للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هموم ثقافية

[إشكالية البلورة السياسية للديمقراطية]

بقلم:سامي محمد الدلال

في مسيرته النقدية للديمقراطية استعرض الكاتب في حلقات سابقة عدداً من

الإشكاليات التي تواجه هذا المبدأ، فتعرض للمفهوم العام، وزاوية النظر، والبلورة

الثقافية، والبلورة الاقتصادية، ويواصل الكاتب في هذه الحلقة عرض لإشكالية

أخرى. ... ... ...

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

في البدء نقرر وجود اتفاق على استعمال كثير من مفردات التعبيرات السياسية

من مثل:

-الحرية. -الوحدة. -المساواة. -الاشتراكية.

-الديمقراطية. -العلمانية. -القومية. -الوطنية.

-الحقوق السياسية.. وغيرها.

إن الاختلاف حول الشكل والمضمون لكل مفردة من تلك المفردات هو أحد

إشكاليات البلورة السياسية للديمقراطية.

لقد أخفقت الأنظمة الديمقراطية في بلورة مفهوم موحد لأي من المفردات

المذكورة. إن الإخفاق المشار إليه لم يكن مستغرباً، بل هو متوقع تماماً، بل

الاستغراب، كل الاستغراب، أن يحصل العكس، أي أن يحصل الاتفاق على

مفهوم موحد لتلك المفردات.

إن تفاوت:

مستويات الفهم السياسي.

قدرات التخطيط في الإطار السياسي.

الإمكانات المتوفرة، أو المتاحة، لكل شريحة لها دور في القرار السياسي،

أو التأثير عليه.

الطاقات في استثمار الإمكانات.

إمكانية توظيف ذلك الاستثمار في المنظومة الاستراتيجية العامة للعمل

السياسي.

في القدرة على حشد الجماهير خلف المطالب السياسية.

في استخدام وسائل التعبير عن المشروع السياسي.

الخبرات المكتنزة والمتولدة عن خوض غمار الصراع السياسي.

المرجعيات السياسية، بل والعقدية للمشاركين في البلورة السياسية.

درجة فهم مقصودات تلك المرجعيات في تأصيلاتها السياسية.

استيعاب المرحلة السياسية الخاصة بالدولة قياساً على الخريطة السياسية

الدولية.

وغيرها كثير من ألوان التفاوت.

إن كل ذلك التفاوت بين:

الأحزاب بكافة أطروحاتها السياسية والعقدية.

المثقفين (من اقتصاديين ومحامين وأدباء ومدرسين، محترفين سياسيين

وغيرهم) .

الإسلاميين (بمختلف مدارسهم وجماعاتهم) .

العسكريين (وكثير منهم متسيّسون)

عامة أفراد الشعب (من عمال وفلاحين وموظفين ومهنيين وغيرهم) .

هذا التفاوت يؤدي إلى اضطراب سياسي متعدد الأوجه؛ حيث إن لكل فئة من

الفئات المذكورة نظرة معينة وتفسيراً خاصاً بها إزاء كل عنصر من عناصر

التفاوت المنصوص عليها آنفاً، مما يقود حتماً إلى وقوع الاختلاف بينها بما يفضي

قطعاً إلى صراع سياسي متأجج ترمي كل فئة إلى تغليب فهمها الخاص لتلك

المفردات المذكورة، بما تراه أنه يحقق مصلحتها أو يحقق مصلحة الأغلبية الشعبية

التي ستسير خلف مشروعها السياسي الذي عبّر عن قضاياها، مما ينتج عنه توسيع

القاعدة الجماهيرية لتلك الفئة.

إن المتمعّن في أصل فكرة الديمقراطية، وكذلك المتمعن في الأنظمة التي

عبّرت عنها على أرض الواقع يتبين له بسهولة أن الديمقراطية لم تنجح في نزع

الفتيل من القنبلة السياسية المتعددة الأوجه، بل ساعدت في إشعال ذلك الفتيل مما

أدى إلى تفجر قنابل سياسية كثيرة في الأنظمة التي حكمت بالديمقراطية.

نحن نعتبر ذلك أمراً طبيعياً بسبب ما تضفيه الديمقراطية من سعة في تفسير

تلك المفردات؛ حيث تسعى كل فئة من الأحزاب والمثقفين والإسلاميين

والعسكريين وعامة أفراد الشعب إلى احتكار أكبر حصة ممكنة من القرار السياسي

أو من المشاركة في صنعه.

إن اتساع حصة أي فئة من تلك الفئات سيكون حتماً على حساب تضييق

حصص الفئات الأخرى مما يجعل دخولها في مواجهات على كافة المستويات أمراً

لا مندوحة عنه.

وعندما ترتفع درجة حرارة الصراع بين تلك الفئات تحت المظلة الديمقراطية، ثم تبدأ المواجهات الجماهيرية في مختلف المرافق يأتي دور العسكر شاهرين

سيف الحسم السياسي لصالح المؤسسة العسكرية (وهذا خاص بالعالم الثالث غالباً)

التي تقوم فوراً بحل المجلس النيابي وتعليق الديمقراطية إلى حين ترى أن إعادة

تقديم تلك المنحة (أي الديمقراطية) إلى كافة تلك الفئات سيكون مرضياً للجميع،

وتبدأ الدورة نفسها من جديد.

إن جعبة العسكريين ستكون ملأى بالحجج القوية التي تسوّغ فعلتهم التي

فعلوها. ومن أهم تلك الحجج وضع حد لتوظيف الديمقراطية في خدمة مصالح

فئات بعينها واستغلال المجلس النيابي لتمرير تلك المصالح، وكذلك وضع حد

لتفتيت الوحدة الوطنية التي تجزأت بفعل الصراع السياسي الذي أتاحته المظلة

الديمقراطية. وليس شرطاً أن يتم ذلك من خلال العسكريين، بل يمكن أن يتم ذلك

من خلال السلطة الحاكمة صاحبة القرار السياسي في المنحة الديمقراطية.

وفي كلتا الحالتين، فإن الحكام الجدد سينتهي بهم المطاف إلى الاستيلاء على

مقدرات البلاد لتصب في استثماراتهم الخاصة، حتى إذا ما تنامى الضغط الشعبي

نحو التغيير، وبلغ مرحلة الانفجار أدلوا له بدلو الديمقراطية من جديد، وتتكرر

اللعبة! !

ويبقون هم في الحكم! !

إن أولئك العسكريين ربما كانوا مستقلين، أو واجهات لفئات حزبية أو طائفية

أو عرقية، وفي كل الأحوال فإنهم سيصبغون الوضع السياسي في البلاد بالصبغة

العلمانية، من مثل:

* الاقتصاد السياسي من منظور علماني.

* الثقافة السياسية من منظور علماني

* الإعلام السياسي من منظور علماني.

* السلوك السياسي من منظور علماني.

* المناهج التربوية السياسية من منظور علماني.

* الدراسات السياسية (بحوث ومؤسسات) من منظور علماني ... وهكذا.

إن الوصول إلى إضفاء الصبغة العلمانية في الجانب السياسي للأمور المذكورة

يتطلب:

* تحديد الأهداف المرحلية، ثم النهائية لكل وجه من الأوجه السياسية

المذكورة: (الاقتصاد، الثقافة، الإعلام، السلوك، المناهج، الدراسات) .

* رصد الدعم المالي الذي يحقق الوصول إلى تلك الأهداف.

* إعداد الحشد البشري المؤهل علمياً لتحقيق تلك الغاية، والمكافئ

للاحتىاجات المطلوبة لكل وجه ولكل مرحلة.

* وضع الخطط اللازمة لتلبية الترجمة العملية لكل ذلك.

* المتابعة والتقويم، ليسير الركب العلماني ضمن الخطط المرسومة، ولسد

الثغرات، وتصحيح الأخطاء، واقتراح التعديلات بما يضبط خط سير الموكب

العلماني نحو غايته.

إن المهيمنين على السلطة (سواء كانوا عسكريين أو حزبيين أو طائفيين أو

غير ذلك) سيتخذون من الديمقراطية وسيلة يمكن ضبط إطارها لتحقيق الوصول إلى

تلك الصبغة السياسية العلمانية من خلال تشريعات نيابية تأخذ أوضاعها القانونية

دون أن تتأثر بحل المجلس النيابي بعد ذلك.

إن الإسلاميين عندما يتخذون قرار المشاركة في المجالس النيابية ينبغي لهم

أن يأخذوا كل ما ذكر بعين الاعتبار. وقد شارك الإسلاميون في المؤسسات

السياسية العلمانية على مستوى نواب وعلى مستوى وزراء، وبما أنهم لم يدركوا

المدى العلماني في المؤسسات التي سمحت لهم بولوج تلك القنوات النيابية

والوزارية فهذا يعني قصور فقههم للواقع، بل الأكثر من ذلك، أصبحوا هم جزءاً

من درجات السلم التي ترتقي عليها المؤسسة السياسية الحاكمة للوصول إلى أهدافها

السياسية العلمانية. وإنه من المعلوم أن لجاناً عدة تنبثق من المجلس النيابي لوضع

التصورات للقضايا التي تعرض على المجلس في كافة المجالات. وقد شارك

الإسلاميون في كثير من تلك اللجان. ورغم تلك المشاركة فإن محصلة ما يعرض

على المجلس من الدراسات التي تقدمها اللجان لا تخرج عن الإطار السياسي

العلماني بما لا يوحي بوجود أثر لمشاركة الإسلاميين في أعمال تلك اللجان؛ ذلك

أن الخطوط الموضوعة من قِبَلِ الملأ لعمل اللجان المذكورة مؤطرة مسبقاً بالإطار

العلماني، وفي حال نجاح الإسلاميين في أي لجنة من تلك اللجان في تمرير

دراسات معينة تخرج عن الخط العلماني المحدد لعمل تلك اللجنة فإن إجراءات

معينة تتخذ لإجهاض تلك التوصيات: منها إعداد العدة لإسقاطها بالتصويت في

المجلس، ومنها تأليب الرأي العام ضد نتائجها باستعمال الصحافة وأجهزة الإعلام

المختلفة بما يجعل تلك التوصيات وكأنها ليست في صالح الشعب، فيصبح رفضها

محصلة حاصل، فربما لا تصل حتى إلى مرحلة التصويت عليها، وفي حالة

حدوث ذلك وقد حدث عدداً من المرات فإن النتيجة الطبيعية التي يصل إليها الراصد

أن المؤسسة الحاكمة قد نجحت في الوصول إلى أهدافها المتعلقة بالبلورة السياسية

العلمانية للشعب ومؤسساته.

إن خلاصة ما وصلنا إليه هي أن إشكالية البلورة السياسية الديمقراطية يمكن

رصد أهم معالمها في النقاط التالية:

١- الاختلاف حول تفسير التعبيرات السياسية، وإخفاق الديمقراطية في

توحيد ذلك التفسير.

٢- إن سبب الاختلاف تفاوتات منوعة بين المشاركين في الإطار السياسي.

٣- إن استمرار تلك الاختلافات يؤدي إلى اضطراب سياسي متعدد الأوجه.

٤- إن هذا الاضطراب يحسم لصالح الملأ الحاكم الذي يوجه جميع مضامين

الصراع السياسي وجهة علمانية.

٥- الإسلاميون المحتوون في ذلك الإطار الديمقراطي السياسي العلماني

يصابون برذاذه على مستوى النيابة أو التوزير دون أي فاعلية حقيقية جوهرية

لصالح العمل الإسلامي، بل تستغل مشاركتهم السياسية لصالح توفير واجهة مقبولة

للنظام الحاكم.