للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[أمن الحرمين.. والحرمات الثلاث]

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

ومن والاه، وبعد:

فإن من أشد الأخطار على أمة أو شعب أو وطن يواجه تهديداً وتربصاً

خارجياً، أن يُشغل أهله أو ينشغلوا بخلافات ومنازعات داخلية تخلخل تماسكهم،

وتهدد وحدتهم، بما يسهل على المتربصين في الخارج مهمة اختراقهم أو اجتياحهم

جميعاً، بلا تفريق بين مُحِقّ ومُبْطِل من المختلفين والمتنازعين، وهذه قصة كل

اختلاف وتنازع تجاهل أهله المختلفون والمتنازعون، الأخطار الحقيقية انشغالاً

بأخطار مفترضة يمكن تجاوزها، أو قضايا فرعية يمكن تأجيلها ريثما يتم حلها أو

الحد من أضرارها.

وبلاد الحرمين الشريفين ليست استثناء من هذا؛ فهي تواجه اليوم مثل أكثر

جيرانها تربصات غير مخفية، وتهديدات ليست خيالية، ولا أدل على ذلك من

تهديد العديد من عتاة اليهود في الإدارة الأمريكية بالنيل المباشر من تلك البلاد،

حتى وصل الأمر إلى المطالبة بالاحتلال العسكري لآبار البترول وفرض السيطرة

الإدارية على مكة والمدينة، وهذا ما جاء على لسان العديد من الرموز النافذة من

المحافظين اليهود الجدد، من أمثال ريتشارد بيرل، وبول وولفويتز، ووليم

كريستول، وغيرهم [١] ، بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، عندما طالب اليهودي الحقود

ريتشارد بيرل، نائب وزير الدفاع الأمريكي بإضافة المملكة العربية السعودية إلى

«محور الشر» الذي أعلنه الرئيس جورج بوش، وتعهد بالقضاء على الخطر

الصادر من دوله الثلاث: العراق، وإيران، وكوريا الشمالية في خطاب الاتحاد

لعام ٢٠٠٢م.

لقد أوضحت الأحداث التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م،

وأحداث غزو أفغانستان ٢٠٠٢م، وأحداث غزو العراق ٢٠٠٣م، أن صقور

الصهيونيتين: النصرانية واليهودية في الإدارة الأمريكية، تتلهف على ذرائع

تنصبها شباكاً لصيد فرائسها، سواء أكانت هذه الذرائع حقيقية أو وهمية؛

فأفغانستان التي تم اجتياحها، والعراق الذي وقع احتلاله، لم يكن غزوهما بعيداً

عن المخططات الأمريكية قبل سنوات من وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر،

ولكن الذرائع حشدت للهجوم عليهما بحجج الدفاع عن شعبيهما، وكل االشواهد تدل

على أن غزو أفغانستان كان ضرورة أمريكية مهمة للاقتراب من بترول بحر قزوين،

وغزو بغداد كان مطلباً أمريكياً ملحاً لوضع اليد على مخزون العراق الهائل من

البترول، كما أن بترول إيران التي يتربص بها الأمريكيون الآن سيظل هدفاً عاجلاً

لإدارة الشر التي تريد إخضاع شرق العالم وغربه لهيمنة إمبراطورية عالمية تبدأ

بالاقتصاد، وتمر بالسياسة لتنتهي بالسيادة والقيادة العسكرية المباشرة.

وتجيء دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، لتمثل حلقة رابعة من حلقات

الاستهداف الصهيو أمريكي، لا من أجل السيطرة المباشرة على حقول النفط فحسب،

بل من أجل وضع حدٍ لما يسميه الصهاينة الأمريكيون (منبع الإرهاب) ، ولا

يقصدون في ذلك بالطبع إلا الإسلام بمنهجه القويم، وعقيدته الصافية ممثلة في

المنهج السلفي النقي الذي يحيا ويُحيي في ربوع تلك البلدان وما حولها، ممثِلاً

بالفعل أكبر تحدٍ حضاري شامل لحضارة الغرب الآيلة للسقوط بإذن الله.

إن استهداف بلاد الحرمين بالتغيير المنافي للإسلام سلماً أو حرباً، ليس هدف

الصهيونية الأمريكية فقط، بل هو هدف الصهيونية الإسرائيلية التي تمثل العدو

الأقرب الذي طالما هوَّن المسلمون والعرب من خطره وفرطوا في مواجهته؛ فكم

ردد دهاقنة الصهاينة ومنظروهم الأماني التوراتية الخرافية عن «مملكة إسرائيل

الكبرى» التي تمتد من النيل غرباً حتى الفرات شرقاً، ومن حدود تركيا شمالاً

حتى أطراف المدينة المنورة جنوباً، كم ردد هذا منظروهم، وكم خطط لتنفيذ هذه

الأساطير في عالم الواقع سياسيوهم وعسكريوهم، حتى أقنعونا بالفعل قبل القول

بأنهم جادون فيما يقولون؛ وذلك عندما تم غزو العراق بخطة وضعها اليهودي

الأمريكي (ريتشارد بيرل) للوصول إلى الفرات، ليخضع العراق بعد تنفيذها

مباشرة - وفي إشارة رمزية صهيونية صارخة - لإدارة حاكم يهودي ضليع في

صهيونيته، هو (جاي غارنر) ، أول حاكم يهودي للعراق في تاريخه كله،

صحيح أنه لم يستمر في الحكم طويلاً، ولكن الإشارة والرسالة اليهودية الصهيونية

تم إيصالها بكل وضوح، ولذا جيء بعده بالخبير البارز في شؤون (مكافحة

الإرهاب) لمدة ٢٣ سنة (بول بريمر) !!

على أي شيء يدل هذا؟! .. إنه يدل بكل وضوح على أن مسار الأهداف

الأمريكية والإسرائيلية يجري في اتجاه واحد فيما يتعلق بالمشروع العتيد:

(إسرائيل الكبرى) التي لا بد من استكمال حدودها خالصة في حكمها (وليس

سكناها) لليهود، حتى تتحول بعد ذلك إلى (مملكة) مهيأة لمجيء المسيح، سواء

أكان مسيح اليهود المفترَى، أم مسيح النصارى المزعوم.

لم تعد هذه الخرافات مجرد أساطير يطير بها أساطين الديانة اليهودية

والنصرانية في عالم الأحلام، بل إنها أصبحت واقعاً تحركه الأساطيل الحربية

والأحزاب السياسية والأحلاف الدولية، ولا أدل على ذلك من أن قائد طلائع الدجال

(جورج بوش) قد صرح أكثر من مرة أنه جاء «لينفذ إرادة الله» !

وفي وسط كل تلك المخاطر والتحديات، تجيء تربصات أهل الزيغ

والضلال والفساد من طوائف المبتدعة، وتيارات الإلحاد والعلمنة، لتضيف إلى

البلاء بلاءً بتطلعاتها الانتهازية للفوز بنصيب من ميراث الأيتام على موائد اللئام.

وتبقى أرض الحرمين، بكعبتها المشرفة، ومدينتها النبوية، غير بعيدة عن

تلك الأخطار، وبخاصة في هذه المرحلة الأحرج في تاريخ الأمة. وغير خافٍ

على أحد أن ثمة مستجدات بدأت تفرض نفسها في ساحة الأحداث محلياً وإقليمياً

ودولياً، في وقت أصبح الفصل فيه بين المحلي والإقليمي والدولي شيئاً غير واقعي،

وهذا الأمر بذاته يضاعف المسؤولية تجاه حساسية الظروف المحيطة بالمنطقة؛

فقد ينشأ الحدث محلياً، ثم يتفاعل إقليمياً، ثم يصبح هماً عالمياً وقضية دولية

يستمر انشغال المسلمين بها واستثمار الكفار لها لسنوات بل عقود؛ كما حدث في

عملية غزو الكويت التي لم تنته تفاعلاتها إلى الآن.

مخاطر رهيبة بكل المقاييس، تحيط اليوم بمنطقة الخليج، في حلقات حديثة

من مسلسل التوريط والتورط لأطراف عديدة يتم استدراجها بذكاء الخبثاء لتعمل من

حيث تدري أو لا تدري لخدمة منظومة الأهداف القديمة والجديدة لأعداء الإسلام،

ولا شك أن تلك المخاطر تتوزع على الأطراف المستهدفة كلها، بحيث لا يمكن

لطرف أن يخرج منها بموقف راجح أو مكسب رابح، إلا إذا استمسك بالأمر المتين،

من البصيرة واليقين، في كل المسائل العلمية والعملية المجمع على مشروعيتها،

فلا يصلح أن ينفرد طرف من الأطراف أياً كان بتقرير مصير الأمة في أدق أمورها

وأخطرها دون بقية علماء وعقلاء وحكماء الأمة؛ فبعض تلك المسائل التي تتم

المجازفة فيها الآن من تبادل التكفير، والمبادرة بالتقتيل، لو عرض بعضها على

عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر، ولو عَرَض بعضها لأهل

بدر لاشترطوا للبت فيها إجماع المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم أجمعين -!

وكيف لا وأكثرها من طوامِّ الورطات المتعلقة بالدماء والأموال والأعراض التي

تشكل بمجموعها حرمة لا تقل عن حُرمة الحرم نفسه بأخص ما فيه وهو الكعبة

المشرفة التي قال عنها عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وهو

ينظر إليها: «ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك» [٢] .

إن حرمة المسلم مقررة بثوابت الكتاب والسنة؛ فكل أذى للمؤمنين في دمائهم

وأعراضهم أو أموالهم محرَّم مجرَّم، كما قال الله عز وجل: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ

المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً] (الأحزاب:

٥٨) ، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «إن دماءكم

وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»

[٣] .

وهذه الحرمات الثلاث عامة في كل نفس مسلمة؛ فهي ليست خاصة

بالمسلمين في أرض دون أرض، أو قوم دون قوم، أو صنف أو جنس أو لون

دون الآخرين؛ فدماء المسلمين جميعاً متكافئة، وأعراضهم وأموالهم مصونة

بمحكمات الشرع ومسلَّمات العقل، لا يجوز أن يُعتدى عليها بتأويل أو تبديل، ولا

ينتقص منها بغير تشريع أو قضاء، وإذا كان الإسلام قد حفظ دماء الكفار

وأعراضهم وأموالهم، إذا دانوا للمسلمين بذمة أو عهد، وحرَّم قتلهم أو الاعتداء

عليهم، أو نقض عهودهم أو الغدر بهم، فأوْلى بالمسلم ثم أوْلى به أن يكون محفوظ

الدم والمال والعرض غير مخفور في ذمته، أو مغدور في دمه.

إننا نرى بوضوح - من خلال نصوص الشريعة - أن حرمة أرض الحرمين،

وحرمة المسلمين الساكنين فيها تتداخلان الآن، بما لم يكد يحصل في التاريخ من

قبل؛ ذلك أن تربُّص الأعداء بها وبأهلها باعتبارها الأصل صار أصلاً عندهم، فقد

اجتمعت فيها كل الدواعي التي تضاعف حقد الأعداء وحسدهم؛ فهي وطن المسلمين

الروحي، وجهة قبلتهم في الصلاة، ومحط ركابهم في المناسك، ومهوى أفئدتهم،

ومثوى نبيهم صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى ما أنعم الله عليها من مقدرات

وخيرات يسيل لها لعاب الطامعين الجشعين؛ فإذا كانت إجراءات الحماية والتأمين

لأرض الحرمين تقع في الأساس على أهلها القاطنين بها؛ فإن إشغالهم أوقات الفتن

والمحن عن الأخطار المحيطة، هو في الحقيقة من أكبر الصوارف عن وحدة

الموقف في مواجهة تلك الأخطار. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في

جزيرة العرب؛ ولكنْ في التحريش بينهم» [٤] .

إن الجزيرة العربية مهبط الوحي ومحضن الإسلام، تتعرض اليوم لأخطر

حقبة مرت عليها منذ أن جمع الله شملها بالإسلام؛ فلم يحدث في التاريخ كله أن

أحاط الخطر بها في معظم أنحائها مثل ما هو حاصل اليوم، فمن تربُّص يهودي

رابض في شمالها؛ إلى تدخل نصراني سافر في شرقها؛ إلى تسرب رافضي في

أنحائها، وتغلغل علماني في جنباتها، والجميع يريد حصة من القصعة: ديناً أو

مالاً أو عرضاً أو دماً، نسأل الله أن يحفظها بحفظه ويكلأها برعايته.

وتظل حماية بلاد الحرمين واستقرارها، مسؤولية كل مسلم موحد، يحمل

بين جوانحه قلباً مخلصاً ناصحاً للمسلمين، فأمنها تأمين للدين، ووحدتها على الحق

وحدة للمسلمين، وقوتها في مواجهة الباطل قوة لجميع الموحدين، هذه أمور بدهية

أولية، لا تحتاج إلى مزيد تنظير، أو عميق تقعير، وهي لذلك تتطلب من كل ذي

مُسْكَة عقل أو مسحة دين أن يتبرأ إلى الله من استباحة حمى الحرمين، أو الحرمات

الثلاث للمسلمين الموكلين بأمر صيانتها والجهاد في سبيل الله لحمايتها من كل عدو

حقود متربص.

فأوْلى بالمسلمين اليوم في هذه البلاد المباركة وما حولها أن يوفروا كل قطرة

دم، وكل قطعة درهم، بل كل خلجة عقل وخفقة قلب وحركة ساعد، لمواجهة

التربص بحاضرها ومستقبلها والمفروض على المسلمين في البلدان المحيطة بها،

حيث يتهيأ الأعداء فيها، للانقضاض منها على آخر حصن يمكن أن يستعيد

المسلمون فيه عافيتهم، ويستأنفوا مسيرة دعوتهم.

نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يكف بأس الأعداء عنا،

وألا يجعل بأسنا بيننا.. اللهم آمين.


(١) صدرت تصريحات بذلك نشرتها صحيفة الواشنطن بوست في ٨/٨/٢٠٠٢م.
(٢) أخرجه: الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن، رقم (٢٠٣٢) ، وحسنه الألباني في غاية المرام (ص ٢٤٩) .
(٣) أخرجه: البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (٣/ ٥٧٣) ، ومسلم في كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الأموال والأعراض والأموال (٣/ ١٣٠٥ - ١٠٣٧) .
(٤) أخرجه: مسلم في كتاب صفات المنافقين، باب تحريش الشيطان (٤/٢١٦٦) .