قصة قصيرة
[الميتتان]
د. وليد قصَّاب
تفوح من حوله رائحة الموت والدماء، وعفونة الجثث المبعثرة هنا وهناك..
كان كامناً في حفرة عميقة خلف تل بعيد؛ يحتمي فيها من نيران الموت التي تحاول
أن تحصد كل شيء في المكان حصداً لا رحمة فيه.
يلتفت إلى اليمين ليرى جثة عبد الحميد وقد تشوّهت معالمها، وضاعت
آثارها، وينظر إلى اليسار ليرى عشرات من جثث أصدقائه الذين كانوا معه في
خندق واحد: عادل، ومحمود، وياسين، وأبو الحسن.
ولكن عبد الحميد هو الصورة المحفورة التي لا تُنسى؛ كان دائب الحلم، دائم
التطلع، يحلم بالعودة، وكانت صورة خطيبته عائشة التي عقد عليها قبل أن يأتي
إلى هنا بأيام لا تفارقه أبداً. كان يحفظ مقاطع من رسائلها عن ظهر قلب، وكانت
عائشة شاعرة، وكان عبد الحميد يحفظ معظم شعرها، وكم قرأ على أصحابه من
أشعارها ما يجعل الحماسة تفيض في جوانحهم كنهر متدفق غزير، ويُلهب في
أعماقهم جذوةً من إيمان حارٍّ؛ يضرب جذوره في أعمق أعماق الفؤاد:
أنتم لنا أملٌ عميق
أملٌ وحيدٌ بعدما اختنق البريق
قد غبتمُ
لكنكم في القلب نبراسُ الطريق
عادت الطائرات مرة أخرى تقصف المكان بلا رحمة، فغاص في حفرته،
وانهالت أطنان القنابل تزرع الموت والدمار في كل مكان، وتشاغل عن ذلك
باستحضار عبد الحميد إلى خواطره؛ كم ضمّهما خندق واحد! وكم عربدت
الطائرات فوق الرؤوس مجنونة لا تهدأ! ولكنّ كلاً منهما كان يحسّ بالأمان وهو
في صحبة الآخر، كانا ينسيان وقتذاك أنهما في قلب الموت، ويحسبان أنهما في
نزهة ممتعة، كان عبد الحميد شعلة إيمان ويقين، لم يشعر بالخوف مرة واحدة،
ولم يختلج في جسده عضو لتخيُّل الموت داهماً قريباً في كلّ لحظة، وكان دعاؤه
الحارّ الذي لا ينقطع: «اللهم إنه خروج في سبيلك.. فارزقني إحدى الحسنيين..
النصر أو الشهادة» ، وتفيض عيناه بدمع صادق وهو يدعو.
وكان على جدية الموقف وحرارته يداعبه: «وعائشة؟!» ، فتختلج شفتا
عبد الحميد، ولكنه لا يكفّ عن الدعاء.
وقد حاول أن يقتدي به كثيراً، وأن يردّد مثل دعائه، وخاصة في أعقاب
الصلوات، ولكنه لم يكن يملك ذلك، لم يكن يخاف الموت، ولكنه لم يكن يريده.
ترتسم أمام عينيه أحلامٌ بعيدة؛ فينحبس في شفتيه تمني الشهادة، ويدعو متمنياً
النصر.
تسلَّق الحفرة قليلاً، وألقى نظرة على جثة عبد الحميد الغارقة في بحر من
الدماء، وفي هذه اللحظة سقطت قذيفة على بعد أمتار منه، فغاص سريعاً في
الحفرة وقد دوّى المكان دويّاً رهيباً.
كانوا مكلفين بحماية التل، وقد طُلِب منهم ألاّ يتزحزحوا؛ لأن القصف مقدمة
لهجوم يهودي يستهدف احتلال الموقع كله.
كفّت الطائرات عن القصف، ولكنَّ عدداً من طائرات الاستكشاف حلَّقت فوق
الموقع.. تحرّك في حفرته، ثم تسلَّق نحو الأعلى يستطلع معالم المكان.. تحول
كل شيء إلى أنقاض، وما هي إلا دقائق حتى سمع هدير آليات ثقيلة تتجه نحو
الموقع، لقد كان القصف مقدمة إذن كما قال لهم القائد، وها هم آتون، إن احتلال
هذا الموقع هو هدفهم، والمعارك الطاحنة تدور فوق أرضه منذ عشرين يوماً.. لقد
أبدى الرجال بما يملكون من عُدّة قليلة بسالةً منقطعة النظير.
حضرته مرة أخرى صورة عبد الحميد، ما يزال كلامه في أذنيه: «إن لم
نمت شهداء وقعنا بأيديهم فمتنا كالكلاب» .
أحسّ بالرعشة تسري في كيانه لأول مرة، واستيقظ كأنما كان غافلاً يستشعر
الخطر الزاحف.. إنهم آتون بأثقل عتاد، وسوف يمسحون المكان مسحاً، ولن
تفلت من قبضتهم ذبابة.
الآليات تهدر هديراً يَصُمُّ الآذان، وهي تقترب من المكان حثيثاً، تفقَّد سلاحه
.. رشاشه.. والقنابل التي في حزامه، ثم مدّ رأسه من حفرته يتطلع يميناً وشمالاً،
وعاد يتساءل مرة أخرى: أين أفراد الفرقة؟ أماتوا جميعاً؟ اعتصرته الحيرة، ثم
دهمه خوف مفاجئ.. شعر بالضياع والوحدة والإحباط، وفي لحظة خاطفة عبرت
خواطره صورٌ وأحداثٌ وشخصياتٌ: والده والدته المنتظران، وشقيقته هيفاء،
وخطيبته التي أحبها، ومستقبل عريض كان والده لا يفتأ يتحدث عنه، ثم طغى
على ذلك كله صور رفاقه الذين كانوا معه بالأمس: عادل، ومحمود، وياسين،
وأبو الحسن.. وعبد الحميد، آه.. وقصائد خطيبته عائشة..
وراحت الصور تتلاحق أمام عينيه قاتمة كئيبة، والآليات تتقدم في زحف
مجنون دون أن تعترضها نسمة، ثم انقطعت الصور عندما دوّت في المكان فجأة
طلقات الأسلحة الرشاشة والقنابل اليدوية، أحسّ أنه يُبعث إلى الحياة، وشعر
بفرحة طاغية لا تحدّ، ما يزال بعض من أفراد فرقته أحياء إذن، لم يموتوا جميعاً،
كانوا متربّصين مثله يتحيّنون اللحظة، وينتظرون الالتحام، وها هي ساعة
الصفر!
جهّز سلاحه، وراح يسدد، أخذ كل شيء يتلاشى من ذاكرته رويداً رويداً،
لم يبقَ شاخصاً أمامه إلا صورة عبد الحميد يردد دعاءه الحار العميق، وعبارته
المأثورة: «إن لم نمت شهداء وقعنا بأيديهم فمتنا كالكلاب» .
أحس بإيمان حار يضرب جذوره في أعمق أعماق فؤاده، فامتلأ بقوة عجيبة
خارقة، ثم تراءت له الدنيا كلها تافهة هينة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وفي
لحظة خاطفة ارتسمت أمامه المِيتَتَان: ميتة الشهداء، وميتة الكلاب؛ فراح يطلق
النار وهو يدعو بخشوع وصدق وإيمان: «اللهم! إنه خروج في سبيلك..
فارزقني مِيتَة الشهداء» .