ملفات
حقوق الإنسان بين الحق والباطل
[حقوق الإنسان والخدعة الجديدة]
أ. د. محمد يحيى [*]
أصبحت قضية حقوق الإنسان في طرحها في البلاد العربية والإسلامية
تجتذب الاهتمام لا من حيث مضامين الأفكار الواردة فيها؛ وإنما من حيث الأهداف
والتحركات السياسية المتنوعة المرتبطة بها وبمن يطرحونها. فالجماعات
والجمعيات والفئات الكثيرة التي نشأت على مدى العقد الماضي مروِّجة لما يسمى
بمسألة حقوق الإنسان أضحت نفسها مسألة منفصلة من ناحية توجهات أفرادها،
ومصادر تمويلها، وأساليب عملها، وأهدافها السياسية القريبة والبعيدة والظاهرة
والباطنة، وعلاقاتها وخلافاتها مع الأنظمة ومع التيارات الفكرية والاجتماعية
والسياسية الأخرى ولا سيما الحركات الإسلامية.
ومن المعهود الآن أن نجد التفاصيل الضافية والكاشفة لمصادر تمويل هذه
الجماعات من الهيئات والسفارات والمؤسسات الأجنبية ومنها الكنسية،
والاستخباراتية والمصالح المالية والاقتصادية الكبرى ودوائر السياسات الخارجية
في أوروبا وأمريكا. وأصبح من المعروف أن القائمين على هذه الفئات ليسوا ممن
هم فوق مستوى الشبهات، وأن جُلَّهم يتألف من العلمانيين الكارهين للإسلام، أو
بقايا اليسار الذين يبحثون لأنفسهم عن دور جديد، وتبين أن الهدف الأسمى الذي
تعمل معظم تلك الروابط والجمعيات لأجله يتعلق بأي شيء آخر إلا حقوق الإنسان
بمعنى حقوق وحريات وكرامة الأفراد العاديين الذين يشكلون سواد المجتمع.
فالمقصود بحقوق الإنسان عند تلك المجموعات هو حقوق إنسان بعينه أو
مجموعات محددة دون غيرها، كما أن المقصود حقوق وفق مبادئ معينة (علمانية)
دون مبادئ أخرى، وهكذا فحقوق الإنسان عند هذه الجمعيات تعني حقوق
اليساريين والشيوعيين والعلمانيين فقط أو حقوق الأقليات غير المسلمة في بلاد
المسلمين التي يزعمون على عكس الواقع أنها انتهكت، أو حقوق مجموعات قليلة
تشذ عن سواء السبيل تحت مزاعم التحرر الاجتماعي والتقدم الفكري أو حقوق من
يستغلون الفكر أو الفن لترويج الكفر والإباحية أو حقوق النساء (في زعمهم) دون
حقوق الرجال أو حقوق مجموعات إقليمية أو جغرافية أو مهنية أو لغوية في مواجهة
الأغلبيات.
ولا يقف الأمر عند حد طرح مفاهيم محدودة وفئوية ومنحازة حول حقوق
الإنسان تخلو من عموم الانطباقية التي يتصورها من يسمع عبارة حقوق الإنسان؛
بل إن الخطورة تكمن في المراد والمقصود من هذا المفهوم.
إن عبارة «حقوق الإنسان» لمن يسمعها تعني حقوقاً بديهية واضحة مبدئية
تشمل كل البشر ويتفق عليها الجميع، وهذا المعنى هو مصدر الجاذبية في ذلك
الشعار لدى أفراد المجتمع ولا سيما المثقفين. ولكن الاقتراب التحليلي منها حسب
ما يروج في أوساط الفكر والثقافة يبين أن المعنى المحتوى في تضامين وأفرع
«حقوق الإنسان» ليس من العمومية والإطلاق المتصور، بل هو معنى مؤسس على
مبدأ وعقيدة معينة هي الفكر العلماني الغربي الحديث منذ نشأته في القرن الثامن
عشر الميلادي وحتى الآن.
إن مفاهيم «حقوق الإنسان» التي تروج الآن على تنوعها وتفاصيلها ليست
سوى التجسيد الأمني للفكر العلماني الغربي في فرديته وماديته وكراهيته للدين
والألوهية والشرائع السماوية، ونزوعه نحو أفكار آلية رتيبة عن المساواة والحق
والكرامة والسعادة.
والخدعة الكبرى التي نواجهها في هذا المجال هي أن ذلك الفكر المتسربل
بدعاوى العمومية والشمولية والإطلاق يخفي وراءه حقيقة أنه ليس سوى التعبير عن
عقيدة بعينها نسبية وجزئية وتاريخية تصطدم مع العقائد الأخرى وبالذات الإسلامية،
وهذا الفكر يروج بيننا على أنه صالح لكل زمان ومكان، وبصرف النظر عن
اختلاف الأديان والمفاهيم، بل إننا نجد توجهاً عند بعضهم لإيجاد مزاوجة بين هذا
الفكر وبين تعاليم وشريعة الإسلام.
فالشائع الآن ولا سيما عند من يرفع شعار «الاستنارة» و «التقدمية»
في الدين القول بأنه لا تعارض بين فكرة «حقوق الإنسان» وبين الإسلام، بل
إن الإسلام - حسب هذا الزعم - هو الذي وضع أسس هذه الفكرة، وأن الدعوة
إليها هي من صميم مقاصد الإسلام، وأن ترويجها والدفاع عنها هو في حقيقته
ترويج للدين ودفاع عنه.
والخدعة الجديدة هذه تعتمد على تعتيم متعمد على الطابع الجزئي النسبي
التاريخي المرتبط بالعلمانية الغربية في مفاهيم حقوق الإنسان التي تروج في البلاد
الإسلامية، ثم على زعم خاطئ بأن هذه المفاهيم عالمية شمولية «إنسانية» مما
يعني عمومية انطباقيتها. ومع تصديق هذا الزعم من جانب البعض في المجال
الإسلامي تبدأ عملية ترقيع واسعة النطاق هدفها إثبات أن كل ما تنطوي عليه تلك
المفاهيم يقبله ويباركه الإسلام إن لم يكن قد جاء به وأسسه.
ومن الأمثلة البارزة على هذه الحيلة الفكرية ما يحدث في القضية المسماة بـ
(حقوق المرأة) والتي أصبحت الآن مفروضة وبقوة السلاح على كل المجتمعات
الإسلامية بدون استثناء، والتي يراد لها أن تطبق المفاهيم نفسها السائدة الآن في
الغرب بالنسبة لأوضاع المرأة، «وهي ليست المفاهيم الوحيدة هناك، بل هي فقط
سائدة لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا» بحجة أن هذه المفاهيم عالمية الانطباقية
فوق أنها «عصرية» و «حديثة» تَجُبُّ ما ساد قبلها من أفكار رجعية لبست ثوب
الإسلام! والذي يحدث الآن هو أن البعض على الجانب الإسلامي يتقبل هذا الزعم،
ويروح يجهد النفس ويلوي عنق الشريعة لكي يخرج «باجتهادات» عصرية تثبت
أن الإسلام وشريعته يباركان ويدعوان لنفس وضع المرأة الذي تدعو له الآن مفاهيم
حقوق الإنسان. وتحت هذا المسمى الاجتهادي الجديد أخذ المجتهدون يؤكدون أن
«صحيح الدين» الإسلامي لا يعترف بتعدد الزوجات، ويرفض أن يعطى الرجل
حق تطليق الزوجة، ويرفض قوامة الرجل على الزوجة والأسرة، ويسمح بل
ويدعو إلى اشتغال المرأة بالأعمال كلها ولا سيما الشاقة، ويبارك اختلاط الرجال
والنساء في الحياة العامة. . . إلخ مع سائر ما تبشر به مفاهيم «حقوق الإنسان» .
وبصرف النظر عن ضعف وتهافت هذه «الاجتهادات» فإن نقطة الخطورة
فيها هي أنها تنطلق من تقبل أهوج لمزاعم العالمية والشمولية لمفاهيم دعوى
«حقوق الإنسان» ، وتتأسس من ثم على نفس أسس تلك الدعوى وهي العلمانية
الغربية بدلاً من أن تنطلق من أسس الإسلام نفسه وأصول شريعته، ومن هنا نجد
في جوهر الخدعة الجديدة أن الإسلام يعاد تفسيره أو بالأصح يساء تفسيره، لكي
يتمشى مع مفاهيم حقوق الإنسان ذات الأسس العلمانية بل لكي يتمشى مع تلك
الأسس نفسها ويلغي وجوده.
وإنهاء الخدعة الجديدة لا يكون بالقول بعدم وجود حقوق للإنسان في الإسلام،
بل بالقول بوجود حقوق للإنسان عامة، وليس لجنس أو عنصر أو فئة دون أخرى،
وبوجود حقوق الإنسان تتأسس على مفاهيم وتعاليم وعقيدة الإسلام، وليس على
شتى مذاهب العلمانية، وبوجود حقوق وواجبات إسلامية وليس علمانية، وإذا قبلنا
هذا الرأي وأسقطنا خدعة التخفي وراء مزاعم العالمية لفكر علماني غربي تاريخي
النشأة نسبي الوضع فلن نخجل أو نخشى من أن نرفض مفاهيمَ لحقوق الإنسان
تروج الآن بيننا، ونضطر تحت ابتزاز أو إرهاب أصحاب طرح حقوق الإنسان
أن نقبلها ونلوي عنق الإسلام ونزيف شريعته لكي نخرج بتقبلها خوفاً من تهمة
الرجعية أو الاستبداد.
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.