للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[صافرات الإنذار ... ستظل تدوي من بغداد]

د. عبد العزيز كامل

لا يمكن أن نفلح في وصف الدواء، ما لم ننجح في تشخيص الداء؛ هذه

قاعدة مطردة، وتجاهلها هو الذي يُراكِم المشكلات، ويعقد الأمور، ويضلل في

المسير ...

الهزيمة في العراق.. هل هي جناية فرد؟ أم خيانة جيش؟ أم صناعة شعب؟

أم مسؤولية أمة؟! .. لا يسع أحداً يريد صواب الجواب في ذلك، أن يتجاهل

طبائع الأمور، ودوافع الأفعال، ومجريات السنن وقوانين النصر والهزيمة، وكل

ذلك يجمعه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يخاطب الوحي

فيهما أمة المسلمين، فيبين لها عوامل عزها وانتصارها، أو أسباب ذلها وانكسارها.

والمتأمل في خطاب الوحي في ذلك، يراه متوجهاً إلى مجموع الأمة؛ فحالها كلها

هو الذي يوصلها للنصر، أو يبلغ بها إلي الهزيمة، حتى لو بدا أن بعض الأسباب

المباشرة للهزيمة أو النصر صادرة من فئة بعينها أو شريحة بخصوصها، فإجراء

النصر أو الهزيمة بسبب هذه أو تلك، إنما هو جريان للسنن العامة، ولو كانت

أسبابها وقائع خاصة.

انتصار بدر مثلاً، كان استحقاقاً لأمة كاملة لا لمجرد ثبات فريق من المؤمنين

في وجه المشركين عند عين بدر. وهزيمة أحد كانت هزيمة ودرساً لنفس الأمة

كلها، لا لمجرد فئة خالفت الأوامر وتسرعت إلى قطف النتائج، أما يوم حنين،

فكان الخطاب فيه للجميع، مع أن التفريط والفرار قد وقع من البعض.

تأمَّلْ معي هذه النصوص التي تربى عليها الجيل الأول والقرن المفضل،

تأمل هذه المخاطبة للمجموع، سواء كان ذلك في حال النصر أو في وقت الهزيمة:

- في بدر خاطب القرآن الأمة بعد المعركة: [وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ

أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (آل عمران: ١٢٣) ، مع أن الذين انتصروا في

المعركة هم الفريق الخارج للقاء قافلة أبي سفيان فقط، فانتصرت الأمة بهم؛ لأن

الأمة كانت تستحق النصر معهم.

- وفي أحد خوطبت الأمة بهذا الخطاب الجماعي، مع أن الخطأ كان من عدد

من الأفراد: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ

أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ

وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا

قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] (آل عمران:

١٦٥-١٦٧) .

- وفي وقعة حنين يجيء الخطاب عامّاً، وكأن الأمة كلها شاركت في صنع

انكشاف حنين: [لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ

فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ

اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا

وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ] (التوبة: ٢٥-٢٦) .

أما النصوص العامة المحددة لقوانين النصر والهزيمة، فلا نكاد نلمح فيها

تخصيصاً لفريق دون فريق، أو فئة دون فئة؛ فالأمة كلها تنتصر إذا أخذت

بأسباب النصر، والأمة كلها تنهزم لمشاركتها في أسباب الهزيمة. قال تعالى

مخاطباً الأمة كلها: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]

(محمد: ٧) .

- وقال: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ

بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران: ١٦٠) .

- وقال: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ

قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ] (التوبة: ١٤) .

- وقال: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ

فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ

عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: ٤٠-٤١) .

وحتى الكفار، جاء الخطاب عنهم عامّاً؛ فسبب إقدامهم فينا أو إحجامهم عنا،

هو أثر من آثار ثبات الأمة أو فشلها، قال تعالى عن اليهود: [لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ

أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ] (آل عمران: ١١١) .

وقال عن الكفار عموماً: [وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ

وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]

(الفتح: ٢٢-٢٣) .

نعم! لن نجد لسنة الله تبديلاً، ولكن التبديل يأتي منا نحن، على مستوى

الأمة قبل الشعوب، وعلى مستوى الأفراد قبل الجماعات، وعلى مستوى الخاصة

قبل العامة، إلا إذا أدت الخاصة واجبها كاملاً تجاه العامة.

ما حدث في العراق على هذا؛ لا ينبغي أن نختزله كما يفعل جهلة المثقفين

ودجاجلة الإعلاميين في سقوط نظام صدام، أو خيانة بعض قادته، أو عدم صمود

شعبه، فصدام وفريقه، كان ضلعاً واحداً ضمن أضلاع عديدة على خارطة الحدث

العراقي، والهزيمة هذه المرة صناعة عربية قبل أن تكون أمريكية.

لما ضُرب العراق في المرة السابقة؛ استعداداً للمرة اللاحقة، من الذي جهز

لهزيمته، ومن الذي شارك في إنهاك قوته، وحصار شعبه، وتدمير جيشه المبني

من أموال المسلمين؟ صدام حسين كان سيئاً حقاً، ولكن أثناء الأحداث الأخيرة كان

هناك من هو أسوأ منه، فهو قُتل إن كان قُتل وهو يقاتل بين شعبه بعد فوات الأوان،

أما غيره فقد شاركوا في القتل لا في القتال، وشتان بين الأمرين، أما العلمانية

المأخوذة عليه فهو وغيره فيها سواء، ولا فرق عندنا بين البعث العربي الاشتراكي،

والعبث العربي الديمقراطي، فكلاهما شر وشرك في توحيد الطاعة والاتباع.

يريد بعضنا أن يقول: إن العراق كان يستحق الهزيمة، وبغداد كان لا بد أن

تُحتَل!! تماماً كما قيل من قبل عن الفلسطينيين: هم الذين باعوا الأرض لليهود،

وهم الذين فروا من الديار، وهم الذين لم يثبتوا أمام التهجير والترانسفير!

لا يا عزيزي: كلنا هُزمنا على أرض العراق، وكلنا نُضرب كل يوم على

أرض فلسطين، وعلى أرض الشيشان، وعلى أرض أفغانستان؛ فأمتنا واحدة،

منتصرة ومغلوبة [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: ٩٢) ،

النصر نصرنا جميعاً، والهزيمة هزيمة لنا جميعاً، أمتنا كلها فرطت في أسباب

نصر الله، فمعذرة، ثم معذرة، ثم معذرة إلى الله، من تفريطنا في أسباب نصر

الله، وتسارعنا إلى أسباب خذلان الله.

- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين صنعنا تلك الهزيمة الكبرى الجديدة لـ (أمتنا

المجيدة) ، وصنعنا من أقزام النصارى عمالقة، ومن أحفاد القرود أبطالاً، ومن

المخنثين المجرمين من الكفار والمشركين نجوماً ورجالاً.

- معذرة إلى الله؛ فنحن صنَّاع (الكارثة) التي توقعناها، وانتظرناها

وأسهمنا في إنجازها بهواننا حكاماً ومحكومين، علماء ودهماء، مثقفين وجهلاء،

مدنيين وعسكريين، أكاديميين وحرفيين؛ فالأمة كلها شاركت في صنع الكارثة

الجديدة التي بدت أسوأ من نكبة العام ١٩٤٨، وأنكر من نكبة ١٩٦٧، وأكثر

فضيحة مما جرى عام ١٩٨٢، وأشد حسرة مما حدث عام ١٩٩١م.

- معذرة إلى الله؛ فنحن «كلنا» الذين لم نصبر ولم نصابر ولم نرابط،

ولم نتق الله على الوجه الذي يؤهلنا للنصر، نحن الذين لم نجاهد في الله حق جهاده،

ولم نقاتل الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله

ولا يدينون دين الحق من الذين أوتو الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم

صاغرون، ونحن الذين لم نجاهد الكفار والمشركين ونغلظ عليهم كما أمر الله ونحن

الذين إذا قيل لنا انفروا في سبيل الله أثقالنا إلى الأرض ورضينا بالحياة الدنيا.

- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين لم نأخذ على يد الظالم حتى نقصره على الحق

قصراً، ونأطره على الحق أطراً، نحن الذين لم يأخذ عقلاؤنا في أعلى السفينة

على أيدي سفهائنا في أسفلها حتى ينجوا وننجو جميعاً، ونحن الذين لم نتق فتنة لا

تصبن الذين ظلموا منا خاصة، بتفريطنا في أعظم منقبة لخير أمة أخرجت للناس،

يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله.

- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين لم نعتصم بحبل الله جميعاً، بل كنا من الذين

تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، ولم نكن من الذين يقاتلون في سبيل الله

صفاً كأنهم بنيان مرصوص.

- معذرة إلى الله؛ فنحن أمة، اتخذ أكثر أهل الشأن فيها، من الذين اتخذوا

ديننا هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب والكفار أولياء، واتخذوا بطانة من دوننا لا

يألوننا خبالاً، وراحو يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة.

- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين ضيعنا النصيحة والدين النصيحة فلم نؤدها

على وجهها لله ولرسوله وللمؤمنين خاصتهم وعامتهم؛ فعامتنا تجافوا عن نصح

خاصتنا، ودعاتنا جاملوا علماءنا، وعلماؤنا داهنوا حكامنا، وحكامنا صانعوا

أعداءنا إلا من رحم الله وقليل ما هم.

- معذرة إلى الله؛ فنحن الذين لم نستقم كما أُمرنا، وجعلنا الله على شريعة

من الأمر فلم نتَّبعها واتَّبعنا أهواء الذين كذبوا بآيات الله. وتحاكَمَ أكثرنا إلى

الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به، ولم نحكم بما أنزل الله كما أمر الله، ووقعنا في

فعل المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين.

ثم بعد كل ذلك نتساءل: ماذا حدث؟! ومن السبب في صنع ما حدث؟ ومن

المسؤول عن تلك المصيبة الرهيبة التي لها ما بعدها: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ

أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]

(آل عمران: ١٦٥) .

سبحان الله؟! مصاب أصحاب رسول الله من عند أنفسهم، ونحن مصائبنا

نعدها من فعل بعضنا أو صنع أعدائنا؟! ونخذع أنفسنا بعد ذلك بأنه مجرد ابتلاء!!

ومجرد امتحان! ولماذا لا يكون عقوبة؟! لماذا لا يكون تذكرة؟ لماذا لا يكون

دعوة للتوبة والإنابة [أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ

يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ] (التوبة: ١٢٦) ؟ .

نطمئن أنفسنا في كل مرة بأن المنحة في قلب المحنة، وأن الله لم يخلق شراً

محضاً، وأننا يجب أن نستثمر الحدث ... صحيح كل هذا، ولكن الصحيح أيضاً أننا

لا ننجز شيئاً في الواقع يعدِّل الدفة ويقوِّم المسيرة وينقذ السفينة، ونظل ننقِّب في

حطام الكارثة علَّنا نعثر على (الجوانب الإيجابية في الحدث) !!

المصيبة كبيرة، والحدث جلل، والأمة لا تزال مخدرة، وصدمة السكين

على رقبتها جعلتها لاهية وهي تلقى الهلاك، ويتندر سفهاؤها في صحافتهم

الخضراء والصفراء والغبراء بما حدث في العراق مكررين الحديث عن (علي

الكيمياوي) و (ليلى جرثومة) و (الملاذات الجنسية) وكأن بغداد هي تل أبيب،

أو أن رامسفيلد هو صلاح الدين! و (جاي جارنر) هو سيف الدين قطز!!

المصيبة كبيرة، وأكبر ما فيها عدم الشعور بما فيها. وهي في الحقيقة أكبر

من كل سابقاتها، لماذا؟

- لأن العرب والمسلمين كانوا فيما سبق يعزي بعضهم بعضاً في المصائب،

أما اليوم، فنرى البعض يهنئ بعضاً، وسيأتي اليوم الذي يتفاخرون فيه بأيهم لعب

الدور الأخطر في إسالة بحار الدم الأحمر!

- ولأنهم قبل ذلك كانت تحل عليهم المصائب بلا مقدمات، أما هذه المرة،

فهي مخبر عنها قبل وقوعها بسنوات وسنوات، ولم يعملوا عملاً، أو يتخذوا إجراء

لإيقاف الجائحة أو التخفيف من وقعها، بل ما جرى كان هو الاستعجال لسوء المآل.

- ولأنهم كانوا قبل ذلك يتنادون إلى التضامن ضد العدوان، أما هذه المرة

فكان تضامن أكثرهم مع العدوان، فاتفاقية ما كان يسمى بـ (الدفاع العربي

المشترك) التي فُعِّلت في «تحرير» الكويت، لم تفعل لمنع احتلال العراق، بل

جرى تطبيقها على الوضع المعكوس.

- والمصيبة أكبر هذه المرة من كل ما سبقها؛ لأن الكل يعلم أنها مقدمة لما

بعدها؛ فاحتلال العراق هو بداية لاحتلال المزيد من العواصم العربية والإسلامية،

ومع ذلك ظن البعض أن حرب العراق مسألة خاصة، وأن العراق يستحق

«الاحتلال» حتى «يتحرر» من صدام حسين!!

- وهي أكبر هذه المرة؛ لأن الهزائم السابقة كانت تقع وسط أوضاع ثقافية

ودعوية وإعلامية متردية، أما هذا المرة، فهي تقع في ظل ما ظنناه صحوة

إسلامية عالمية، قادرة على أن تحرك الشعوب الثائرة، وتقضي على الأنظمة

الخائنة الخائرة، فكانت الهزيمة المُرَّة هذه المرة للأمة ولصحوتها.

إن مشاهد ميدان المعركة في العراق كئيبة رهيبة، بحيث أصبحت كالشعلة

القادرة على نقل وقودها كاملاً إلى المشاعل المطفأة حولها دون أن ينقص ذلك من

وقودها شيئاً.

لا بد أن نصارح أمتنا، لا بد أن نواجه شعوبنا، ودعونا من التحسس

والتدسس، والحوْم حول القضايا دون لُبِّها، والالتهاء بمظهرها دون جوهرها، لا

بد أن تعلم الأمة أنها تجني هذه الأيام ما زرعته منذ سنين، وتحصد في هذه العقود،

ما غرسته قبل قرون؛ فالأمة لم تكن في يوم أحوج إلى المصارحة والمناصحة

فيما بينها مثلما هي الحاجة الآن؛ فالمشاهد المحيطة بنا مقلقة، والمظاهر مستفزة،

والظواهر لا تدعو إلى الاطمئنان. ومع هذا، يظل الأمل في الله، أن يبرم لهذه

الأمة أمراً رشيداً، ويلهمها رأياً حميداً وفهماً سديداً.

* المشهد العراقي: ماذا يعني سقوط بغدادا؟!

للذين صفقوا، والذين شمتوا، والذين استراحت (ضمائرهم) بالمشاركة أو

الموافقة أو المباركة للغزو الأمريكي للعراق ... وأيضاً للذين لم يعنهم الأمر، أو

عدُّوه محرقة جديدة لطاقات المسلمين، أو استدراجاً ذكياً من الأمريكيين للمسلمين

حتى يلهُّوهم بمشاغل «جانبية» ، نسأل ونتساءل: ماذا يعني سقوط بغداد وهزيمة

العراق؟ وماذا يعني السكوت على بدء الاحتلال حتى يتمكن ويستحيل اقتلاعه؟!

- إن سقوط بغداد، واحتلال العراق، يعني انطلاق عملية التغيير الأمريكي

الشامل في المنطقة، بدءاً من تغيير الأنظمة غير القادرة على الجهر بالصداقة

والتعاون مع اليهود وأوليائهم، ومروراً بتغيير المناهج التعليمية والإعلامية،

وانتهاء بتغيير ما تبقى من مظاهر التمسك بالشرائع والشعائر الإسلامية.

- إن سقوط بغداد واحتلال العراق يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية

وحلفاءها الأشرار حققوا، أو بدؤوا في تحقيق كل ما ظل المحللون والمراقبون

يتبارون في إثباته من أهداف الحرب قبل أن تبدأ تلك الحرب بشهور بل بسنين.

- إن سقوط بغداد واحتلال العراق، يعني أن دولة اليهود قد وصل نفوذها

بالفعل إلى حدود الفرات، وأن خطة الغزو التي وضعها (ريتشارد بيرل) اليهودي

ونفذها (بوش، وتشيني، ورامسفيلد، وباول، ورايس) وغيرهم من

الإنجيليين اليمينيين الصهيونيين، قد دشنت مرحلة التحام تام بينهما من الناحية

النظرية والعملية.

- وسقوط بغداد واحتلال العراق، يعني زوال التهديد ضد اليهود شكلاً

وموضوعاً من الجبهة الشرقية بعد زواله من الجبهة الغربية بخروج مصر من

الصراع بعد كامب ديفيد، بما يعني أن الفلسطينيين أصبحوا وحدهم في المعركة،

ولم يعد هناك من ينادي بدعم صمود الفلسطينيين لا حقيقة، ولا شعاراً.

- هذا السقوط يعني أن الولايات المتحدة قد وضعت يدها بالفعل على ثروة

العراق النفطية، وأن إسرائيل قد ضمنت نصيبها من تلك الثروة، بل وجدت

طريقها لحل أزمتها المائية، وقد يترجم بعد ذلك إلى خطط مد ماء الفرات إلى دولة

اليهود عبر أراضٍ أخرى في طريقها للوقوع تحت السيطرة الأمريكية.

- وسقوط بغداد واحتلال العراق، يعني انفراط عقد التركيبة السكانية

والاجتماعية والسياسية للشعب العراقي، لصالح الرافضة الذين استوعبوا مرحلة

القهر الصدَّامي بسبب ما لديهم من نظام ووحدة مرجعية، جعلتهم أول الطوائف

استفادة مما حدث في العراق، مع كون أهل السنة هم أكثر الطوائف تضرراً

لهشاشتهم ومع أن الحكم كان بأيدي من ينتسبون إليهم نسبة شكلية وتاريخية، وهذا

وذاك سينعكسان سلباً على سائر أوضاع المنطقة، حيث يتوقع أن ينتعش الوجود

الشيعي في شرق الجزيرة العربية ليلتحم مع الوجود الشيعي في إيران والعراق، في

ظل أوضاع مهلهلة لأهل السنة في جميع المجالات وفي سائر الأنحاء.

- سقوط بغداد واحتلال العراق، دون أن تحرك الجامعة العربية ساكناً أو

يرف لمنظمة المؤتمر الإسلامي جفن، يعني أن النظام العربي كان وهماً،

والتضامن الإسلامي الرسمي كان خدعة، والجيوش العربية التي اُنفقت عليها

المليارات من أقوات الشعوب، كانت (تحت الخدمة) لأعداء الأمة، لا لحماية

الأمة.

- سقوط بغداد واحتلال العراق، يعني وبكل صراحة نهاية عهد (الاستقلال)

وبداية عهد (الاحتلال) ؛ فالمنطقة كلها عائدة إلى ذلك الاحتلال بصورة من

الصور أو بشكل من الأشكال إذا لم يتداركها الله برحمته: إما احتلال عسكري،

وإما احتلال سياسي واقتصادي، أو احتلال حضاري وثقافي؛ فالمشكلة الآن ليست

في العراق فقط، ولكن فيما ستمتد إليه يد التغيير الإجرامي اليهودي النصراني

للبلدان المحيطة وغير المحيطة بالعراق.

* المشهد السوري: «سيناريو» الحرب الثامنة:

جاءت حرب الخليج الثالثة، لتكون الحلقة السابعة في مسلسل ما كان يسمى

بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) ، لأن حروب ١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧،

١٩٧٣، ١٩٨٢م، التي وقعت بين العرب واليهود، قد تُوِّجت بحرب سادسة

خاضها الأمريكيون نيابة عن اليهود عام ١٩٩١م التي كانت حرباً لصالح اليهود؛

لأنه لم يستفد منها أحد مثلما استفاد اليهود [١] ، فبعدها دشنت (عملية السلام) التي

قننت الاسترخاء والاستسلام مدة تزيد على عقد كامل، حتى إذا ما جاء أوان الحرب

السابعة، كان مفعول سم السلام الإسرائيلي قد جرى وسرى في شرايين العرب

العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، حتى بات الجسد العربي في وضع

الشلل التام أمام ما أجمعوا (رسمياً) على أنه «عدوان مرفوض» ! وبدأ العدوان

(المرفوض) على العراق، ورفضت الأنظمة العربية من الناحية العملية أي إجراء

من شأنه أن يعطل أو يعرقل أو يؤجل هذا العدوان، بل كان الأمر كما رأينا من

(التعاون العربي المشترك) ، بين أطراف كثيرة، سهلت مهمة الأمريكيين التي

كانت مستحيلة في العراق؛ فلولا هذا (التعاون) لما استطاعت أمريكا أن تحقق

ذلك الهدف لعقود طويلة قادمة! إن تلك المواقف أغرت الحلف الأنجلو ساكسوني

بعد ذلك الانتصار الخياني، أن يكرر تلك الحرب الاستعراضية في مكان آخر،

قبل أن ينصرف الجيش المسرحي ويغادر ساحة الأحداث، فما أن استقرت قوات

بوش في بغداد، حتى وجَّه تجاه دمشق قذائف (الصدمة والترويع) السياسي،

مهدداً بنفسه وعلى ألسنة كبار المسؤولين في إدارته بعواقب وخيمة لسوريا بسبب

موقفها (العدائي) أثناء الحرب! مع أن سوريا لم تلتزم وقت الحدث بالحد الأدنى

من تفعيل (اتفاقية) الدفاع العربي المشترك!!

سوريا ليست هدفاً أمريكياً الآن، ولكنها مستهدفة إسرائيلياً منذ زمان، وفي

اعتقادي أنه إذا وجهت ضربات إلى سوريا تحت أي ذريعة من الذرائع المعلنة على

لسان المسؤولين في أمريكا أو بريطانيا أو أستراليا أو إسرائيل، فلن تكون تلك

الضربات صادرة إلا عن (إسرائيل) نفسها وبتخطيطها ولمصلحتها؛ لأن إسرائيل

في حاجة إلى (نصر جديد) أسهل من نصر أمريكا، وأسرع من فوز بوش!

إذا كانت إحدى أسباب الحرب على العراق هي إيصال النفوذ اليهودي إلى

نهر الفرات، فإن بقية نهر الفرات تجري على أرض سورية، ومن ثم، فإن

(حرب الفرات) التي أُريدَ بها استكمال شوط آخر على طريق (إسرائيل الكبرى)

لا بد أن تستكمل على أرض سوريا بعد العراق، وهنا قد لا تدعو الحاجة أمريكا

إلى التدخل المباشر كما حدث في العراق، لكن لا بد أن يكون لها أيضاً دور غير

مباشر، من خلال الإسناد الثقيل لخطط إسرائيل تجاه دمشق، وقد بدأ ذلك بالفعل

عندما اتهمت أمريكا سوريا بأنها تمتلك أسلحة دمار شامل، وأنها آوت بعض قادة

النظام العراقي، وأمدت العراق أثناء الحرب ببعض المعدات العسكرية (مناظير

عسكرية) ! ، ونحو ذلك من التهم الابتزازية التي كان الغرض منها إشعار

السوريين بأن مصير العراق ليس بعيداً عنهم إذا لم (يتجاوبوا) مع المطالب

الإسرائيلية، ولهذا فإن (إسرائيل) سرعان ما التقطت خيط التآمر العلني، وقدمت

قائمتها الخاصة بها إلى سوريا، وتتلخص في أن تعمل سوريا فوراً على إزالة خطر

حزب الشيعة في جنوب لبنان، وتعمل على وقف السماح بمرور شحنات السلاح

الإيرانية عبر أراضيها لجنوب لبنان، إضافة إلى إغلاق مقرات حركتي حماس

والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين في دمشق، وطالبت دولة اليهود سوريا أيضاً بتفكيك

شبكة صواريخ أرض أرض التي تقول إسرائيل إن حزب الله نصبها في جنوب

لبنان، وواضح من هذا أن دولة اليهود تريد تدمير تلك الصواريخ على غرار ما

حدث في العراق عندما أُجبر على تدمير صواريخ الصمود ٢ خلال الأسابيع القليلة

السابقة على الحرب.

ومن مطالب إسرائيل المعلنة أن تطرد سوريا قوات الحرس الثوري الإيراني

من سهل البقاع في لبنان، وقد جاءت هذه المطالب كلها على لسان شاؤول موفاز

وزير الدفاع الإسرائيلي في تصريحات له صدرت لصحيفة معاريف الإسرائيلية بعد

الإعلان عن سقوط بغداد مباشرة. ويلاحظ هنا أن قائمة الاتهامات والمطالب

الأمريكية والإسرائيلية، تتضاعف عن تلك التي كانت موجهة ضد العراق.

سوريا إذن مستهدفة بالحرب ثم التفكيك مثل العراق، وهذا أحد بنود خطة

(الدويلات الطائفية) التي وضعت في بداية الثمانينيات، ونشرتها مجلة (كيفونيم)

التي تصدرها المنظمة الصهيونية العالمية باللغة العبرية، ثم ترجمت إلى العربية

ونشرت تفاصيلها جريدة العرب بتاريخ (١١/١٢/١٩٩٢م) ، وجريدة العرب

العالمية بتاريخ (١٢/٢/١٩٩٨م) ، حيث جاء في التقرير الخاص بتلك الخطة كلام

موهم عن سوريا وعن حرب مزعومة بينها وبين العراق، تتسبب في تفكيكهما معاً،

وذلك لإخفاء حقيقة ما يدبر للبلدين من حروب تستهدفهما دون أن يتحاربا مع

بعضهما، جاء في التقرير: «أما العراق فهي غنية بالبترول، وفريسة لصراعات

داخلية، وسيكون تفكيكها أهم بالنسبة لنا من تفكيك سوريا؛ لأن العراق على الأجل

القصير أخطر تهديد لإسرائيل، وقيام حرب سورية عراقية سيساعد على تحطيم

العراق داخلياً، قبل أن يصبح قادراً على الانطلاق في نزاع كبير ضدنا، وكل

نزاع داخلي عربي سيكون في صالحنا، وسيساعد على تفكك العرب» [٢] .

وجاء فيه أيضاً: «إن تفكيك سوريا والعراق إلى أقاليم ذات طابع قومي

وديني مستقل كما هو الحال في لبنان، هو هدف إسرائيل الأسمى في الجبهة

الشرقية، سوف تتفتت سوريا تبعاً لتركيبها العرقي والطائفي إلى دويلات، كما هو

الحال الآن بلبنان، ويقترح أن تظهر على الشاطئ دولة علوية، وفي منطقة حلب

دويلة سنية، وفي منطقة دمشق دويلة سنية أخرى معادية لتلك التي في الشمال، أما

الدروز فسوف يشكلون دويلة في الجولان التي تسيطر عليها، وسوف يكون هذا

التقسيم ضماناً للأمن والسلام في المنطقة وبكاملها على المدى القريب» .

المأزق السوري سيشكل إحراجاً مضاعفاً للأنظمة العربية يفوق ما حدث أثناء

أزمة العراق التي انتهت بحرب الكارثة، فماذا عسى أن تفعل الأنظمة العربية إذا

ما طلبت أمريكا منها أن تشارك في حصار سوريا اقتصادياً، أو أن تُفعِّل العقوبات

ضدها، وكيف ستتصرف لتنفيذ أو تسويغ رغبات الإدارة الصهيونية الإجرامية

المشتركة، لكل من أمريكا وبريطانيا وأستراليا وإسرائيل؟! الرامية إلى عزل

سوريا تمهيداً لذبحها كما حدث للعراق؟

هل الدول العربية ستطالب الرئيس بشار بالتنحي للحفاظ على وحدة سوريا

وسلامة أراضيها وشعبها؟ وهل ستطالب سوريا (بمزيد من التعاون) مع فرق

التفتيش التي طلبت أمريكا من سوريا السماح بدخولها ليتجول جواسيسها في

المنشآت والمواقع والقصور؟ وهل ستدعو الأنظمة العربية وقتها لعقد (مؤتمر قمة)

لإنقاذ الوضع في سوريا ليتبادل فيه المسؤولون العرب أنخاب السباب؟!

الموقف في سوريا يحمل مخاطر أخرى جسيمة لا يقل تأثيرها عن تأثير ما

حدث للعراق، ولا يزال العرب ينتظرون كما كان عهدهم دائماً، مع فارق واحد

وهو غياب الشجب والتنديد!

* المشهد الفلسطيني: خارطة الطريق «المظلم» :

مهما حاولنا الفصل بين القضيتين، أو هوَّنَّا من الأثر المتبادل بين النكبتين،

فإن العراق المحتل أصبح كارثة جديدة على فلسطين المحتلة؛ فالقيادة الأمريكية في

العراق أصبحت على مرمى البصر من فلسطين، وخطط المجرم شارون ستلقى من

الآن فصاعداً دعماً عملياً مباشراً من نظام العراق (الصديق) في بغداد!!

عندما عزمت أمريكا على غزو العراق، جهزت ما يسمى بـ (خارطة

الطريق) لإقناع العرب بأنها جادة في حل القضية الفلسطينية، وعُرضت الخطة

ببنودها، لتكشف عن أن الإدارة الأمريكية لا تزال مصرة على التعامل مع القضية

الإسلامية الكبرى على أنها (مسألة أمنية) ، ومع ذلك فقد وافقت عليها الدول

العربية (المعنية) بالقضية الفلسطينية، وألحت في مطالبة أمريكا بالإسراع في

إنجاز خارطة الطريق، حتى ينتهي هؤلاء المعنيون أو المعينون من (صداع)

القضية الفلسطينية، الذي طال عجزهم عن حسمه سلماً أو حرباً، حقيقة أو خيالاً.

ما هي خارطة الطريق؟ وهل ستغير من مسار (الصراع) العربي

الإسرائيلي الذي أضحى (النزاع) الفلسطيني الإسرائيلي؟!

أريد أن أقرر هنا أولاً، أن ذلك (النزاع) لم يعد يكفيهم فيه أن يكون نزاعاً

فلسطينياً إسرائيلياً، بل المراد الآن، وبعد أن جاء أبو مازن؛ أن يكون تفاهماً

فلسطينياً إسرائيلياً؛ فأبو مازن القادم من رحم السلطة الهزيلة، هو أكثر رموزها

استعداداً للمهازل، وهذه حقيقة يؤكدها اقتران اسمه بوثيقة (مازن - بيلين) التي

تنازل فيها أبو مازن نيابة عن الشعب الفلسطيني، بل الشعب العربي، بل الأمة

الإسلامية، عن القدس لليهود، في مقابل أن تأخذ السلطة قرية (أبو ديس) التي

قرر اليهود تسميتها باسم (القدس) مع احتفاظهم هم بالقدس الأصلية، ولهذا نحذر

من الآن، من أن أبا مازن، قد يرفع عقيرته بالكلام عن استعادة القدس، وهو في

الحقيقة يقصد مع اليهود القدس المزيفة أو قرية (أبو ديس) . الواقعة على أطراف

القدس من خارجها.

أما خارطة الطريق التي ستوكل مهمة التعاون فيها إلى أبي مازن، بعد انتهاء

تاريخ الصلاحية لأبي عمار؛ فإنها جريمة أخرى في حق فلسطين بل في حق

الإسلام ذاته، حين يوافق هؤلاء على المشاركة في مقاومة الجهاد الشرعي، بعد

تسميته إرهاباً.

خارطة الطريق تتضمن باختصار ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: وحدد لها المدة من أكتوبر ٢٠٠٢م إلى مايو ٢٠٠٣م،

وتهدف إلى إنشاء سلطة فلسطينية جديدة يكون رئيس الوزراء فيها هو صاحب

الصلاحيات (يعني إحالة عرفات إلى التقاعد) ، بحيث تعتمد هذه السلطة على

هبات (الدول المانحة) مقابل إصدارها بياناً لا يقبل التأويل يعيد التأكيد على حق

اليهود في اغتصاب فلسطين، المعبر عنه بـ (حق إسرائيل في العيش بسلام وأمن)

وفي مقابل أن تقوم تلك السلطة الجديدة أيضاً بوقف الانتفاضة المسلحة على الفور،

بل منع كل أشكال العنف (ولو بالحجارة) ضد الإسرائيليين في كل مكان،

إضافة إلى إغلاق كافة المؤسسات التي تحرض ولو سلمياً على مقاومة الاحتلال،

وتتضمن تلك الخارطة الشيطانية إعادة تأهيل السلطة أمنياً بالتعاون مع أمريكا

ومصر والأردن (ضد من؟) تحت قيادة تنفيذية قوية، يمثلها وزير الداخلية،

وتضيف الخطة الجهنمية إلى ذلك إلزام السلطة الجديدة بالعودة إلى (التنسيق الأمني)

مع الإسرائيليين وفق خطة (تينت) بإشراف أمريكي، وفي مقابل ذلك، ترفع

الحكومة الإسرائيلية الحظر المفروض على أموال السلطة المجموعة من شعوب

الدول العربية والإسلامية بحيث تستثنى منها بشكل قاطع كل الجماعات

(المتطرفة) . وهنا يمكن لشارون أن يقدم ما سماه (تنازلات مؤلمة) بأن يأمر

بإيقاف بناء المستوطنات التي تم إنشاؤها منذ قدومه المشؤوم، إضافة إلى تنازل

آخر (مؤلم) يتمثل في العودة إلى حدود يونيو ١٩٦٧م عفواً أقصد حدود سبتمبر

٢٠٠٠م، حيث سيكون هذا ثمناً (معقولاً) لإعادة سفير مصر والأردن إلى

تل أبيب!

أما المرحلة الثانية: فقد حدد لها المدة من يونيو ٢٠٠٣م إلى ديسمبر ٢٠٠٤م.

والطريق المرسوم لها في الخارطة هو ربط إمكانية إنشاء دولة فلسطينية ذات

حدود مؤقتة بمدى تطبيق متطلبات المرحلة الأولى، وإذا أثبتت السلطة الفلسطينية

الجديدة قدرتها على الوصول إلى تلك المرحلة، فستتم الدعوة إلى إطلاق

المفاوضات من جديد على أساس «سلام الشجعان» الشامل والعادل بين كل من

إسرائيل وفلسطين وسوريا ولبنان، بحيث تتوج هذه المفاوضات في حال إكمالها

بإعلان سلام نهائي وتطبيع كامل بين (إسرائيل) وكافة الدول العربية في المجالات

كلها وبخاصة المجال الأمني!

وأما المرحلة الثالثة: والمحدد لها ما بين سنتي ٢٠٠٤م و ٢٠٠٥م، فخارطة

الطريق فيها مرسومة على أساس عقد مؤتمر دولي ثانٍ في بداية عام ٢٠٠٤م،

لإطلاق مفاوضات (الحل النهائي) ليتحول إلى وضع دائم عام ٢٠٠٥م، بما يشمل

حل كل المشاكل المعلقة، كمشكلة اللاجئين والحدود، ومصير القدس والمستوطنات

وذلك في كامب ديفيد ثالثة على ما يبدو.

لقد أراد الأمريكيون والإسرائيليون الوصول إلى هدفين لكل منهما من خلال

طرح مشروع خارطة الطريق، الأول منها تحقق أكثره لأمريكا وهو إضاعة الوقت

بشغل العرب بمسائل جانبية حتى تستكمل أهدافها في العراق، والثاني وهو الذي

تريد تحقيقه (إسرائيل) يتمثل في البدء (أولاً) وقبل كل شيء بسحق الانتفاضة

الفلسطينية بأيد فلسطينية، وبمباركة عربية.

أما إسقاط عرفات بطريقة ديمقراطية، وإضعاف أي رئيس للسلطة الفلسطينية

يأتي بعده، فهي أهداف تأتي تبعاً، وأما الهدف الذي لن يأتي أبداً في ظل

المفاوضات والمساومات والمراوغات، فهو إنشاء دولة فلسطينية مستقلة؛ لأن

الاستقلال لا يأتي إلا عن طريق الرجال، فهؤلاء، وهؤلاء فقط هم الذين سيدمرون

مشاريع شارون وأبي مازن وأبي عمار، وكل آباء رغال.

المضحك المبكي هنا أن العرب يراهنون من جديد على حزب العمل

الإسرائيلي (المحب للسلام) وعلى نجمه الصاعد (ميتسناع) ، الذي يشاركون من

الآن في إنجاح حملته الانتخابية ضد شارون، تماماً كما شاركوا في حملة باراك

الذي جاء بشارون! وما نخشاه الآن أن يبدأ عرفات في المزايدة على أبي مازن،

فيبدأ في إطلاق حملة مقاومة للمقاومة ليثبت لأمريكا المجرمة أنه رجلها الوحيد!

* المشهد الخليجي: التغيير البطيء.. سريع المفعول:

لم تعد اتهامات الولايات المتحدة الأمريكية لبعض الدول الخليجية، برعاية

(الفكر الإرهابي) خافية على أحد؛ فتلك الدول، وبخاصة بلاد الحرمين، متهمة

بأن الإرهاب يفرخ فيها عن طريق المناهج الدراسية التي تقوم كما يزعمون على

الفكر الوهابي، والأمريكيون يعلمون أن استعمال القوة العسكرية ضد دول الخليج لا

يوجد ما يسوِّغه أمام العالم، في الوقت الراهن على الأقل، ولكنهم مع هذا مقتنعون

بأن الخطر الحقيقي على المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة قد ينبعث من

أرض الجزيرة العربية، حاضنة الإسلام، وحاضرة البعث الإسلامي على مدى

الأربعة عشر قرناً الماضية، من خلال التزام أكثر سكانها بالإسلام الصحيح في

الاعتقاد والتحاكم التشريعي. وهو ما يعود في النهاية إلى تميز مناهجها التعليمية

بثوابت إسلامية فرطت فيها الكثير من الدول الأخرى.

مشكلة الخليجيين مع الأمريكيين إذن هي في استمرار بقاء وعطاء هذه

المناهج (الإرهابية) !! ولهذا فقد عكفت مجموعة من الخبراء الأمريكيين، يطلق

عليهم (مجموعة الـ ١٩) على وضع تقرير وخطة في كيفية إجراء ذلك التغيير

الذي لم يعد يقبل التأجيل، لا في دول الخليج فحسب، بل في كل دولة عربية أو

إسلامية تعطي مساحة كبيرة من مناهجها لبثِّ تعاليم الإسلام، وقد انتهى الخبراء

بالفعل من كتابة تقرير، رفعوه إلى جهاز الأمن القومي يحوي دراسة مفصلة وشاملة

مع التوصيات، لما أسموه (الجوانب النفسية للإرهاب الإسلامي) ، ورفعت

الدراسة إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، حيث وافق عليها على الفور، ويمكن

تلخيص محتوى الدراسة وتوصياتها فيما يلي:

- الصورة السلبية عن الولايات المتحدة وعلاقتها بإسرائيل، هي البذرة

الأولى للأفعال الإرهابية العربية والإسلامية، ولا بد من تغيير هذه الصورة.

- لا بد من إيجاد صيغة إلزامية «للتعاون» بين الأنظمة العربية والولايات

المتحدة الأمريكية لتغيير مناهج التعليم والسياسة الإعلامية، وفق خطة مشتركة.

- ينبغي تغيير المفاهيم التي تحتوي عليها المناهج التعليمية من جهة حضها

على كراهية اليهود والغرب.

- المناهج التعليمية في كثير من البلاد العربية والإسلامية تحض على

الإرهاب من خلال الدعوة إلى مفهوم (الجهاد) ، وهذا المفهوم هو المسؤول عن

تفشي ظاهرة الإرهاب في فلسطين ضد الإسرائيليين.

- الجيل القادم من الإرهابيين العرب سيكون أكثر شراسة من الجيل الحالي؛

ولهذا يجب أن يبدأ القضاء على النفسية الإرهابية من المراحل الأولى للتعليم،

وبدون ذلك ستكون الإجراءات الحالية للحملة على الإرهاب في العالم مجرد مسكِّن

وقتي.

- يمكن لدول الخليج أن تلعب دوراً مهماً باستغلال ثقلها الديني في عملية

تغيير المناهج، وكذلك يمكن أن تقوم مصر بدور لا يقل أهمية لوجود الأزهر فيها.

- من المهم إلزام المرجعيات الدينية بالتركيز على الفرعيات المتعلقة

بالطقوس والعبادات، لضمان بقاء الدين علاقة منفردة بين الإنسان وخالقه.

- من المهم الكف في المناهج الدراسية عن إثارة الحديث في قضايا التحدي

الحضاري ودور المسلمين فيه، ويكون ذلك عن طريق التدرج في تغيير المناهج

التعليمية في البلدان العربية، على أن يبدأ هذا من المرحلة الابتدائية.

- من الأفضل أن يطلق على حصة التربية الإسلامية اسم (الثقافة الدينية)

لتشمل الكلام عن الفضائل الدينية الموجودة في اليهودية والمسيحية بجانب

الإسلامية.

- لا بد من مراجعة مادة اللغة العربية وبخاصة ما يتعلق بالنصوص الأدبية،

وفقرات المطالعة التي تتضمن الكثير من مظاهر بث الكراهية للآخرين، والتي

تصور (القاتل) العربي على أنه بطل التاريخ.

- مناهج التاريخ أيضاً تحتاج إلى تغيير، لتنقيته مما سمي بمراحل الاستعمار،

وتنقيته من الدروس المتضمنة تصوير القتلة على أنهم أبطال وشهداء، والتي

تتضمن تصوير الحضارة العربية على أنها كانت سباقة في ميدان العلم والمعرفة.

- تغيير المناهج مهم للمدرسين، بدرجة لا تقل في الأهمية عن الدارسين؛

فتعديل المفاهيم عند المدرس، سيكون له أثره على من يدرسهم.

- يجب أن تعتمد دراسة المادة الدينية على العقل والمنطق، لا على اتباع

النصوص؛ فهذا في حد ذاته خطوة مهمة على طريق محاربة الفكر الإرهابي.

- لا بد من استغلال التغييرات (الفسيولوجية) في المراحل المتوسطة عند

الطلاب والطالبات في سن المراهقة، من أجل بناء إنسان خالٍ من النوازع

الإرهابية.

- طلاب المراحل الثانوية لا بد أن يطلعوا على موضوعات دينية خاصة

بأصحاب الديانات الأخرى، إضافة إلى موضوعات عن الإخاء الإنساني وحوار

الحضارات؛ لأن تركيبهم العقلي في هذه المرحلة يقبل ذلك.

- لا بد أن تخلو المناهج الجامعية من المناهج الدينية بالمرة، ونوصي

بإطلاق برنامج (التعاون الجامعي) الذي بمقتضاه، سيتم ترتيب رحلات جامعية

مشتركة بين جامعات الدول لإزالة الحواجز النفسية عند الطلاب.

- من المهم دعم أفضل النماذج في عملية التغيير القادمة لتعميمها ونشرها.

- تغيير مناهج التعليم جزء من استراتيجية الولايات المتحدة في علاقاتها

الأساسية مع الدول العربية، ولا بد أن يبقى هذا في إطار التعاون مع الحملة الدولية

ضد الإرهاب.

- ستُرفض كل الطروحات والبرامج المتعلقة بمشاريع إقامة دول دينية في

الشرق الأوسط؛ لأنها ستمثل مرتعاً خصباً للإرهاب.

* المشهد الإسلامي: تغيرات الواقع الجديد:

وأعني به مشهد الساحة الإسلامية بجماعاتها ومنظماتها ومؤسساتها وهيئاتها

وجمعياتها، بعد المصاب العراقي. ماذا ينتظِر هذه الساحة، وماذا يُنتظَر منها، في

ظل أوضاع جديدة مكنت العدو الأمريكي من نصب خيمة جديدة في عقر ديار

المسلمين، وفي عاصمة خلافتهم، وغرة حضارتهم ومنطلق فتوحاتهم إلى أقصى

بقاع الأرض؟

ماذا يدبر للإسلام في شخص أنصاره من الإسلاميين في المنطقة والعالم؟

وماذا يمكن للإسلاميين أن يدبروا في حدود الشرع والعقل، من خطط وتحركات

لرفع الغمة، ودفع العدوان، ورد الصائل عليهم في معركة الإرهاب الأمريكية

العالمية؟

الكلام هنا سيطول، ولهذا أرجئه إلى عدد قادم بإذن الله.


(١) تفاعلت التداعيات لتلك الحرب في ذلك الوقت، بعد أن أطلق صدام حسين تهديده المشهور (سأحرق نصف إسرائيل) ، وكل ما حدث بعد ذلك من خلاف مع الكويت، ثم إغراء باحتلالها ثم استدراج لغزوها، ثم تحالف لتحريرها، هو في رأيي،،،، (مجرد تفاصيل) ! .
(٢) لقد نفذ ما يتعلق بالعراق من الخطة، تنفيذاً كاملاً، أما تفكيك سوريا ثم تفكيك بقية الكيانات الكبرى من العرب، فإنها حلقات يؤثر بعضها في بعض، ويوصل بعضها إلى بعض.