للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا ثقافية

[جناية الفكر الدفاعي]

د. محمد يحيى [*]

في أعقاب الأحداث المأساوية التي عرفت باسم هجمات الحادي عشر من

سبتمبر في أمريكا شهد التوجه المسمى بالفكر الدفاعي أو الاعتذاري التبريري

للإسلام نشاطاً ملحوظاً، وتلقى دفعة قوية من جانب الهيئات والدوائر الرسمية في

العديد من البلدان العربية ليقوم بمهمة وصفت بأنها تحسين وتصحيح صورة الإسلام

«المشوهة» في الغرب على وجه التحديد.

ونهض دعاة هذا التيار ليردوا على مجموعة من الاتهامات و «الشبهات»

الجديدة التي تتعلق هذه المرة بالإرهاب وموقف الإسلام من العنف والتسامح مع

«الآخر» والتحديث والالتحاق بركب العولمة والديمقراطية ووضع المرأة وما

شاكل ذلك.

* مساوئ هذا التيار:

وفي غمرة الحماس الجارف لنشاط الفكر الدفاعي مدفوعاً بما ضُخَّ له من

ميزانيات، وما أنشئ من منابر وما استحدث من مؤتمرات وندوات للحوار

«الديني والحضاري» تبدت مرة أخرى وبشكل أوضح وأوقع مساوئ هذا التوجه

في ممارسة أقطابه ودعاته المحدثين، ولعل أبرز هذه المساوئ أن هذا التوجه

الدفاعي تحول بضغط الأنظمة والغرب من كونه مجرد فرع محدود أو منحى من

مناحي الفكر الديني العام ليصبح هو الاتجاه الأوحد والأكبر في بنية الفكر

والشاغل الإسلامي، وفرضت له أولوية مطلقة على ما عداه من نشاطات التفكير

الإسلامي كالدعوة وتطوير تصورات ورؤى إسلامية توجه وتقود المجتمعات،

وترتب على هذه الأولوية والتضخيم الزائف نشوء تضييق جسيم وحصر معيب

لآفاق الفكر والتدبر والعقل الإسلامي الذي بدا من هذا المنظور كما لو أنه يقتصر

على نشاط «جنائي» محدود بتوجيه الاتهامات ثم الرد عليها. وبدا للناس من جراء

هذا الوضع أن الحالة الطبيعية والمجال والمدى المتاح للفكر والعقل الإسلامي هو

وضع المتهم المستعد دوماً لتلقي شتى الاتهامات والرد عليها بدرجات متفاوتة من

البراعة والحيلة، وغني عن البيان أن أي دين أو مذهب وضعي لا يستطيع أن

يستمر أو حتى يظل في حالة طبيعية متوازنة بينما لا يرى الناس منه أي وجه سوى

ردود مستمرة على اتهامات متواصلة دون أن يعرف أحد حقيقة أو جوهر أو أبعاد

ذلك الدين الذي تحول إلى ما يمكن تسميته بمتهم مذنب، وتحول عقله إلى مجرد عقل

المحامي الذي يدافع عن مذنب أثيم، ومع سيطرة وتغول الفكر الدفاعي الاعتذاري

بفعل الضغوط والتدبيرات السياسية الداخلية والخارجية أهدرت إمكانات واسعة

للتفكر الإسلامي، وأهملت الإبداعات الفكرية الخلاقة التي تدرس الإسلام من شتى

جوانبه. وترافق ذلك مع ترسيخ حالة شعورية نفسية من الحرج والتراجع

والانكماش عند جماهير المسلمين اختفت معها مشاعر عزة الإيمان والاعتزاز بالدين

والشرع، والثقة بالنفس، والاعتداد والفخر بالتاريخ والحضارة لتحل محلها

مشاعر التوجس والحذر والضيق والتبرم والتحرج من ذكر الدين أو حتى

طرحه. وكيف لا تسود هذه المشاعر السلبية الضاربة للأمة في صلب دينها

والناس ترى أقطاب الفكر الدفاعي وأنصاره ومنهم رؤساء دينيون معينون ورموز

جلبت لها أجهزة الإعلام الرسمية الشهرة، وهم يستخذون ويتراجعون تحت مسمى

الدفاع عن الإسلام والاعتذار عنه وتسويغ وجوده. وهذه من أكبر مساوئ النشاط

الراهن لذلك الفكر الذي تحول من الدفاع المزعوم عن الإسلام إلى أن يكون

حرباً عليه ودفاعاً عن خصومه.

فالفكر الدفاعي يبدأ بقبول الاتهامات الغربية على علتها، ويقبل بالغرب كجهة

اتهام وادعاء وحيدة لها حق توجيه ما تشاء من تهم وشبهات دون معقب، وهذا

الفكر يقبل بالاتهامات دون مناقشة دوافعها وخلفياتها وما تنشأ عنه من سباقات

سياسية ومذهبية مغرضة، وهو لا يدخل في نقاش حول أحقية وجدارة جهة الاتهام

والادعاء الغربية التي خضع لها، ولا يجادل في مشروعية وأسس اتهاماتها، بل

يكفي أن يلقي أي صحفي غربي مغمور بشبهة أو تهمة جزافية عشوائية لكي تتحول

عند الدفاعيين الجدد ومنهم علمانيون أقحاح أقحموا أنفسهم فجأة في سلك المعتذرين

عن الإسلام إلى اتهام جاد وخطير وضخم ينبغي الرد عليه، وهكذا ترى الاتهامات

من كل جانب، وتعامل كلها بنفس الجدية ويجري «الرد» عليها بالحماس نفسه،

وهذا «الرد» في ذاته يمثل قلب الخطر الذي يحول الفكر الدفاعي من دفاع

مفترض عن الإسلام إلى دفاع عن خصومه وقبول بفلسفة اتهاماتهم.

ذلك لأن الفكر الدفاعي قد تطور في ردوده؛ فبعد أن كان الاتجاه في مطلع

القرن العشرين إلى نفي التهم وردها وقلبها بإثبات أن الفكرة أو التشريع الإسلامي

موضع الاتهام هو في حقيقته مناط تميز وقوة وميزة (كما كانت الحال في مواضيع

الطلاق وتعدد الزوجات والمواريث والجهاد وغيرها) أصبح التوجه الآن إلى إثبات

التهم وقبولها والقبول بمنطلقاتها وفلسفتها عبر آلية من عمليات «الفصل» ، فإذا

وجهت التهم إلى الإسلام بالتخلف والإرهاب وانعدام التسامح وإهانة المرأة ومعاداة

الفكر والفن والعجز عن إحداث التقدم ... إلخ يسارع «المدافعون» الجدد إلى

القبول بها وإقرارها لكنهم يقولون وهذا هو الفصل الذي أشرنا إليه إن هذه

الاتهامات تنطبق على المسلمين وليس على الإسلام، وتسري وتصح على تاريخ

وممارسات المسلمين ودولهم لكنها لا تنطبق على جوهر أو روح أو صحيح أو

أصل الإسلام، ثم يستدركون بأن جوهر وصحيح ذلك الإسلام ليس هو الإسلام

الموجود بين أيدينا الآن في كتبه وآراء علمائه ودروسهم. فهذا الإسلام ليس سوى

ركام تاريخي من التفسيرات والتأويلات المغرضة قام بها رجال (الفقهاء) محدودو

العلم خاضعون للسلطة وجهوا نشاطهم وفهمهم للدين إلى ترسيخ مفاهيم وتصورات

رجعية بائدة ومتخلفة ضيقة ومعيبة جاهلة ومنحازة متعصبة، بل لا يوجد جوهر

وقلب للدين إنما هي تفسيرات وتأويلات وتخريجات وإسقاطات على نصوص

تاريخية، وإذا كانت التغيرات والتأويلات التاريخية القديمة تستحق النقض والنقد،

وتنطبق عليها الاتهامات الموجهة من الغرب؛ فإن المطلوب الآن الخروج بتغيرات

وتأويلات تقدمية عصرية تضع في حسبانها تلك الاتهامات جميعها وتتفاداها.

ينتهي الفكر الدفاعي الاعتذاري في تجلية الجديد والمحموم بضغوط السياسة

(العلمانية التوجه والغربية المنشأ والميول) إلى أن يكون كما قلنا دفاعاً عن

الخصوم، وإلى أن يقر بالتهم بسهولة غريبة بأن يقول أولاً إنها صحيحة في حق

المسلمين السابقين واللاحقين وفي حق تاريخهم وممارساتهم، ثم يتوسع في القبول

بالقول بأن هذه الاتهامات أيضاً صحيحة في حق الإسلام «التاريخي»

و «الراهن» الذي هو ليس صحيح الدين بل تفسيرات غلبت عليها عقلية وروح

التخلف والخطأ، ثم يتوسع أكثر تمشياً مع الاتجاهات الإلحادية والتشكيكية

المعاصرة للفسلفة الغربية، فينكر أن هناك جوهر الدين أو قلبه أو أصله ويذهب

إلى أن كل ما يوجد هو تفسيرات لنصوص تتفاوت بين الرجعي المتخلف

(وهو الموجود الآن) وبين التقدمي (وهو المطلوب إنشاؤه) ، ولا يعني هذا

التطور سوى أن الفكر الدفاعي الذي يفترض أن يدافع عن الإسلام ضد اتهامات

خصومه بإثبات بطلانها ينتهي في طرحه الجديد والأخير إلى العكس تماماً،

فيثبت التهم في حق المسلمين وحق الإسلام، ويقترح الخروج بإسلام جديد

يتلافى هذه الاتهامات ويتجنبها بإسقاط التعاليم والتشريعات والتوجهات فيه التي

كانت موضع الاتهامات من خصومه العلمانيين والغربيين، وهكذا يخلص

المحامي ليس إلى نفي التهمة عن المتهم بدحضها والتشكيك في مشروعية جهة

الادعاء وكشف انحيازها وغرضها وقلب الاتهامات إلى مصدر فخر وتميز للمتهم

بل بالتخلي عن المتهم وقبول وإثبات كل الاتهامات الموجهة إليه مع قبول جهة

الادعاء والتسليم لها بكل ما تدعيه، والتسليم بمشروعيتها ثم الخروج من هذا كله

إلى مناشدة القضاة (وهم أنفسهم المدعون) بإعلان المتهم مع استنساخ آخر من

صلبه يحمل اسمه لكنه لا يشبهه ويخالفه في صفات التهم.

وليس في هذا التصور مبالغة كما قد يتصور البعض، بل يسنده الواقع والأدلة

الوافرة؛ ففي الأشهر الماضية على سبيل المثال عرض في البلدان العربية مسلسل

تلفزيوني مصري أظهر تعدد الزوجات في مظهر حسن إيجابي بتصوير زوج معدد

يعدل بين زوجاته اللواتي يسعدن ويرضين بهذا الوضع.

ولكن سرعان ما ثار من نصبوا أنفسهم دعاة لتحرير المرأة حسب زعمهم

وتحدثوا عن أن هذا المسلسل يرقى في تصويره هذا إلى اتهام للإسلام بالحط من

مكانة المرأة واضطهادها من خلال الترخيص للأزواج بالتعدد، وهنا كانت المفاجأة؛

فقد سارع «المدافعون» من علمانيين ودعاة تحرير المرأة وعلماء ينتسبون إلى

العلم الديني ويشغلون مناصب رسمية أو يطمعون فيها إلى «الدفاع» عن التهمة

بالأسلوب الجديد الذي بسطناه فيما سبق؛ إذ ذهبوا إلى أن رخصة تعدد الزوجات

هي بالفعل سبة وعار وتهمة؛ لكنها ثابتة في حق المسلمين، وتاريخهم وحق

الإسلام الرجعي، وليس في حق الإسلام التقدمي المأمول الذي يخرج به المفسرون

والمؤوِّلون التقدميون العصريون نافياً لهذه الرخصة منكراً لها بل يؤثمها. وهذه هي

آلية الفكر الدفاعي الجديد نفسها الذي «يدافع» بإثبات التهم وإعدام المتهم أي

إسقاط كل أمر لا يرضى به الغرب من الإسلام حتى يتسق «الإسلام» مع

المطلوب الغربي العلماني.


(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.