للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إشراقات قرآنية

[ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ]

د. عبد الكريم بكار

قصة البشرية هي قصة البحث عن طريق السعادة والأمن والاستقرار ... وقصة البحث عن الفهم والوضوح، ومحاربة (العماء) و (اللاتكوّن) لكن نتائج ذلك كثيراً ما تكون موضوعاً محزناً للقراءة!

وهذه الآية المباركة تفتح أعيننا على السبب الجوهري لذلك؛ إنه بحث

البشرية عن نجاتها بعيداً عن هدي الله - تعالى - وبعيداً عن سبيله الذي وضَّحه

لعباده في كتبه، وعلى لسان رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. ولعلنا نقف مع

هذه الآية الكريمة بعض الوقفات التي نستجلي من خلالها بعض ما تشعَّه من معان

ومفاهيم، وبعض ما ترتب على الحيدة عن سبيل الله من مآس ومهلكات، وذلك من

خلال الحروف الصغيرة الآتية:

١- تقرر هذه الآية المباركة أن سبيل الهداية هو السبيل الوحيد الذي على

البشرية أن تسلكه، وفي حالة تنكبه فليس هناك سبل أخرى للنجاة والفوز والنجاح.

ومعنى الآية: أن من يضلله الله فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإلى

الجنة في الآخرة، لأنه قد سدت عليه سبل النجاة. إن الضال يجد سبلاً كثيرة،

لكنها جميعاً توصله إلى غير ما يؤمِّله، وإلى غير ما يحقق من خلاله ذاتيته ووجوده، وهذا هو الذي يفهم من قوله - جل وعلا: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ

ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]

[الأنعام: ١٥٣] .

وفي حديث ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه - قال: (كنا عند النبي -

صلى الله عليه وسلم- فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: [وأَنَّ

هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً ... ] ) [٢] .

إن هناك دائماً الكثير من إمكانات الحركة، والكثير من اتجاهات السير، لكن

عدم وجود (الهداية) الربانية يجعل تلك الإمكانات وبالاً على البشرية، وهذا هو

الحاصل الآن.

٢- يلمس كل من يعمل فكره في واقع البشرية وجود مفارقة عجيبة بين ما

تحرزه في مضمار الاكتشاف والتقنية والتنظيم والسيطرة على البيئة، وبين ما

تحرزه من تقدم على الصعيد النفسي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني - عامة -

حيث إن التقدم التراكمي المطرد على الصعيد الأول، لا يكاد يوازيه سوى الحيرة

والارتباك، واتساع الخروق على الصعيد الثاني. وهذا؛ مع أن الناس يؤملون

دائماً أن ينعكس توفر وسائل الراحة والرفاهية على وضعهم الروحي والنفسي

والاجتماعي، لكن ذلك - مع الأسف - أمنية لم تتحقق!

في الغرب تساؤلات كثيرة اليوم عن سبب هذه الظاهرة المزعجة، وتفسيرات

عديدة لها، فمن قائل: إن العالم لم يوجه من إمكاناته وطاقاته البحثية ما يكفي لسبر

غور الأبعاد الإنسانية والاجتماعية المختلفة؛ وما بذل من جهد في هذه المجالات

أقل بكثير مما بذل في المجالات الفلكية والطبية والفيزيائية والكيميائية ... ، ولذلك

فالنتائج لم تكن غير متوقعة. ومن قائل: إن المشكلة تعود إلى طبيعة العلوم

الاجتماعية، فهي على درجة من الهلامية تجعلها تتأبى على التشكيل، ومهما حاولنا

تقنين أساليب التعامل معها، فإن النتائج التي يمكن أن نتوصل إليها ستظل ظنية

واحتمالية. ومن قائل: إننا لم نكتشف بعد المنهج الملائم لبحث قضاياها ومشكلاتها.

والأدوات المعرفية المستخدمة الآن في المجالات الاجتماعية أكثرها مستعار من منهجيات البحث والمعالجة في المجالات العلمية، ولذا، فإنها ستظل محدودة الفاعلية ... وهكذا، فالتحليلات كثيرة، لكن لا يبدو أن هناك سبيلاً للخروج من المأزق!

وعندي أن التقدم في مجالات العلوم الطبيعية، يعود إلى أسباب عدة. أهمها:

توفر الإطار الذي تتفاعل فيه الخبرات والإنجازات في المجالات المختلفة، مما

يجعل التقدم الأفقي في المجالات العلمية المختلفة يساعد على التقدم الرأسي في كل

مجال على حدة. وأمكن التقدم في بلورة هذا الإطار وفي تحديد المبادئ الأساسية

للعمل فيه لسببين أساسيين:

يعود الأول منهما إلى أن العلم محدود الطموحات، ويشتغل بالجزئيات؛

فكثافة إنجازاته من تواضع طموحاته.

ويعود الثاني إلى كونه على غير صلة مباشرة بمسائل الوحي والروح

والاعتقاد، فكأن الإنجاز فيه في الأصل جزء من سنة الابتلاء في هذه الحياة،

والذي على الناس أن يستخدموا فيه كل مواهبهم وإمكاناتهم للنجاح. أما في مجال

العلوم الاجتماعية، فالأمر مختلف تماماً، فمهما بذل الناس من جهود، ومهما

اكتشفوا من مناهج، فإنهم لن يستطيعوا - مثلاً - تحديد الغاية النهائية للوجود، كما

أنهم لن يستطيعوا توفير المقدمات الكافية لتحديد ما يحتاج العقل من مسارات حتى

يقوم بأعمال الاستنتاج والتوليد، كما أنهم سيجدون أنفسهم مشتتين حيال تقويم

التجارب الكلية.

العقل البشري - على ما يتمتع به من طاقات هائلة - تظل وظيفته عند بحث

القضايا الكبرى أشبه بوظيفة (المدير التنفيذي) الذي يجهز كل أدوات الرحلة

ووسائلها، لكنه لا يحدد أهدافها ووجهتها؛ فذاك من مهام (القائد) الذي يتجسد هنا

في المنهج الرباني المعصوم. وممن انتهى إلى هذه النتيجة (أنشتاين) وهو من أكبر

عباقرة القرن العشرين عندما قال: (إن حضارتنا تملك معدات كاملة، لكن الأهداف

الكبرى غامضة) .

٣- حين أعرض الغرب عن (سبيل الله) أخذ يبحث بجدية نادرة عن السبيل

البديلة التي يمكن أن توصله إلى كل أمنياته، وتحقق له كل رغباته، وقد كان

(القرن التاسع عشر) قرن التفاؤل الكبير؛ إذ حقق العلم انتصارات كبيرة، واعتقد

الناس في الغرب عندئذ أن (العلم) سيكون قادراً على تحقيق كل شيء وحل كل

معضلة، وسيطرت من جراء ذلك النزعة الوضعية أو العلمية المتطرفة التي اعتقد

أصحابها أنهم قادرون على حل لغز الكون والإجابة على كل الأسئلة التي يطرحها

الإنسان، والمسألة مسألة وقت ليس أكثر. وانتهى بهم الأمر إلى الاعتقاد بالتضاد

بين (العلم) و (الإيمان) فإما أن تكون عالماً غير مؤمن، أو مؤمناً غير عالم!

في النصف الثاني من القرن العشرين - على نحو أكثر وضوحاً - بدأت

النظرة تختلف [٣] ، حيث شهد هذا القرن حربين عالميتين إلى جانب أكثر من

١٣٠ حرباً صغيرة، وحيث صارت البيئة الطبيعية في حالة يرثى لها، وأخذت

البنى الاجتماعية المختلفة بالتداعي والانهيار، وتبين لصفوة من علماء الغرب عظم

الخطأ الذي ارتكبه الغربيون حين ردوا على انحرافات الكنيسة بالإلحاد وتأليه

(العلم) ، كما تبين لهم أن العلم أعجز من أن يدل على طريق النجاة. يقول (بيير

كارلي) [٤] : (العلم يهدف إلى تمكيننا من معرفة أفضل بالعالم وعلاقتنا به، كما

أن العلم ينير لنا الطريق في صدد ما يمكن فعله، وبخصوص الوسائل والإمكانات

المتاحة، أو الرهانات والمخاطر. أما (الإيمان) فيقول لنا ما ينبغي فعله لكي نعطي

لحياتنا معنى، إنه يقدم لنا الغاية من الوجود والقيم وأسباب الأمل والعمل) [٥] .

هذه الأفكار صارت من جملة معتقدات بعض صفوة العلماء والمفكرين في

الغرب، لكنها ليست في واقع الأمر سوى خطوات قليلة في طريق طويل،

والتخريب الذي أحدثته (العلمانية) في بنى الحياة الغربية على مدى ثلاثة قرون شديد

الانتشار والعمق؛ والأمل في الإصلاح على المدى المنظور ضئيل للغاية!

٤- إن أمة الإسلام ما زالت تنعم - بفضل الله - بالهداية ومعرفة (سبيل الله)

وهذا ما يوفر للمسلمين اليوم تميزاً، لا يشركهم فيه أحد، كما أنه يخفف الكثير من

لأواء الحياة ومشاقها. وأكبر دليل على هذا عدم وجود ظاهرة (الانتحار) في أي

مجتمع إسلامي، على حين أنها تنتشر في أكثر دول العالم تقدماً ورفاهية. لكن لا

ينبغي لنا أن نطمئن كثيراً إلى ما نحن فيه، فهذا الفيض من الأفكار والصور والنظم

والنماذج التي يبثها في كل اتجاه أكثر من خمسمائة قمر صناعي تدور حول الأرض

أربكت (الوعي) لدى كثير من المسلمين، وبتنا نرى الكثير من الثقافات المحلية

العميقة الجذور آخذةً في التحلل والتفكك والانكماش لصالح رموز الحداثة القادمة من

الغرب، وهذا يفرغ الكثير من الأطر والقوالب الإسلامية من مضامينها، ويدخل

مجتمعاتنا في امتحان ليست مستعدة له!

إن الذي يقرأ التاريخ بشفافية يجد أن التقدم العمراني كثيراً ما يكون مصحوباً

بانخفاض في وتائر التدين وسويّات الالتزام، فالقرن الرابع الهجري - مثلاً - كان

قمة في التقدم العلمي والعمراني، لكن الالتزام بتعاليم الشريعة لم يكن كذلك، فقد

كان في القرون التي سبقته أفضل وأرسخ. وهذا معنى تحذير النبي -صلى الله

عليه وسلم- لأمته من الانبهار والافتتان بزخارف الدنيا، وخوفه من أن تعجز عن

إقامة أمر الله - تعالى - في ظروف الرخاء والرفاهية.

إن المنتجات التقنية - بالإضافة إلى هيمنة (نظام التجارة) - أخذت تعيد

تشكيل حياتنا على نحو لا يعبأ كثيراً بمقتضيات التدين الحق، وصار من الواجب

علينا أن نتدبر أمرنا ونرفع درجة حساسيتنا للوافدات الجديدة، والا فقد نستيقظ بعد

فوات الأوان. وإن على مثقفي الأمة - على اختلاف تخصصاتهم - أن ينهضوا

بمسؤولياتهم والوفاء بالعهد المأخوذ عليهم في هذا الشأن، فالثقافة ليست وجاهة

فحسب، وإنما ريادة ومسؤولية في آن واحد.

ولله الأمر من قبل ومن بعد،،،


(١) سورة الشورى: ٤٦.
(٢) أحمد، ح / ١٤٨٥٣، وابن ماجه / المقدمة، ح / ١١.
(٣) انظر كتاب العلم والإيمان في الغرب الحديث: ٦، ٧ تأليف: هاشم صالح، ضمن سلسلة كتاب (الرياض) عام ١٩٩٨م.
(٤) أستاذ فسيولوجيا الأعصاب وعضو أكاديمية العلوم منذ عام ١٩٧٩ م.
(٥) السابق: ٦٣.