ملفات
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
[المقاومة الفلسطينية والمستجدات]
د. عبد العزيز الرنتيسي [*]
ما من شك أن المقاومة الفلسطينية قد زلزلت أركان العدو الصهيوني، فقد
أحدثت استنزافاً اقتصادياً ونفسياً وبشرياً لا يستهان به، ولا يمكن للصهاينة أن
يتعايشوا معه، ولقد ألجأت المقاومة الجانب الصهيوني إلى البحث عن منقذ، فقادهم
وهمهم إلى انتخاب رجل تمرس على الإرهاب، وله تاريخ حافل في ارتكاب
المجازر، ومن هنا حصل «شارون» على أصوات لم يحصل عليها قائد
صهيوني من قبل.
ووعد «شارون» - وقد ألمَّ به الغرور - بالقضاء على المقاومة الفلسطينية
خلال مائة يوم، ولكن المدة المحددة قد انقضت بينما المقاومة الفلسطينية يشتد
عودها يوماً بعد يوم، وبدأ «شارون» يشعر بالمأزق الذي وضع نفسه فيه،
وسعياً منه للخروج من المأزق مارس كل أشكال الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني
في خطط أمنية أطلق عليها ألقاباً شارونية، فمن «جهنم» إلى «الجحيم
المتدحرج» إلى «حقل الأشواك» إلى «فارس الليل» إلى «السور الواقي» ،
ومن خلالها استباح الضفة الغربية وقطاع غزة مستنداً إلى دعم أمريكي بلا حدود،
ومستخدماً الأسلحة الثقيلة ضد الأحياء السكنية، وكان يتعمد قتل الأطفال إمعاناً في
الضغط على الشعب الفلسطيني، وقصف البيوت بالطائرات المقاتلة (F١٦)
بينما كان الناس نيام في فرشهم، وذلك في مذبحة حي «الدرج» في «غزة» ،
فقتل وجرح العشرات من المدنيين الفلسطينيين، وكان من بين القتلى تسعة شهداء
دون العاشرة من العمر، ولكن خططه الأمنية على فظاعة ما ارتكب فيها من
إرهاب؛ تهاوت أمام صلابة المقاومة وإرادة الشعب الفلسطيني الواحدة تلو الأخرى،
ومن هنا اضطر «شارون» للبحث عن منقذ يخرجه من مأزقه، فمارس
ضغوطه على السلطة كي تدخل في حرب مع حماس.
وأدركت حماس الخطر المحدق بالقضية الفلسطينية في ظل اقتتال فلسطيني
فلسطيني، فقررت نزع الفتيل من خلال إعلانها وقف العمليات لمدة ثلاثة أشهر،
ولكن الجانب الصهيوني تمادى في ممارساته الإرهابية فقام بقتل ستة عشر فلسطينياً،
واعتقال المئات، وهدم البيوت، وحصار المدن والقرى، واغتصاب ما تبقى من
أراض فلسطينية على ضيقها؛ عبر بناء السور وإنشاء المغتصبات، مع رفضه
الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال، وإصراره على
مواصلة عمليات التصفية والاغتيال للشباب والأطفال من أبناء فلسطين.
والسبب المباشر لتمادي العدو الصهيوني إضافة إلى طبيعته العدوانية،
وأهدافه الصهيونية الخبيثة التي تتناقض مع السلام، توهُّمه أن إعلان تعليق
العمليات من قِبَل الفصائل الفلسطينية كان نتيجة لضعف المقاومة، فسارع «يعلون»
بإعلان انتصاره على المقاومة، وتبجح «شارون» قائلاً إن إجراءاته الأمنية
كانت السبب في إعلان الفصائل الفلسطينية تعليق العمليات، ومن هنا فقد سوّل لهم
شيطانهم أننا في حالة ضعف وانهيار، فجاءت حملة التصعيد الصهيونية، والتي
تزامنت مع عدم اعتراف الصهاينة بالهدنة، ومع استمرار تهديدهم للشعب
الفلسطيني بمواصلة حملة الاغتيالات مستخدمين ذرائع أوهى من بيت العنكبوت.
وحرصاً من حماس على الاستمرار بالالتزام بمبادرتها مع توفير الحماية في
الوقت نفسه للشعب الفلسطيني؛ أصدرت بياناً في مطلع شهر أغسطس ٢٠٠٣م
بينت فيه أن التزامها بالهدنة لا يعني أبداً عدم الرد على جرائم الاحتلال وممارساته
الإرهابية، ولكن العدو الصهيوني ضرب عرض الحائط بهذا التحذير، واستخف
به، وبالتالي صعّد من عملياته الإرهابية باغتيال أربعة فلسطينيين في نابلس؛ مما
اضطرت معه حماس لتنفيذ تهديدها، ولكنه على ما يبدو لم يفهم الرسالة فواصل
ممارسة الإرهاب، فاغتال شاباً في الخليل، فاضطرت حماس للتصعيد من جانبها
ملتزمة بتعليقها للعمليات، مع تعهدها بالرد على جرائم الاحتلال وفق بيانها الذي
أصدرته سابقاً.
وفي واقع الحال عندما علقت حماس عملياتها كانت تدرك أن الصهاينة لن
يلتزموا، فلم تكن واهمة في ذلك الأمر، ولكن كانت هذه الخطوة ضرورية لإقناع
مَنْ توهموا غير ذلك أنهم إنما يراهنون على السراب، ولقد وضعت حماس جميع
الجهات التي كانت على تواصل معها طلباً للهدنة أمام صورة الخروقات الصهيونية
عبر مذكرة رصدت فيها انتهاكات العدو المتواصلة؛ حتى يعلم الجميع أن شروط
الهدنة قد انتُهكت من الجانب الصهيوني.
كنا ندرك تماماً أن الهدف الأهم الذي ستحققه الهدنة هي إزالة العقبات من
وجه المقاومة، وحماية الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولا نزال نسعى إلى تحقيق
هذين الهدفين، وسننجح في ذلك بإذن الله تعالى رغم ما قد يطرأ من عقبات، ونحن
على ثقة بأننا قادرون على تذليلها بإذن الله.
وفي ظل الوضوح التام للمخططات الصهيونية التي تهدف إلى تصفية القضية
والوجود الفلسطيني؛ يبدو واضحاً أن الصهاينة لن يسمحوا باستمرار الهدنة، وقد
أعلنوا أنهم لن يلتزموا بها؛ ظناً منهم أن الهدنة ستجبرهم على دفع استحقاقات هم
لا يريدون دفعها، وهم في ذلك إنما يقلبون الحقائق؛ لأن المقاومة هي الأداة
الوحيدة الكفيلة بإرغامهم على دفع الاستحقاقات بإذن الله تعالى، ومن هنا فقد كان
من المتوقع أن العدو الصهيوني سيمارس الإرهاب من جديد مع تصعيد واضح في
عدوانه، فجاءت عملية اغتيال الشهيد المهندس «إسماعيل أبو شنب» أحد أبرز
قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ، وعلماً بارزاً في عالمنا العربي
والإسلامي، وقد شكل هذا التصعيد الصهيوني الخطير طعنة نجلاء للهدنة التي
ترنحت تحت مطرقة الإرهاب الصهيوني، ولذا فلم تتردد حماس في إلغاء مبادرتها
معلنة نهاية الهدنة، وهذا يعني أن المقاومة الفلسطينية ستُصَعِّد من ضرباتها؛ لأنها
لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الإرهاب الصهيوني المتواصل، والذي طال أربعة
من المجاهدين من كتائب القسام مباشرة بعد اغتيال المهندس ورفيقيه، وهذا يبشر
بمستقبل حافل بمزيد من التصعيد في المواجهة، وأن الشعب الفلسطيني مقدم على
مرحلة صعبة جداً، ولكن النصر بإذن الله سيكون حليف المجاهدين والشعب
الفلسطيني المرابط المنتفض.
ولقد عملنا منذ قدوم السلطة حتى يومنا هذا على حماية وحدة الصف
الفلسطيني، وسنواصل بذل كل جهد مستطاع لتفويت الفرصة على كل من
الصهاينة الأمريكان، والصهاينة اليهود، والذين يبذلون جهوداً مستميتة لنقل
الصراع القائم بيننا وبين الاحتلال إلى الساحة الفلسطينية ليصبح صراعاً
فلسطينياً - فلسطينياً، وأملنا كبير في ألا ينجر أحد إلى مستنقع الاقتتال الداخلي،
فهي مهمة جماعية في نهاية المطاف لا تستطيعها حماس وحدها، ففي الوقت الذي
نسف فيه الصهاينة اليهود الهدنة عن عمد مع سبق الإصرار؛ آن للسلطة أن تنحاز
إلى خيار الشعب وهو خيار المقاومة، والذي عبّرت عنه جماهير غزة بتشييعها
جثمان المهندس الطاهر يوم خرجت بغالبيتها الساحقة تطالب باستمرار المقاومة،
فانحيازها هذا سيحفظ للشعب الفلسطيني وحدته التي ترسخت في خندق المقاومة.
ونظراً للتصعيد الصهيوني المتواصل، ورفض العدو المطلق لإطلاق سراح
المعتقلين، وإصراره على مواصلة الاحتلال والعدوان، فإن الخيار الوحيد أمام
الشعب الفلسطيني هو خيار المقاومة والانتفاضة، وعليه؛ فإن المرحلة القادمة
ستشهد بإذن الله تشبثاً فلسطينياً بالانتفاضة مع العمل على تطويرها وتطوير أدواتها،
وسيجد العدو أنه أوقع نفسه في شر أعماله، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: ٢١) .
(*) أحد قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين.