المسلمون والعالم
مأزق الإعلام العربي
في حرب اليمن
د. محمد البشر
المتتبع لتغطية الكثير من وسائل الإعلام العربية للحرب اليمنية الأخيرة
والإرهاصات السياسية التي سببت اندلاع الحرب، وتأثيرها على مرحلة ما بعد
الحرب يلحظ العجب العجاب، فمنذ بداية الأزمة يشعر المتابع لتلك الوسائل
الإعلامية أن الإعلام العربي لم يتحرر بعد من عبوديته العمياء للنزوات والأهواء
السياسية الشخصية، ولم يستفد من الدرس القاسي الذي حصل في حرب العرب مع
إسرائيل عام ١٩٦٧ م، عندما ضلل هذا الإعلام الجماهير العربية حتى ظنت أن
إسرائيل قد هزمت هزيمة ساحقة، وأبيدت عن بكرة أبيها، ولن تقوم لها قائمة،
فإذا بالإسرائيليين يردون على هذا الزيف الإعلامي بضربة قاصمة قبل أن تشرق
شمس الصباح، لتوقظ الشعوب العربية على حقيقة مُرة كشفت زيف إعلامها الذي
لم يكن إلا وسيلة لتمجيد الاستبداد العسكري والتسلط السياسي، وقناعاً يتوارى خلفه
الذين كرسوا أنفسهم لتعبئة الجماهير ونفخها بالشائعات والرسائل المزيفة.
ومع أن الفارق الزمني بين عامي ١٩٦٧ و١٩٩٤ م كبير وشاسع، وخليق
بأن يجعل هذا الإعلام يستفيد من ذلك الدرس الذي تلقاه وأن يعي أبعاده، إلا أن
الأحداث الأخيرة في اليمن أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن مأزق هذا الإعلام
سيظل اليوم وغداً ومستقبلاً كما كان بالأمس مادام يدور في فلك الأهواء السياسية
التي توجهه، ومادام هو أيضاً يقبل بهذا التوجه ويتلقاه بطاعة عمياء وتزلف لا
حدود له.
قد يقول قائل إن أي مؤسسة إعلامية لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن
تنفك عن التوجه السياسي الذي تنتمي إليه، حتى لو كان ذلك في البلاد الغربية التي
تدعي حرية الرأي و «ديموقراطية» الفكرة، ويُرد على هؤلاء بالقول إن
«تبعية» الإعلام العربي للتوجيه السياسي لا يمكن مقارنتها بغيرها من أنواع التبعية الإعلامية الأخرى، فالإعلام العربي كالشاعر الجاهلي يبالغ في المديح ويقذع في الهجاء، وقد كان مديحه وهجاؤه في أحداث اليمن يتعدى مسألة المبالغة في الوصف إلى التضليل والخداع وتزييف الحقيقة، وقد تمثل ذلك في الزخم الإعلامي الهائل الذي وقف بقوة في صف الحزب الاشتراكي يساند فكرته، ويناضل عن رموزه، ويروج لمبادئه في داخل اليمن وخارجها، حتى استيقظت الشعوب العربية على الحقيقة التي لا تقبل الزيف، ولا ترضى بالمخادعة، واكتشفت الشعوب العربية أن الحقائق الصامتة التي كانت تجري على أرض اليمن ونالت تعتيماً إعلامياً يعجز الإنسان عن وصفه، كانت مغيبة عنه وأدركت أيضاً أن هذا الإعلام إنما كان فقط يزاول مهمة التأثير في صياغة الرأي العام، وإعادة تشكيله حتى ينسجم مع السياسة المرسومة له، حتى لو كانت هذه السياسة قد بان عوارها وتكشف زيفها.
وإن تعجب فعجب لبعض مؤسسات الإعلام العربي التي حاولت أن تلتزم
بمعايير الموضوعية والحياد في تغطيتها لأحداث اليمن عندما كانت في أيامها الأولى، لكنها ما لبثت أن أصيبت بالداء الذي أصاب غيرها، فغيرت من خط مسارها،
وانحرفت بشكل ملفت للنظر وبدون سابق تخطيط أو إشعار وانضمت إلى قافلة
المهرجين وركب المزيفين، فخسرت جمهورها أولاً وخسرت المؤسسات الإعلامية
الأخرى التي كانت تنقل عنها ثانياً.
أما الوجه الكالح والمزيف لهذا الإعلام فقد تمثل في عجزه عن التعامل مع
الواقع بعد أن تكشفت الحقائق وانتهت الحرب، واستمر في ممارسة دوره في
التضليل والترويج للفكرة المهزومة، وبات يردد كلمات وعبارات مثل:
«الانتصار الملغوم» و «سقطت الدولة ولم تسقط الفكرة» و «اختفى الحزب الاشتراكي كرقم عسكري في الساحة اليمنية لكنه يظل رقماً سياسياً مهماً ومطلوباً لتحقيق التوازن مع الإسلاميين» و «بقاء الحزب الاشتراكي أصبح ضرورة وطنية وإقليمية ودولية لمواجهة أي احتمالات أصولية» ، وغير ذلك من الجُمل والعبارات والمصطلحات التي أصبحنا نسمعها في هذا الوقت بالذات أكثر من أي وقت مضى.
وفي ظني أن هناك سبباً آخراً لهذا الزيف والتضليل الإعلامي العربي المتعمد
الذي صاحب أحداث اليمن الأخيرة، وهو أن بعض الصحف العربية قد فتحت
أبوابها مشرعة لكل مغضوب عليه، ولكل ناقم على مجتمعه، ولكل منفي وصاحب
«ثأر» ، ولكل مغرض وصاحب هوى لكي يمارس تضليل الآخرين من خلال
هذه الصحافة الموبوءة، ولذلك فإن هذه الصحافة في نظر أمثال هؤلاء تمثل مصدراً
للرزق ووسيلة للتشفي.
ومادام حال الإعلام العربي بهذه الصورة، فإنه سيظل يمارس وظيفته في
تضليل الرأي العام وصياغته من خلال السياسة التي تُملى عليه، لكن المهم أن
تدرك الشعوب العربية هذه الحقيقة، وأن تبحث عن البديل الذي يحترم عقل
الإنسان.