في دائرة الضوء
نحن والجمهور الأوروبي
د. محمد يحيى
تنشغل الأوساط الدينية والإعلامية الرسمية في العديد من البلدان العربية
والإسلامية في الآونة الحالية بقضية عريضة متشعبة تُطرح تحت اسم عام هو:
(الإسلام والغرب) وقد انشغلتُ بدوري في مقالات سابقة (ولاحقة بإذن الله) في
متابعة جوانب من الطروحات المتصلة بهذه القضية والتعليق النقدي عليها. ومن
هذه الجوانب ما يتصل بالجمهور الغربي (الأوروبي ثم الأمريكي) الذي يتوجه إليه
المنشغلون بهذه القضية بالخطاب.
وأذكر بادئ ذي بدء أن الخطاب أو الكلام الموجه من الجانب العربي
الإسلامي إلى الجانب الغربي لا يصدر عن (جمهور) إسلامي ليوجه إلى الجمهور
الغربي؛ فالمتحدثون والمنشغلون، بل والمندفعون والخائضون في هذا الهم، في
الغالب ليسوا من قلب (الجمهور) الإسلامي بمعنى القطاع العريض والمثقف من
أبناء الأمة.
وإنما تتحرك فئات بحكم الوظيفة وفي إسارها ووفق التعليمات الصادرة إليها؛
ولهذا فإن الذي يتصدى لمخاطبة الجمهور الغربي مصاب منذ البداية بقصور خطير؛ وأخطر ما فيه هو خضوعه لتوجيهات وتعليمات قصيرة النظر وربما تكون
مغرضة الهدف. كما أن هذا الطرف المخاطِب للجمهور الغربي يستبعد منذ البداية
أن يكون هدف الخطاب أو الحوار كما قد يسمى أحياناً أو الاتصالات أو التفاعل:
هو القيام بواجب الدعوة الإسلامية أو حتى التعريف بالإسلام وعقيدته؛ بل على
العكس يحدد دور الخطاب وهدفه مسبقاً في غرض محدود الأفق هو ما يوصف عادة
بتحسين صورة الإسلام لدى الجمهور الغربي، أو تصحيح هذه الصورة أو طرح ما
يوصف بالمفاهيم الإسلامية الصحيحة في وجه مفاهيم أخرى يقال إن الإسلام
المتطرف والمتعصب والإرهابي قد روّجها لدى ذلك الجمهور.
إذن: نحن منذ بدء العلاقة مع الجمهور الغربي نجد فئة معينة تحتكر أو
يحتكر لها حق الخطاب الموجه لهذا الجمهور؛ فضلاً عن حق إدارة ما يسمى
بالعلاقة بين الإسلام والغرب، وهذه الفئة تعاني من قيود وأوجه قصور عديدة حتى
إذا استبعدنا جانب سوء القصد والنية.
وفضلاً عن أوجه القصور والعيوب هذه التي تنفي أن تكون هذه الفئة ممثلة
للإسلام والمسلمين؛ فإن الهدف الموضوع لخطابها الموجه للجمهور الغربي هو
هدف محدود ومغرض له طابع سياسي نفعي، ولا صلة له بدين الله أو عقيدة
الإسلام وشريعته؛ ذلك أن هدف تحسين الصورة وتصحيح المفاهيم لا يقصد به كما
يدل الواقع هذه الأشياء على محدوديتها، بل يرمي كما سبق لكاتب هذه السطور أن
أشار مراراً إلى تقديم نسخة من الإسلام عُدلت وبُدلت (أو قل شُوهت وابتُسرت)
حتى ترضي الجمهور الغربي المخاطَب بها، وتستجيب لما يحب هذا الجمهور نفسه
أن يرى الإسلام عليه ديناً معلمَناً متغرباً يشبه ما آلت إليه المسيحية هناك؛ بل
ويفتقر إلى الحيوية والفاعلية التي ما زالت الكنائس هنا تتسم بها. هذا عن القائمين
بالخطاب؛ فماذا عن الجمهور الغربي المخاطَب؟
من الواضح أن الخطاب الصادر عن الجانب العربي الإسلامي الموصوف فيما
سبق والداخل في إطار عملية التفاعل بين الإسلام والغرب لا يستهدف الجمهور
الغربي العام كأفراد وجماعات عريضة قدر ما يوجه إلى قطاعات ومؤسسات بعينها
فاعلة في المحيط الغربي ويرتجى نفعها وقوتها لصالح القائمين بالخطاب وللقوى
السياسية الحاكمة والنخب العلمانية المؤثرة في البلدان الإسلامية. وهذه المؤسسات
هي: المؤسسة السياسية في الحكم، والأحزاب الرئيسة، والبرلمان، والقوى
السياسية الضاغطة، ثم المؤسسة الدينية في الكنائس الكبرى وتنظيماتها الكثيرة،
ثم المؤسسة الإعلامية الأخطبوطية الواسعة الانتشار والبالغة النفوذ، ثم المؤسسة
الأكاديمية وبالذات فرعها الاستشراقي، وأخيراً ما يمكن أن يسمى بالمؤسسة
السياحية أو القطاع المشرف على ترويج وتوريد السياح للبلاد الإسلامية المعنية.
والخطاب الموجه إلى كل مؤسسة على حدة وإليها جميعاً قد شكل بطريقة
تستجيب كما قلنا لما تحب هذه المؤسسات أن يكون عليه الإسلام؛ وأيضاً بطريقة
تستجلب رضا هذه المؤسسات (ومن ثَمّ مساعدتها ومعونتها الاقتصادية والإعلامية
والسياسية وحتى الأمنية) للقائمين بالخطاب على الجانب الإسلامي ولمن يقف
وراءهم من نخب حاكمة وعلمانية؛ فالخطاب الموجه للمؤسسة السياسية في الغرب
يقول: إن الإسلام دين سلام ومحبة وتعاون مع غير المسلمين، وليس دين حرب
أو عنف كما يتصور الغربيون على ضوء تجربتهم مع المسلمين (كما يزعم القائمون
بالخطاب) . لكن هذا الطرح الجميل الوردي يخفي وراءه الرسالة الحقيقية التي يراد
توصيلها للحصول على رضى تلك المؤسسة السياسية الغربية ألا وهي أن الإسلام
ينبغي أن يكون دين خمول وسكون يستكين للضيم، ولا يحارب دفاعاً عن الحق
والدين والعرض أو لدفع العدوان والكيد. ووصول هذه الرسالة يستجلب استمرار
المعونات الاقتصادية التي أصبحت أنظمة معينة لا تستطيع الاستغناء عنها كما
يستتبعه إسباغ الحماية والدعم الأمني والإعلامي للنخب العلمانية الحاكمة في وجه
خصومها من الإسلاميين وحتى غير الإسلاميين.
والخطاب الموجه للكنائس الغربية لا يدعو هذه الكنائس مثلاً إلى إيقاف أو
حتى تخفيف حدة عمليات التنصير في الأوساط الإسلامية وغير الإسلامية الموجودة
في بلدان إسلامية؛ بل يتركز هذا الخطاب في سذاجة ولا مبالاة معاً على القول بأن
الإسلام يعترف بالأديان السابقة عليه؛ وكأن هذا الاعتراف يقصد به الصور الحالية
للنصرانية واليهودية، أو كأنه يقر بعقائد التثليث وغيرها. ولا يهتم القائمون بهذا
الخطاب بحقيقة أن هذه الأديان السابقة نفسها لا تعترف بالإسلام في أحسن الحالات
إن لم تحاربه وتعاديه. والغريب أن دعاوى الاعتراف بالأديان السابقة هذه على
فرط تهافتها وتخاذلها لا تؤدي إلى رد كريم من جانب الكنائس الغربية يتمثل في
تخفيف غلوائها النصرانية على أقل الأحوال، وإنما على العكس من ذلك فإنها
تستخدم هذه الدعاوى في تدعيم تحركات الكنائس التنصيرية في البلاد الإسلامية؛
حيث يقال للمسلمين في أفريقيا وآسيا وغيرها: إن كبار رجال الدين (الرسميين)
في البلاد المعتبرة قلب العالم الإسلامي يعترفون بهذه الكنائس، ويزورونها هاشِّين
باشِّين ويبجلون رجالاتها.
أما للمؤسسة الأكاديمية الغربية فالخطاب لا يتضمن تصحيحاً لمفاهيم أو
تحسيناً لصورة، بل يقدم لهم الإسلام بعد مروره في آلة طبع المفاهيم الغربية
ليخرج صورة تحلو لهم. فالقرآن يوصف لهم بأنه كتاب مقدس يشبه الإنجيل،
ويجوز عليه ما جاز على الإنجيل من تأويل ونسخ وتبديل وإسقاط، والأحاديث
النبوية أو السنة ليست سوى موضوعات لتخدم أهدافاً سياسية وقبلية، أما الشريعة
والفقه فليست هي الأخرى سوى قوانين وتعاليم وضعية ألفها الفقهاء والعلماء ويجوز
بل يجب أن تتغير. ولما كانت هذه الصورة هي التي آل إليها حال النصرانية في
الغرب منذ قرون عديدة؛ على يد حركات فكرية عديدة؛ فإن المؤسسة الأكاديمية
هناك تعتقد أن كل الأديان وبالذات الإسلام يجب أن تؤول إلى هذا المصير.
والمؤسسة الإعلامية الغربية التي تروِّج الأكاذيب المعروفة حول شهوانية
وقسوة المسلمين وظلم المرأة والحجاب والمحرمات الإسلامية.. إلخ تقدم لها صورة
(ليبرالية) عن الإسلام المتفتح الذي لا يمانع في اختلاط الرجال بالنساء، ولا يعبأ
كثيراً بالرقص والغناء، ولا يعادي أنماط الحياة الغربية وأساليبها، بل يباركها
ويحث عليها بدءاً من الفنون (الجميلة) وانتهاءاً بالفوائد المصرفية. وهذه الصورة
ترضي الإعلام الغربي وتستجلب السياحة فيما يظن القائمون بالخطاب إلى هذه
القطاعات من الجمهور الغربي.
هذا هو حالنا مع الجمهور الغربي في إطار العلاقة مع الغرب التي فرضت
موضوعاً ينشغل به البعض من فئة قليلة انخلعت من الانتماء للإسلام.