للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

التغيير القادم

هل سبب الحرب اقتصادي؟

وما الآثار المترتبة على دول المنطقة؟

د. أحمد علي الغامدي

* مقدمة لا بد منها:

نقل عبد الوهاب بدرخان في عدد الحياة بتاريخ ٢٤/٤/٢٠٠٣م كاريكاتيراً عن

جريدة «هيرالد تربيون» التي تصدر في شيكاغو بالولايات المتحدة، وفي هذا

الكاريكاتير يظهر رجل أمريكي يحدّث نفسه قائلاً: العراق ثم سوريا نزولاً إلى

الأردن ثم السعودية ومنها إلى إيران، وعودة إلى أفغانستان إحياءً للزمن السابق،

فتنظيف باكستان والهند ثم الصين ومنها إلى كوريا الشمالية، عودة إلى روسيا

ومنها مباشرة إلى أوروبا القديمة.

ويأتي سؤال من خارج الصورة: ماذا عن خريطة الطريق؟ ويأتي الجواب:

هذا ما كنت أبحث عنه!!

الكاريكاتير يرمز إلى السياسة الخارجية الأمريكية، ويرسم صورة لمبادئها

الاستراتيجية، ومعلوم أن فن الكاريكاتير يركز على عناصر محددة من رسالته

ويضخمها، وعليه فقد يقول قائل: هذا ضرب من الخيال. وقد يكون كذلك، ولكنه

بالتأكيد يعطي طرفاً من الصورة كما سوف يتضح لاحقاً.

هناك تطور آخر دقيق في السياسة الخارجية الأمريكية بدأ بالظهور في أواخر

التسعينيات، وتبلور في ظل الإدارة الأمريكية الحالية. ويتلخص هذا التبلور في

عدم رضا المحافظين الجدد عن السياسة القائمة على بناء تحالفات مع قوى إقليمية

مختلفة، والاستناد عليها في تحقيق المصالح والأهداف المختلفة، ورغبتهم في

تجاوز ذلك إلى مباشرة تحقيق المصالح والأهداف بالآلة الأمريكية. وقد نشر المعهد

الدولي للدراسات الاستراتيجية في نشرته رقم (١) يناير ٢٠٠٣م كلاماً صريحاً بهذا

الخصوص لـ «بول ولففيتز، وكونداليزا رايس» وغيرهم من كبار المحافظين

الجدد.

وليس غريباً أن يأتي في هذا السياق اختيار بول بريمر ليكون رئيساً للإدارة

المدنية للعراق، وبريمر هو المنظِّر الرئيسي لفلسفة الضربات الاستباقية، وقد

شغل وظائف عدة عالية في ميدان مواجهة الإرهاب، وخاصة من هذا المنظور؛

على الرغم مما يكتنفه مفهوم الإرهاب من عدم التحديد للمدلول.

ونقطة أخيرة في هذه الاستراتيجية الجديدة والتي تؤكدها الإدارة الأمريكية

الحالية، وإن كانت قد بدأت أثناء الإدارة السابقة، وهي سعي الإدارات الأمريكية

المتعاقبة إلى حماية المصالح الأمريكية على المستوى العالمي بالطرق المختلفة،

ومن هذه الطرق:

- منع تطور أي أنظمة تستند إلى أسس عقائدية، وخاصة في الشرق عموماً،

والشرق الأوسط خصوصاً.

- ومن ذلك تصدي الولايات المتحدة لقيام تحالفات بين الصين وبعض الدول

الإسلامية، وغير ذلك مما لا يخفى. (وقد كتب نعمان الرياني تقريراً مفصلاً في

الأهرام الاقتصادي الأسبوع الأخير من أبريل ٢٠٠٣م، فيمكن الرجوع إليه) .

هذه مجرد لمحة عن بعض العناصر المهمة للسياسة الخارجية الأمريكية في

الوقت الحاضر؛ لا بد من استحضارها في الذهن عند الحديث عن الحرب على

العراق.

* الأسباب:

١ - مهما حاولت أن تتهرب من إدراك تأثير البعد الاستراتيجي والسعي إلى

الهيمنة في ظل أحادية القوة في الحرب؛ فلن تفلح، فالتأثير أساسي وجوهري،

ولكنه عامل مشترك في هذا الموضوع وفي موضوعات أخرى، ولعله يكفي ما

ذكرنا في المقدمة عن هذا الشأن؛ رعايةً للمساحة المخصصة للموضوع، وأستثني

من ذلك مقالة طريفة كتبها «نورمان ميللر» في جريدة الفاينانشال تايمز اللندنية

المرموقة، وترجمتها جريدة البيان الإماراتية في عددها الصادر في ٦/٥/٢٠٠٣م،

وتتلخص في أن القلاع الأمريكية الثلاث الكبيرة، وهي (قطاع الشركات، ومكتب

التحقيقات الفيدرالي، والكنيسة) ؛ قد منيت بفضائح منفصلة كبيرة شوهت سمعتها،

ولأن الإدارة الأمريكية لن تستطيع حل أي من هذه المشكلات؛ فكان لا بد من

مغامرة كبيرة تعيد شيئاً من كبرياء «الذكر الأمريكي الأبيض (ضد الأنثى) »

التي سقطت، ولذا كان المخْرَج هو الحرب، وحيث إن «الذكور البيض»

يسيطرون على القوات المسلحة؛ فانتصارهم سيعيد هذا الكبرياء إلى «الذكر

الأبيض» ويحقق هيمنة جديدة، ومن ثم فالسؤال عن «سبب الحرب» جوابه:

لأننا بحاجة إلى ذلك؛ حيث إن الأسباب المعلنة كلها تسقط عند أي محاولة جادة

لفحصها.

٢ - مع الأخذ في الحسبان السبب السابق وعدِّه سبباً عاماً؛ فالسبب الخاص

والمباشر هو (النفط) .

والحديث عن النفط ذو شجون، ولكن يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:

هناك تحليلان رئيسان للتأثير النفطي:

أ - الأول: مارست الأوبك دوراً فاعلاً في السوق النفطية في السنوات

المتأخرة، فعند انهيار أسعار النفط في آخر التسعينيات واجهت الدول المنتجة للنفط

مصاعب اقتصادية بالغة الصعوبة، وانعكس ذلك على برامجها التنموية، وما

يصاحب ذلك من تداعيات اجتماعية وأمنية وربما حتى سياسية، وواجهت الدول

المعتدلة، والتي كانت تتبع سياسة المحافظة على سعر معتدل، معضلة كبيرة؛ فإما

أن تظل تساهم في الحفاظ على السعر المنخفض، وظروفها الاقتصادية لا تسمح لها

بذلك. وإما أن تسعى إلى دعم السعر؛ مما قد يثير حفيظة الدول المستهلكة الرئيسة.

ونجحت مساعي الأوبك في وضع مجال سعري معقول للدول المنتجة والمستهلكة،

ونجحت أيضاً في دعم هذا المجال السعري والمحافظة عليه، سواء بخفض

الإنتاج إذا انخفض السعر عن الحد الأدنى، أو بزيادة المعروض النفطي إذا زاد

السعر عن الحد الأقصى. ولكن هذا النجاح لم يرق للمستهلك الرئيسي، وخاصة

الأمريكي الذي راقه أن يكون السعر عند ١٣ - ١٤ دولاراً للبرميل، وبالتالي ساءه

أن يكون السعر عند ٢٥ - ٢٦ دولاراً.

وفي ظل هذه الظروف، مروراً بالملابسات التاريخية والأحداث التي عاشها

العراق خلال العقد الماضي، كان النفط العراقي يشكل بريقاً شديداً يثير شهوة

المستهلك الأمريكي.

إن وقوع النفط العراقي تحت السيطرة الأمريكية قد يؤدي إلى خروج العراق

من الأوبك؛ مما سيشكل شرخاً كبيراً في الأوبك ويضعف فاعليتها في التأثير في

سعر النفط في السوق العالمية. وحتى لو لم تخرج العراق من الأوبك؛ فإنها

ستضغط بكل الوسائل لزيادة إنتاجها حتى لو لم يرق ذلك لأعضاء الأوبك، وستزيد

كمية النفط المعروض بشكل ملحوظ، وستنخفض الأسعار إلى مستويات تاريخية،

ويتخلص المستهلكون الرئيسيون من إزعاج الأوبك السعري أو من جزء كبير منه.

ب - التحليل الثاني: أنه في فترة الحصار الطويل على العراق وعدم إقدام

كثير من الدول الغربية على الاستثمار في مشاريع أساسية في العراق؛ فقد قام

النظام العراقي بتقديم امتيازات وإغراءات نفطية كبيرة للشركات الفرنسية والصينية

والروسية التي كانت تعمل في الاقتصاد العراقي، وقد كانت هذه الامتيازات جذابة،

ولم تنل منها الشركات الأمريكية أو البريطانية شيئاً بحكم الحصار المفروض على

العراق، وفي ظل جاذبية النفط العراقي كما سيرد لاحقاً وظل الشهوة المتفاقمة

للسيطرة على مصادر الطاقة، وظل الملابسات التاريخية والاستراتيجية المذكورة

أعلاه؛ تتضح أهمية موقع النفط في دائرة الحرب.

فالنفط العراقي جذاب لأن:

١ - المخزون الثابت للنفط العراقي يزيد عن ١١٢ مليار برميل، وغير

الثابت أكثر من ذلك بكثير، وقد ساهم الحصار في عدم زيادته، وعندما ينتهي

الحصار وتستأنف أعمال البحث والتنقيب بجدية؛ فقد تزيد كمية الثابت بنسبة كبيرة.

٢ - أن نفط العراق من أرخص نفط العالم؛ إذ تبلغ تكلفته بين (١ إلى ١)

دولار للبرميل الواحد، وتبرز أهمية هذا العامل إذا عُلم أن انخفاض سعر البترول

إلى قريب من عشرة دولارات؛ يُخرج كثيراً من المنتجين الأمريكيين وبعض

الأوروبيين من السوق؛ لأن إنتاجهم حينئذ يكون غير مُجْد.

٣ - أن كل دولار يتغير به سعر النفط ينعكس بما يعادل ٤ مليارات دولار

على الاقتصاد الأمريكي.

٤ - أن أمريكا لم تعد في مقدمة الدول ذات المخزون النفطي المرتفع، وإنما

أصبحت في ذيل القائمة.

٥ - أن عدداً من الدول المصدرة والمؤثرة حالياً في سوق النفط ستتحول

قريباً إلى دول مستهلكة للنفظ، ومنها بريطانيا، والنرويج، وفنزويلا، وليبيا.

٦ - تشير دراسات دقيقة إلى أنه بالإمكان أن يبلغ إنتاج العراق قرابة ثلاثة

ملايين برميل يومياً بنهاية العام الحالي، كما تشير إلى أن الإمكانات الطبيعية

للإنتاج تتراوح بين ١٠ - ١٥ مليون برميل يومياً، ولكن ذلك يحتاج إلى

استثمارات ضخمة، وإلى عدة سنوات من العمل الدؤوب في التجهيز الميداني لذلك.

وأخيراً؛ فإذا تصورنا الموقع الجغرافي للنفط العراقي الذي يقع شمال بترول

الخليج الذي تحتفظ أمريكا بعلاقات مميزة مع دوله، ويقع جنوب نفط بحر قزوين

الذي ما زالت أمريكا تسعى لتحصل منه على حصة الأسد، وقد تحقق لها ذلك..

وما زال الجهد مستمراً، إذا تصورنا هذا الموقع الجغرافي؛ تبين لنا ازدياد أهمية

النفط العراقي الذي يقع في قلب مركز الاحتياط النفطي الرئيس في العالم.

وإذا وضعنا في تقديرنا حجم الاستهلاك المتزايد للطاقة، وأهمية ذلك للاقتصاد

العالمي والأمريكي بوجه خاص نظراً لضخامة الكميات المستهلكة، وما يستتبع ذلك

من النمو والاستقرار في العالم، وإذا وضعنا في تقديرنا أن البدائل الأخرى للطاقة

عوضاً عن النفط ما زالت تتدهور يوماً بعد يوم، فالطاقة النووية باهظة التكاليف،

معقدة التقنية، وبالغة الخطورة، ويتضح ذلك جلياً في تراجع هذا الخيار بعد

حادثتي «تشيرنوبل» و «ثري مايل أيلاند» ، والطاقة المستخرجة من الفحم

على الرغم من توفرها في أماكن من العالم لكن آثارها البيئية أفقدتها كثيراً من

أهميتها؛ مما أدى إلى تراجع التقدم التقني في هذا الميدان، أما الطاقة الشمسية فما

زالت في البدايات.

من كل هذه المتغيرات مجتمعة؛ تظهر أهمية النفط بصورة جلية، وأهمية

النفط العراقي في دائرة الحرب.

* الآثار:

أي حرب لا بد أن تترك آثاراً في الأطراف المباشرة لها، وقد تترك آثاراً في

الأطراف غير المباشرة، وفي إطار حديثنا السابق؛ فسوف نتطرق للآثار

الاقتصادية فقط، والآثار الواقعة على الدول المجاورة من الناحية الجغرافية لمسرح

الحرب؛ إذ إن الآثار الاقتصادية تنصب في مجملها على تلك البقعة الجغرافية التي

تشمل العراق بطبيعة الحال باعتبارها مسرح الحرب، ودول الخليج باعتبارها

ملاصقة لمسرح الحدث ولا بد أن تطولها الآثار، وكذلك كل من سوريا ولبنان

والأردن وكذلك مصر، أما الدول العربية الأبعد عن مسرح الحرب؛ فآثار الحرب

المباشرة عليها قد لا تكون جوهرية.

وأما إيران فعلى الرغم من مجاورتها ولكن علاقاتها الاقتصادية مع العراق قبل

الحرب كانت محدودة، ولذلك آثرنا عدم الخوض في الحديث عنها، ولشح

المعلومات المتوفرة في هذا الشأن من جهة أخرى.

١ - العراق:

آثار الحرب الاقتصادية على العراق لا يكاد يخلو منها ميدان من ميادين

الاقتصاد، فقد طالت مجال الصناعة والزراعة والتجارة والاستثمار والبطالة

واستقرار العملة وغير ذلك، ولكن في إطار حديثنا المقتضب هنا بما يتناسب مع

المطبوعة، فسنقصر الحديث على الجوانب العريضة جداً ذات العلاقة.

أ - مع الأسف فالعراق من الدول المرهقة جداً بالديون:

إذ يتجاوز حجم الدين العراقي مائتي مليار دولار، وهذه المبالغ ليست نتيجة

الحرب، بل للوضع الاقتصادي الذي كانت تعيشه العراق قبل الحرب؛ مما سيفاقم

الآثار المترتبة على الحرب كما سيظهر لاحقاً.

ب - الخسائر المباشرة:

وهي المترتبة على التجهيزات العسكرية، والبنى التحتية الاقتصادية من

كهرباء واتصالات ومرافق وغيرها، ومئات الألوف الذين فقدوا عملهم الذي قد لا

يعود إليهم. والخسائر في هذه المجالات لا يوجد لها أي إحصاءات، ولكنها

بالتأكيد قد تتجاوز عشرات المليارات إلى مئاتها، وهنا يضيف عبئاً آخر ثقيلاً على

عبء الدين الوارد في الفقرة السابقة.

ج - تكاليف الإعمار سوف تكون باهظة جداً لأنها:

١ - تغطي تكاليف إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وهذا بمفرده يحتاج إلى

ميزانيات ضخمة.

٢ - تغطي تكاليف إعادة إعمار البنى التحتية المهترئة التي أفنتها سنوات

الحصار الطويلة.

٣ - تغطي تكاليف البرامج التنموية الضرورية لانطلاق مستوى معقول من

الحياة الإنسانية.

٤ - تغطي تكاليف أو على الأقل بعض تكاليف الإدارة الأمريكية أو الدولية

التي تدير شؤون العراق إلى أن تنتهي مهمة هذه الإدارة، وهذا البند بمفرده يحتاج

إلى عشرات المليارات من الدولارات.

د - تجدر الإشارة هنا إلى أن الإدارة الأمريكية كانت واضحة وصريحة في

حصرها حق العمل في إعادة الإعمار على الشركات الأمريكية فقط، وعلى

الشركات البريطانية على استحياء:

وقد حاولت فرنسا وألمانيا وروسيا الضغط على أن تكون مهمة الإعمار من

شأن الأمم المتحدة، وباءت كل تلك المحاولات بالإخفاق؛ إذ ما زالت الإدارة

الأمريكية في العراق تصر بشدة على أن دور الأمم المتحدة سوف يقتصر على

الجانب الإنساني فقط، ولن تسمح لأولئك الذين عارضوها في مجلس الأمن

بالمشاركة الاقتصادية، بل لقد سدت الباب عليهم وعلى غيرهم، وقد بدأت الإدارة

الأمريكية في العراق في تنفيذ ذلك الموقف فقامت بترسية أول عقودها على شركة

«بكتل» الأمريكية بمبلغ ستمائة وخمسين مليون دولار لأول أعمال إعادة الإعمار،

وتدور أحاديث كثيرة عن حصول شركة «هالبيرتون» التي رأسها ديك تشيني

خلال المدة ١٩٩٥ - ٢٠٠٠م على عقد ضخم لإنتاج وتوزيع النفط العراقي محلياً،

وكذلك إطفاء حرائق النفط وإعادة إعمار منشآته.

وتشير التكهنات إلى أن قيمة هذا العقد قد تصل إلى سبعة مليارات دولار

(انظر التفاصيل في جريدة الوطن السعودية عدد ٩٥١) ، أما عقود الكهرباء

والاتصالات وإعادة بناء المطارات وغيرها فما زالت في الطريق، والحريص

على معرفة مصير هذه العقود فعليه متابعة الصحافة العالمية التي تتابع أخبارها أولاً

بأول، والتي لا يتوقع أن تتاح لغير الشركات الأمريكية حسب التوجه الصريح المعلن

بهذا الخصوص.

أما نفقات الحرب التي تكبدتها الخزانتان الأمريكية والبريطانية وهي ليست

بيسيرة، فحتى إن تحملتها الدولتان فلا يعتقد أنها سوف تتحمل نفقات بقاء هذه

القوات إلى أن تنتهي المهمة التي رسمتها لها حكومتها. وهذه النفقات يقدرها المعهد

الدولي للدراسات الاستراتيجية بمبلغ يتراوح بين ٢٠ - ٥٠ مليار دولار في السنة،

وهذه التقديرات مبنية على تجارب سابقة للقوات الأمريكية في البوسنة والهرسك

واليابان وكوريا، وعليه فيتوقع أن تكون تكاليف الإدارة الأمريكية للشأن العراقي في

المدى القصير بين ١٠٠ - ١٥٠ مليار دولار، ترى هل يعقل أن يتم تحميل دافع

الضرائب الأمريكي هذا المبلغ؟!

هـ - في ضوء هذه التكاليف المتنوعة لتغطية آثار الحرب؛ فمهما بلغ إنتاج

النفط العراقي، ومهما بلغت عائداته وتم إنفاقها بأسلوب أمثل؛ فإن هذه التكاليف

ستستهلك مدة تتراوح بين ١٠ - ١٥ سنة قادمة:

لذلك فإن الرخاء الاقتصادي حتى الجزئي ما زال بعيد المنال، ولكن مع ذلك

يجب أن نشير إلى جزئية أخرى هنا، وهي أن أعمال إعادة الإعمار ورفع الحصار،

وبالتالي فتح باب التبادل التجاري مع الخارج ستوجد ورشة عمل ضخمة في

السوق العراقي، يتوقع أن ينعكس أثرها إيجاباً على فرص العمل للأفراد

والمؤسسات في الاقتصاد العراقي، وكذلك الآثار المتوالية لذلك لزيادة الدخل

وانعكاسها على الطلب المحلي والعالمي، وعليه فيتوقع أن يخرج وجه إيجابي جديد

للاقتصاد العراقي، ولكن هذا الوجه لن يكون فاتناً كثيراً لشدة الإجهاد الذي يجب

علاجه قبل أن تظهر تلك الفتنة، والتي لا يتوقع أن تظهر قبل مدة تقل عن عشر

سنوات، هذا إن سارت الأمور على ما يرام.

ونقطة أخيرة في هذا الباب، وهي أن العراق باعتباره دولة نفطية فلا يتوقع

أن هناك مساعدات دولية لإعادة إعماره لا من الدول الغربية ولا من غيرها: وإن

وجدت تلك المساعدات فستكون محدودة، ولكن الإدارة الأمريكية دعت الدول الدائنة

لإسقاط ديونها عن العراق، ودعت حلفاءها إلى الاستثمار في العراق، وقد

عرضت اليابان المتخمة بالثروة المالية والتي تبحث عن قنوات استثمار؛ بعد أن

سجلت أسعار الفائدة أرقاماً تاريخية في الانخفاض تقديم استثمارات أو قروض في

بعض مجالات الاقتصاد العراقي.

٢ - دول الخليج:

إذا استثنينا الكويت فدول الخليج لم تشارك في هذه الحرب، ومن ثم فلم

يترتب عليها تكاليف مباشرة للحرب باستثناء التكاليف الروتينية لجعل قواتها في

حالة تأهب، أو لتغطية تكاليف قوات درع الجزيرة التي رابطت في الكويت، ولم

تورد وسائل الإعلام أنها شاركت في الحرب مباشرة.

لكن اقتصاديات دول الخليج تأثرت تأثيراً كبيراً بسبب قربها من الناحية

الجغرافية من مسرح الأحداث، وهذا التأثر طال مجالات كثيرة منها مجال النقل

الجوي الذي تأثر بشكل واضح، وكذلك النقل البحري، والتأمين، والسياحة،

وكذلك القطاع المصرفي، وجاذبية الاستثمار في وجه خاص، وقد تأثر أيضاً أداء

القطاع التجاري بشكل خاص، وكان هناك هبوط حاد في المبيعات في قطاعات

تجارة الجملة والتجزئة، ولا يكاد يستثنى من ذلك سوق قطاع المواد الغذائية الذي

نشط نسبياً تخوفاً من المستهلكين من طول زمن الحرب وتأثر الأسعار بذلك، وهذا

القطاع قد يتأثر سلباً بعد أن انتهت الحرب؛ لأن كثيراً من المستهلكين قد قاموا

بتخزين كميات من المواد الاستهلاكية.

وقد أوردت جريدة الجزيرة السعودية في عددها الصادر في ٤/٤/٢٠٠٣م

مقابلة مع الأمين العام لاتحاد المستثمرين العرب، ناقش فيها هذا الموضوع، وذكر

أن خسائر دول الخليج حتى ذلك التاريخ تُقدر بنحو ستين مليار دولار، والمؤسف

أن الخسائر المتعلقة بالسياحة والاستثمار الأجنبي والقطاع المصرفي غالباً ما تستمر

فترة أطول، وذلك فالخسائر بعد ذلك لا بد أن تكون قد زادت.

ولكون دول الخليج في الجملة ذات مداخيل مرتفعة، لذلك فيتوقع أن تتجاوز

هذه الخسائر في وقت غير طويل، وهذا كله إذا لم تساهم دول الخليج في فاتورة

الحرب، أما إذا حدث ذلك فالصورة قد تختلف جذرياً.

٣ - مصر:

قامت الحرب والاقتصاد المصري في وضع لا يُحسد عليه، فسعر الصرف

الأجنبي وصل إلى درجة لم يشهدها السوق المصري منذ زمن، وفقد الجنيه

المصري جزءاً كبيراً من قيمته مقابل الدولار، ومعلوم انعكاس ذلك على مستوى

الأسعار بصورة عامة وما يترتب على ذلك من آثار اجتماعية، وأيضاً سوق المال

بصورة عامة وجاذبية الاستثمار الأجنبي بصورة خاصة؛ لم تكن في أحسن أحوالها،

بل شهد هذان القطاعان حالات نزول حاد، وفي خضم الجهود التي كانت تبذلها

السلطات المصرية لمواجهة هذه المعضلات في ظل دين عام يتجاوز ما يعادل

٩٠% من الناتج المحلي، في ظل كل ذلك قامت الحرب فزادت الطين بلة بل

غمرته بالماء، فإيرادات قناة السويس التي تعدُّ مورداً رئيساً للاقتصاد المصري

تراجعت بشكل ملحوظ نتيجة تراجع الملاحة لظروف الحرب، أما السياحة التي

تكاد تكون المصدر الأهم للدخل من النقد الأجنبي؛ فلم تكن أحسن حالاً بل

شهدت تراجعاً كبيراً، وترافق مع ذلك تراجع حركة النقل الجوي وما يتبعها.

الاستثمار الأجنبي الذي شهد تطوراً ملحوظاً في العقدين الماضيين؛ مر

بظروف صعبة حتى قبل أن تبدأ الحرب، وجاءت الحرب لتمحق ما تبقى من

شجاعة لدى المستثمرين الأجانب الراغبين في دخول السوق المصرية، ولم تكتف

الحرب بذلك في إنهاكها للاقتصاد المصري؛ بل أضافت على ذلك عودة عشرات

الألوف من العمالة المصرية التي كانت تعمل في العراق أو في المواقع القريبة من

العراق حيث دول الخليج المجاورة، ويتوقع أن يحتاج الاقتصاد المصري إلى وقت

غير يسير ليتعافى إلا إذا كان محظوظاً بتدفقات مالية استثنائية من مصادر خارجية.

٤ - الأردن:

الاقتصاد الأردني قد يكون الأكثر تضرراً من قيام الحرب، فاحتياجات الأردن

البترولية كانت تأتي من العراق، بعضها على شكل منحة من الحكومة العراقية،

وبعضها الآخر بسعر تفضيلي واضح وبطريقة رسمية أو غير رسمية، وحتى عبر

طرق النقل التقليدية جداً (الصهاريج) ، وما أن بدأت الحرب حتى ضاع هذا

الأسلوب لسد حاجة الاقتصاد الأردني من المواد البترولية، وإن كانت الحكومة

الأردنية قد بذلت جهوداً كبيرة لتعويض ذلك النقص، وقد نجحت في توفير الكميات

المطلوبة باتفاق مع الحكومة السعودية والحكومة الكويتية، ولكن قد يكون ذلك

بتكلفة مختلفة، فما كانت تحصل عليه من العراق قد يصعب مجاراته من أي أحد،

وأيضاً فإن مشتريات برنامج النفط مقابل الغذاء للعراق كانت في غالبها أو حتى

كاملها تأتي عبر السوق الأردنية وبعضها منه، وهذا قد حقق تشغيلاً لقطاعات

اقتصادية كثيرة، سواء منها القطاع الزراعي، أو تجارة الجملة والتجزئة، أو النقل،

أو التأمين، أو قطاع الرسوم (رسوم العبور والجمارك والضرائب والصرف

الأجنبي وغيرها) ، وما أن قامت الحرب حتى توقف كل ذلك، ومعلوم انعكاس

ذلك على الاقتصاد بجميع قطاعاته، وعلى البطالة بشكل خاص، ولا يتوقع مع

الأسف وجود حلول بديلة لهذا الحال، وحتى بعد انتهاء الحرب فلا يتوقع أن يعود

الحال إلى ما كان عليه، ولا حتى إلى بعض ما كان عليه، فلم يعد الأردن هو

المعبر الرئيس إلى العراق، بل قد يصبح آخر المعابر، فالنقل الجوي والبحري

عن طريق الخليج، وعن طريق دول الخليج والمعابر التركية؛ كلها قد تكون أيسر

وأكثر جدوى من المعبر الأردني، وعليه فخسارة الأردن قد تكون صعبة التعويض،

وعلى الرغم من تلقي الأردن مساعدة أمريكية معلنة في بداية الحرب بنحو

سبعمائة مليون دولار، لكنها ضيئلة إلى درجة أن فاتورة النفط الأردنية فقط لسنة

واحدة قد تزيد على ذلك المبلغ.

٥ - لبنان:

على الرغم من صغر الاقتصاد اللبناني وبُعده النسبي عن العراق، ولكنه لم

يسلم من التأثر الواضح، فقد كان جزء كبير من الصادرات اللبنانية يتجه إلى

السوق العراقي من خلال المعابر السورية والأردنية، ومن ثم فإن هذه القنوات

التصديرية قد تختفي إلى الأبد، وإذا بقي بعضها فسيكون في تنافس كبير مع

صادرات دول أخرى قوية لم تكن منافسة في المرحلة الماضية.

وهناك نقطة أخرى؛ وهي ارتباك المستثمرين خلال فترة الحرب، وتوقف

كثير من الأمور لترقب انتهاء الأزمة، وإن كانت هذه النقطة ليست خاصة

بالاقتصاد اللبناني بل تصدق على الدول الأخرى المذكورة آنفاً.

وقد يختلف الاقتصاد اللبناني عن كل الدول المجاورة في أنه قد يستفيد من هذه

الأوضاع، فقد احتمال فقط تُغَيِّر بعض الاستثمارات المالية وجهتها من بعض دول

الخليج إلى لبنان؛ مما قد ينعكس إيجاباً على الاقتصاد اللبناني، ولكن هذا قد لا

يكون جوهرياً ولا لمدة طويلة.

٦ - سوريا:

الاقتصاد السوري تأثر مرتين:

المرة الأولى: نتيجة الضغوط السياسية العنيفة التي مورست على السلطات

السورية خلال الحرب؛ مما انعكس على توتر مناخ الاستثمار، سواء من

المستثمرين المحليين أو الخارجيين، وكذلك على أداء الاقتصاد بصورة عامة نتيجة

الترقب والحذر لأي تغيرات متوقعة؛ مما أربك الأداء الاقتصادي بشكل واضح.

والمرة الثانية: بالأسلوب نفسه الذي تأثرت به الدول المجاورة، وعلى الرغم

من أن علاقات النشاط التجاري مع العراق لم تزدهر إلا في الفترة الأخيرة التي

سبقت الحرب ولكنها بلغت مرحلة جيدة.

وقيام الحرب ترك آثاراً بليغة في هذا الأمر، بل قد تكون الحدود السورية

أُغلقت تماماً؛ مما أدى إلى توقف تدفق الصادرات السورية أو العابرة كلياً، وأثر

ذلك واضح في نشاطات النقل، والتأمين، وتجارة التجزئة، والجملة، وإيرادات

الرسوم، والصرف الأجنبي.. وغير ذلك.

كان هناك خط نقل البترول العراقي إلى بانياس، وهذا قد يتوقف ولا يُعلم

شيء عن مصيره المستقبلي، فقد يتوقف مؤقتاً ويعود في وقت لاحق، وقد يتوقف

كلياً وهذا هو الأقرب؛ لوجود حلول بديلة قد تفضلها الإدارة العراقية الجديدة،

ومعلوم تأثير ذلك في الرسوم المحصلة من هذه العملية والأعمال المرافقة لتشغيل

هذا الخط، بالإضافة إلى بعض كميات النفط التي كان يمكن توفيرها من خلاله.

كذلك؛ فإن الأوضاع التي عاشتها دول الخليج في فترة الحرب، وستعيشها

بعدها سيكون لها تأثير في الدعم الخليجي المقدم لسوريا، وقد يكون له أثر واضح

في السياحة الخليجية في سوريا التي كانت مورداً مهماً للاقتصاد السوري في

السنوات الأخيرة.

أما جاذبية الاستثمار الأجنبي إلى السوق السورية؛ فقد تكون هي الأسوأ في

دول المنطقة، وقد تستمر معاناتها في هذا الجانب إلى فترة غير محدودة، وكذلك

الأمر بالنسبة للسياحة، ولكن بصورة أقل حدة، (وقد نشرت جريدة الحياة في

عددها (١٤٦٢٦) الصادر في ١٠/٤/٢٠٠٣م مقالاً مفصلاً في هذا الشأن لسمير

صبح، يمكن الرجوع إليه لمن يرغب في الاستزادة) .