلقيت عليهم، ومن هذه الطرق أيضاً: تصحيح مسار سعيك نحو

الهدف أو وضع منافسيك في مسار خاطئ يبعدهم عن الوصول إلى الهدف.. تعال

نطبق ذلك على التنافس (أو الصراع) بين الدول، فأقول:

«إن القوى النسبية لدول المقدمة ذات التأثير على الشؤون المالية العالمية لن

تبقى ثابتة أبداً؛ لسببين: أولهما: تباين معدل النمو للمجتمعات المختلفة، وثانيهما:

تفاوت الاتجاهات التكنولوجية والتنظيمية التي تأتي في نهاية المطاف بمنفعة

كبرى لهذا المجتمع على حساب الآخر. وهنا نذكر على سبيل الذكر أن قدوم السفن

الشراعية ذات القدرة على الإبحار لمسافات طويلة والمزودة بالمدفعية، وكذلك

نشوء التجارة عبر المحيط الأطلسي بعد عام ١٥٠٠م، لم يأتيا بالمنفعة (المتساوية)

لجميع أوروبا، بل إن بعضها انتفع أكثر بكثير من البعض الآخر. كما أزاد

التطور الأخير الذي شهدته الطاقة البخارية وكذلك نمو مصادر الفحم والمعادن من

القوة النسبية لبعض البلدان، وبالتالي: قلل من القوة النسبية لبلدان أخرى. فالبلدان

حيثما أدركت أن قدرتها الإنتاجية قد تعاظمت كان يسيراً عليها أن تتحمل أعباء

الإنفاق على تسليح واسع النطاق في عصر السلم، وأن تحافظ على جيش جرار

وأساطيل ضخمة تأتيها بالذي تحتاجه في أيام الحرب. قد لا يبدو هذا التعبير

ناضجاً من وجهة النظر التجارية، لكن الثروة سلاح لدعم القوة العسكرية، والقوة

العسكرية ثروة مكتنزة تتيح الحصول على الثروة وحمايتها. فلو خصصت الدولة

نسبة كبيرة من مصادرها لأغراض عسكرية فحسب بدلاً من توظيفها لأغراض

إيجاد الثروة وتنميتها لاختطت لنفسها طريق التداعي على المدى البعيد. وستلقي

الدولة بنفسها في خطر توسعها الاستراتيجي المفرط أي احتلالها لمناطق شاسعة أو

ولوجها حروباً باهظة التكاليف لو رجحت كفة الإنفاق الهائل على مثل هذا التوسع

الخارجي الفائدة المرجوة منه، وتلك مصيبة ستزداد حدة عندما تدخل تلك الدولة

مرحلة الانهيار الاقتصادي النسبي. ويبين لنا تاريخ نشأة وسقوط بلدان كانت

طليعية في ميزان القوى العظمى منذ التقدم التي شهدته أوروبا خلال القرن السادس

عشر (إسبانيا هولندا فرنسا الإمبراطورية البريطانية وحديثاً الولايات المتحدة)

ترابطاً دالاً (على المدى البعيد) بين الإنتاج ونمو عوائده من جهة وبين القوة

العسكرية من جهة أخرى» (ص ١٢ ١٣) .

الإعداد: وهناك بُعْد آخر في هذا الموضوع، وهو بعد التدخل (الأجنبي)

في بنية المجتمع والدولة الأمريكية نتيجة تبني سياسة العولمة بصورة واسعة مؤخراً؛

فالعولمة كما أنها تتيح الفرصة لتدخل أمريكا في العالم فإنها أيضاً يمكن أن تتيح

الفرصة لتدخل الآخرين في أمريكا والتأثير فيها «ويتعاظم الآن هذا الاهتمام

بالوضعية الاقتصادية الأمريكية، في جو من القلق المتزايد حول ما قد تستتبعه

الميول الراهنة من نتائج تطول الأمن القومي والقوة الأمريكية وموقعها في الشؤون

العالمية. ماذا سيجري إذا ما امتلك بعضُ الأجانب احتكاراً في صناعات تزوّد

البنتاغون؟ ، أو إذا لم يعد بالإمكان الحصول على سلعة ذات أهمية عسكرية كبرى

إلا من الخارج؟ هل سيُدفع ثمن سياسي إضافة إلى الثمن المالي من جراء هذه

التبعية؟ ( ... ) وماذا سيحصل إذا ما بات الاقتصاد الأمريكي ينمو بنصف سرعة

اليابان أوالمجموعة الأوروبية طوال العشر أو العشرين سنة المقبلة؟ ، هل يستمر

توازن القوى المنتجة بالتبدل، لكي تُخلع الولايات المتحدة في نهاية المطاف عن

المرتبة الأولى؟» (ص ١٩١ ١٩٣) .

طليعة: اسمحوا لي أن أسجل نقطتين بعد هذا الكلام الجيد:

النقطة الأولى: هي عن العلاقة بين أمريكا والقوى الدولية الأخرى، فأوروبا

«لم تعد الحليف المؤكد والدائم للولايات المتحدة الأمريكية. ولم يظهر هذا الموقف

في معاهدة ماستريخت فقط؛ فتلك المعاهدة التي تهدف منذ توقيعها إلى استقطاب

كامل لأوروبا بجعلها ملحقة خاضعة وثانوية لحلف الأطلنطي، ما زالت تظهر يوماً

بعد يوم آثارها السلبية وأضرارها الاقتصادية والثقافية، وتوضح أكثر فأكثر انقسام

الأوروبيين فيما بينهم (....) يتلازم هذا الانقسام مع تحول الولايات المتحدة

الأمريكية من أكبر دولة دائنة في العالم إلى أكبر دولة مدينة في العالم. ومعدل

الاستثمار في الولايات المتحدة الأمريكية يعد الأقل بين الدول الصناعية الكبرى؛

فبرغم قوتها العسكرية التي لا تعتمد على قوة المقاتلين والتي لا تتمنى كما تشير

تقارير البنتاجون إلا دخول حروب» لا تخسر فيها قتيلاً واحداً «، وذلك بإمكاناتها

التقنية العالية الخاصة بإدارة المعارك عبر الضغط على أزرار الكومبيوتر والمراقبة

بشاشات الرادار، بهدف أن يصبح قادتها بذلك أسياد العالم.. برغم كل ذلك تحولت

الولايات المتحدة شيئاً فشيئاً إلى عملاق بكعب» أخيل «» (ص ٣٥ ٣٦) .

«لهذا الضعف الواضح والقصور، تقامر الولايات المتحدة حتى الآن وحتى

إشعار آخر، على سياسة التسليح لمواجهة صعود أي عمالقة آخرين إلى قمة العالم

التي تعتليها. ومن ثم: فهي لا تسلح فقط مرتزقها الرئيسي في الشرق الأوسط (

إسرائيل) تسليحاً كثيفاً، بل تسعى أيضاً لعرقلة صعود الصين، بينما تسعى

إنجلترا إلى تمييع عودة هونج كونج إلى الصين، وتبعث الولايات المتحدة طائرات

تقدر قيمتها بأربعة مليارات ونصف المليار إلى تايوان، كما تبيع حليفتها فرنسا

لتايوان ٦٠ طائرة ميراج، وذلك للحيلولة دون أن تصبح الصين الموحدة قوة

عالمية بسوقها الداخلية المحتشدة بمليار ومائتي مليون نسمة، وبمواردها الطبيعية

الهائلة، وبأيديها العاملة الكادحة» (ص ٣٦) ، وهذا يقودنا إلى:

النقطة الثانية: والتي هي عن مكانة التسلح والحروب في الاستراتيجية

الأمريكية الساعية إلى الهيمنة على العالم؛ فمن المعروف أنه «في صبيحة الحرب

العالمية الثانية، حددت الولايات المتحدة معالم خططها الجيوسياسية، إذ إن

مجموعات بحث في» معهد العلاقات الخارجية « (المؤثر جداً في عالم المال وفي

عالم السياسة الخارجية) ، ووزارة الخارجية، قد وضعا مصطلح ما يسمى بـ

» المجال الكبير «، وهو ما يجب أن يظل خاضعاً لمصالح الاقتصاد الأمريكي،

ويجب أن يضم على الأقل نصف العالم الغربي والشرق الأقصى والإمبراطورية

البريطانية القديمة.» وبرغم خضوعها، فإنه يجب مع ذلك في حدود الممكن

تنميتها وتطويرها لتكوّن نظاماً كاملاً ومستقلاً نسبياً، وتضم في كل الأحوال أوروپا

الغربية وخزانات الطاقة بالشرق الأوسط والتي تتحول لتصبح في يد الولايات

المتحدة «.

(نعوم تشومسكي:» الأيديولوجية والسلطة «. الناشر إبو ص ٢٠) »

(ص ٧٣ ٧٤)

وقد كتب جورج كينان رئيس إدارة الدولة لفريق التخطيط عام ١٩٤٨م (

وثيقة هيمنة) قال فيها صراحة:

«نحن نملك حوالي ٥٠% من ثروة العالم، غير أننا نمثل ٣، ٦% من

سكانه فقط.. وفي مثل هذا الوضع، لا يمكن تجنب أن نكون هدفاً للضغينة والغيرة

.. فمهمتنا الحقيقية في الفترة القادمة هي: تطوير نظام للعلاقات يسمح لنا بالحفاظ

على هذه المكانة، دون تعريض أمننا القومي للخطر. ولتحقيق هذا علينا أن

نتخلص من أي رومانتيكية، وأن نكف عن الحلم، مع البقاء متيقظين. ويتعين أن

يكون كل تركيزنا منصباً على أهدافنا القومية المباشرة والفورية، وألا يصيبنا

الغرور. ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا اليوم باتباع رفاهية حب الغير والخير (!)

على الصعيد العالمي. وينبغي أن نتوقف عن الحديث عن أهداف كبيرة غير محددة

فيما يخص الشرق الأقصى؛ فهو غير قابل للتنفيذ، وكذلك حقوق الإنسان، ورفع

مستوى المعيشة، وإرساء الديمقراطية. ولن يكون بعيداً اليوم الذي سيكون علينا

فيه استخدام القوة» .

(دراسات سياسة التخطيط (P. P. S. لـ ٢٣ فبراير ١٩٤٨م) «

(ص ٦٣) .

كما عبر وزير الدفاع الأمريكي السابق قبل أن يتبوأ هذا المنصب.. عبّر

بوضوح عن أسلوب السيطرة المتوقع من أمريكا، وذلك عندما قال:» إن برامج

التعليم في الكليات العسكرية الأمريكية تتغير حسب الأهداف. ولهذا أعلنت الكليات

الحربية لتلاميذها أن الدراسات الاستراتيجية للحرب ستتركز حول الحرب في

الريف، ومكافحة الإرهاب ومعالجة الأزمات «ذات التكثيف الضعيف» ، أي

الحرب المحدودة، وعلى سبيل المثال: غزو بنما؛ لأن الصراعات المحتملة قد

تستوجب حرباً «متوسطة الكثافة» مع العدو القوي في العالم الثالث، مما يحتم

اهتماماً خاصاً، وبالأخص إذا اعتبرنا القوة احتياجاً حيوياً لفرض السيطرة على

أقاليم ومناطق جديدة للحافظ على الإمكانية المفتوحة للوصول إلى الأسواق والمواد

الأولية البعيدة «هكذا قال السيناتور ويليام كوهين، من لجنة القوات المسلحة.

(مايكل كلير:» القوات الأمريكية تواجه الجنوب «ز Nation س (جريدة

الأمة) ، الأول من يونيو عام ١٩٩٠م) » (ص ٨٠ ٨١) .

و «لقد تأكدت الرغبة الواضحة للإدارة الأمريكية في الهيمنة على العالم عقب

تدمير العراق. ولقد أبرزت وثيقتان للپنتاجون هذا التوجه بوضوح: الأولى تحت

إدارة پول دي وولفوفيتش، والأخرى تحت إدارة الأميرال جيريميا نائب رئيس

لجنة رئاسة الأركان. وفيما يلي أربعة مقتطفات منهما:

*» الولايات المتحدة هي الضامن للنظام العالمي، لذلك يجب أن نتصرف

باستقلالية في حال وقوع كارثة تتطلب رد فعل سريع، أو عندما يصعب تجميع

موقف عالمي موحد «.

*» علينا التحرك لمنع تكوين نظام أمني بأوروپا، يمكنه تهديد توازن حلف

شمال الأطلنطي «.

*» إذابة ألمانيا واليابان في النظام الأمني الجماعي الذي تقوده الولايات

المتحدة الأمريكية «.

*» إقناع جميع المنافسين المحتملين بعدم ضرورة التطفل للعب دور عالمي

أكبر من الذي يلعبونه الآن بالفعل «.

» للوصول إلى ذلك يجب الحفاظ على وضع القوة الهائلة الخاصة بنا وتخليد

الهيمنة عبر إيقاع الهزيمة بأسلوب مدمر وقوة عسكرية تكفي لردع أي أمة أو

مجموعة من الأمم عن تحدي إرادة الولايات المتحدة. وذلك يجعلنا نضع في

الاعتبار رغبات ومصالح الدول الصناعية المتقدمة لكي لا نشجعها على مجابهة

القيادة الأمريكية، أو أن تسعى إلى إدانة النظام السياسي والاقتصادي الموجود «.

(كتبها پول دي لاجورس (مدير مجلة» الدفاع القومي «في» لوموند

ديپلوماتيك «الفرنسية، في أبريل عام ١٩٩٢م) » (ص ٨٢ ٨٣) .

المضيف: كلام مهم ومفيد، ولكني ألاحظ أننا ابتعدنا بعض الشيء عن

مسار حديثنا؛ فقد كنا نتحدث عن عوامل الانحطاط الكامنة في أمريكا؛ وتطرق

الحديث إلى العوامل الخارجية، ثم علاقة أمريكا بالآخرين واستراتيجيتها في

الهيمنة.. إذا أردنا إكمال الحديث من نقطة عوامل الانحطاط، تُرى ما هي رؤيتكم

للمستقبل؟

طليعة: ما ذكرته سابقاً لا ينقطع عن الحديث عن عوامل الانحطاط، بل يقدم

تصوراً للمستقبل!

سقوط: على صعيد الصراعات مع (الآخر) فإني أتوقع أنه في «عام

٢٠٠٠ الصراعات الداخلية التي تختمر سواء قبل أو بعد عام ٢٠٠٠ [٢] سوف

تنتهي بأن تصبح على مستوى عالمي. نزاع عالمي يضع العالم كله في حالة

هيجان. ومن المحتمل جداً أن المخزون المتكون في العالم بفضل مصانع الأسلحة

الأمريكية والروسية والأوروپية، سوف يجد فرصته للتدخل بشكل أو بآخر، في

خلال هذا الاضطراب تبرز الحركة الروحية الجديدة إلى السطح» (ص ٣٢٣) .

نشوء: وإذا وقع ذلك فإنه حتماً ستكون هناك نتائج كارثية على بعض

الأطراف المشاركة فيها، وقد تستفيد منها أطراف أخرى؛ لأنه «إذا كانت الحرب

قد أثرت بقسوة على بعض البلدان، فإن بلداناً أخرى أفلتت من لوعتها بل وتحسنت

أحوال بلدان أخرى بسببها؛ وما ذلك إلا لأن للحرب الحديثة والإنتاجية الصناعية

التي تتولد عنها نتائج إيجابية. واستناداً إلى المعايير الاقتصادية والتكنولوجية

البحتة نرى أن هذه السنين قد شهدت تطورات عديدة؛ في إنتاج السيارات

والجرارات، وفي الطيران، وتكرير النفط والمواد الكيماوية، وفي الصناعات

الكهربائية وسبك المعادن، والتبريد والتعليب، وهكذا بالنسبة لصناعات أخرى.

وسيكون من الطبيعي الاستفادة تجارياً من هذه التطورات الاقتصادية لو كان البلد

بعيداً عن نيران الخطوط الأمامية. وهكذا وجدت [في السابق] الولايات المتحدة

تحديداً ومعها كندا وأستراليا وجنوب إفريقيا والهند وأجزاء من أمريكا الجنوبية،

وجدت اقتصادياتها تنمو وتحفز بالطلب المتزايد لأوروپاالتي ترنحت بحرب

استنزاف من الصناعات والمواد الخام والمواد الغذائية. وكما هو شأن الصراعات

التجارية السابقة، فإن مصائب قوم عند قوم فوائد شريطة أن يتجنب القوم المستفيد

كلفة الحرب، أو أن يحمي نفسه في أقل تقدير من عصفة الحرب الكلية»

(ص ٤٢٣ ٤٢٤) .

سقوط: أما على المستوى الداخلي للمجتمع الرأسمالي وعلى رأسه أمريكا فإن

«التاريخ يقول لنا إنه عندما يكتسب القادة عقلية استحواذية مفرطة، ويفقدون

الإحساس بمعاناة الفقراء، فإن الوضع الاقتصادي يسوء حتى يقود إلى ثورة لا مفر

منها. هذا ما حدث قريباً في الكتلة السوفييتية، ويحدث في كل مرة يسود فيها

الطغيان» (ص ٣٤٦) .

ف «الدراسة الجادة لأهم ثورات العالم: الثورة الفرنسية، الثورة البلشفية

... ثورة ماو ... إلخ، تُظهر قضية مشتركة: أنها اندلعت جميعاً بسبب إفراط

بيروقراطي شمولي غير مبالٍ بظروف الجماهير وبسبب تدخل الرأسماليين المثقفين.

الغول البيروقراطي نفسه يهدد اليوم بتقويض العالم الغربي، هذا الغول

يتضخم يومياً ومستمر في ذلك، في المستقبل القريب ينتهي بإرغام الجماهير على

رفع السلاح لكنسه هو والذين أوجدوه» (ص ٣٠٧) .

«التركز المتطرف للسلطة السياسية في الكتلة السوفييتية أدى إلى انهيار

الشيوعية، والتركز المتطرف للثروة في الغرب يسرع بسقوط الرأسمالية»

(ص ٣٤٧) .

طليعة: في الحقيقة فإن المظالم التي اقترفها هذا المجتمع مستمرة منذ زمن

بعيد، وقد طالت أمماً كثيرة في بقاع عديدة من العالم وليست داخل الغرب وأمريكا

فقط:

«* فمن الذي يعيد لپيرو الـ ١٨٥ ألف كيلو جرام من الذهب، والـ ١٦

مليون كيلو جرام من الفضة، التي اعترف» بيت العقود التجارية «لأشبيلية

بنزحها ما بين عامي ١٥٠٣م و١٦٦٠م؟ !

* ومن الذي يعوض هنود أمريكا عن قتلاهم [تقلص عددهم من ١٠ ملايين

إلى ٢٠٠ ألف] وعن نهب واغتصاب قارتهم؟ !

* ومن الذي يعوض الهند القديمة، المصدرة العالمية للنسيج، عن ملايين

أطنان القطن المنهوبة من زارعيها بأسعار بخسة؟ ! ومن يعوضها عن تدمير

وحرق الأنوال اليدوية لصالح مصانع لانكشاير الكبرى؟ ! .

* ومن يعيد إلى إفريقيا حياة الملايين من أبنائها الأشداء الذين نقلوا عبيداً

للأمريكتين عن طريق النخاسين الغربيين طوال ثلاثة قرون؟ !» (ص ٢٠٨) .

سقوط: إذا صدق حسي فإن عصر الجمَّاعين الحالي «قد بدأ في الغرب نحو

عام ١٨٦٠م، ليبلغ ذروته في حوالي الثلاثينيات، وهو في حالة انكماش منذ تلك

الحقبة. التجربة التاريخية تعلمنا أنه في عصر ما مدة التيارات الصاعدة والهابطة

تقريباً متساوية. إذاً الاتجاه الصاعد للرأسمالية استمر ما بين ٧٠ و٨٠ عاماً تقريباً،

فإن انحدارها سوف يستغرق في العموم عدد السنوات نفسه. وهذا يعني أن

الثورة الاجتماعية التي تخلع الجمَّاعين عن عرشهم يجب أن تحدث عام ٢٠١٠م أو

عام ٢٠٢٠م تقريباً» (ص ٣٠٧) .

طليعة: أريد أن أختم كلامي حول هذا الموضوع بأن أقول:

«لقد تحول الوهم الذي دام مائة عام بالحلم الأمريكي إلى كابوس أمريكي

بسبب رغبة قادة أمريكا في السيطرة على العالم، وبسبب جموحها البربري في

التسلح، وبسبب نفاق تلك» الليبرالية «الاقتصادية المفروضة على الشعوب

لامتلاك أسواقها بإنشاء عدة إمبراطوريات للشر متعاقبة، تسوِّغ إرهابها الخاص

باسم محاربة الإرهاب، وتسوِّغ» جرائمها ضد الإنسانية «» (ص ٢٢١ ٢٢٢) .

المضيف: إذن ماذا تريد أمريكا من نفسها ومن العالم؟ وإلى أين تتجه هذه

الصخرة التي يدحرجها طوفان المادية من علٍ؟ وما مصير من يريدون اللحاق

بأمريكا؟ هل لنا أن نفهم أنفسنا قبل أن نفهم أمريكا؟ !


(١) كتاب: نشوء وسقوط القوى العظمى، تأليف: بول كيندي، ترجمة مالك البديري، نشر: الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، سنة ١٤١٤هـ/١٩٩٤م.
(٢) كما ذكر سابقاً، نشر الكتاب الأصلي في طبعته الأولى عام ١٩٧٨م.