المسلمون والعالم
جهودهم.. وجهودنا
في عصر السلام..!
عبد العزيز بن محمد الخضر
إن جميع أخطاء الماضي التي لها أكثر من قرن، لم تكن إلا تراكمات مع
الزمن لإنشاء جيل أو أكثر تشرّب الهزيمة واعتاد الذل بعد أن تحولت قابلية
الاستعمار لديه إلى مرض مزمن لم تتخلص منه إلا نوعية محدودة مع أنها لا تخلو
من بعض الآثار هنا أو هناك.
أخطاء الماضي.. ومحررو السياسة العربية:
إذا كان لديك ذاكرة وكنت ممن يتابع تنظيرات الإعلام العربي السياسية عن
طريق كتابات بعض الكتاب إياهم، فإنك ستلاحظ مدى تحولات الأفكار لديهم،
وهذه التحولات تتأثر باتجاه الريح السياسية، إذ لديها حساسية الاستشعار عن بعد
وعن قرب، إذ فن التبرير والإقناع وادعاء الواقعية وغيرها أساليب سهلة لمن
يمارسها على مدى أكثر من عشرين عاماً.
إنك لا شك ستلاحظ على كتاباتهم ادعاء الموضوعية والواقعية، وأنهم هم
النخبة المثقفة في المجتمعات العربية، وأما نقد العقلية العربية، والمجتمعات
العربية، والسياسات العربية، وأخطاء الماضي.. فهم يخرجون أنفسهم منها مع
أنهم هم الذين ساعدوا في تشكيل العقلية العربية، والسياسات العنترية.
فهم من أكبر أسباب النكسات العربية، ومع هذا فإنك لا تكاد تجد أحدهم يقول
أو يحاول أن يعترف بأخطاء الماضي ولو بالتلميح، إذ ليس المهم لديهم أن تحل
هذه القضية أو تلك! إنما المهم هو أن يكتب في زاويته كل صباح أو كل أسبوع ما
يسود ذلك الحيز، وبعضهم يجعلك تفهم أنه سبق له نقد ماضي السياسة والعقلية
العربية لكن أحداً لم يسمعه.
ما أسهل أن يسحبوا آراءهم السابقة ثم يتهموا بها الآخرين، فعندما سقطت
الشيوعية غير مأسوف عليها، بدأت التنظيرات والتحليلات لأسباب السقوط
وخلفياته، ونقد الأيديولوجية التي قامت عليها، هذا رأيهم الآن وهم يعتبرون
أنفسهم النخبة المثقفة ذات النظرة البعيدة.. فأين هذه الآراء قبل أكثر من عشر
سنوات؟!
أليس من السهل أن تنقد مخلفات الفكر بعد وضعها في زبالة التاريخ؟ ! أين
الثبات على المبدأ؟ أين الأسس العلمية والموضوعية؟ أين الصدق؟ أين الشجاعة
في الرجوع عن الخطأ أمام الملأ؟ أين الإخلاص في حل المشكلات؟
هذا الكلام مقدمة للحديث عن أهم قضايا أمتنا الإسلامية التي يحاول الإعلام
ومحررو السياسة العربية أزاحة أخطاء الماضي حيالها على الآخرين واتهامهم بها،
ليدفع الجميع في مجتمعاتنا الإسلامية ثمن السلام، كما دفعوا ثمن الحرب.
قضية فلسطين.. القدس.. أولاً:
إن المتأمل لواقع العالم الإسلامي ومشكلاته سيلاحظ أن القضية الفلسطينية هي
محور نكسات هذا القرن، وقُبيل الحديث عن هذه القضية أشير إلى ملحوظة سلبية
يجب أن يُتنبه لها وهي مسألة الحماس الوقتي المحدود الذي يبدأ بالانطفاء تدريجياً
بعد الحدث إلى أن يتلاشى، فتصبح اهتماماتنا بقضايا الأمة على شكل موجات ذات
قمة وقاع، فما أن يبدأ الخط البياني بالارتفاع إلا ويسقط بنفس السرعة.. ولو أن
كل قضية نتعامل ونتفاعل معها نسبياً تبعاً لأهميتها في حياة الأمة ومصيرها، مع
السماح للتغيرات الطفيفة في التعامل والحماس للطبيعة البشرية.
لقد كان أمراً مؤسفاً أن يسألني أحدهم عن كتاب متكامل يعطيه التصور
الشرعي والواقعي للقضية الفلسطينية والأحداث التي مرت بها، يعطيه النظرة
المستقبلية لأهم قضايا الأمة ثم لا أستطيع الإجابة..!
لا أنكر أن هناك كثير من الكتب التي اهتمت بهذه القضية من منظور إسلامي، ولكن غالباً يلاحظ عليها الاهتمام بجانب دون آخر، ومع هذا فهي محدودة
الانتشار والشيء الذي لا نستطيع نفيه أنه لوحظ إهمال كبيرمن الدعاة والمثقفين
الإسلاميين بهذه القضية في السنوات الماضية، حتى أفقنا على مثل هذه المؤامرات
والمواقف، وكثير من فئات المجتمع الإسلامي ليس لديها الوعي الكافي بمثل هذه
القضية، سوى بعض المشاعر والعواطف القابلة للهدم بتأثير إعلامي منظم، عندها
نحتاج إلى سنوات عديدة لإعادة بناء الوعي والمشاعر إذ الهدم أسهل من البناء،
ولو كان هناك اهتمام منظم من المثقفين والدعاة في أنحاء العالم الإسلامي، وتعاون
مع دور النشر للوصول إلى جميع شرائح المجتمع، لأصبحت مضادات حيوية لهذه
المؤثرات الإعلامية، ويكفي لرؤية هذا الخلل أننا وجدنا كثيراً من الفئات في
المجتمع الإسلامي اقتنعت بأفكار السلام بعد أن كنا نراه مستحيلاً قبل سنوات!
نعم لقد خسرنا الشيء الكثير حتى حماس الجماهير وعواطفها، بمجرد
التخدير الإعلامي لعدة شهور!
لذا يجب أن يكون لدينا الاهتمام المتوازن في كل قضية إسلامية، ولا
يتعارض هذا مع الاهتمامات التأصيلية للعلم الشرعي للخاصة والعامة، وتوعية
الجماهير، ولا يليق أن تضيع الأمة بجمود بحجة العلم الشرعي، أو هامشية بحجة
الاهتمام بالواقع.
جهود وتبريرات:
لقد تركزت الجهود الإعلامية المختلفة في الفترة الماضية منذ مؤتمر مدريد
على محاولة إقناع جميع الشرائح في المجتمع العربي والإسلامي بحتمية هذا الحل،
وأنه لا يمكن أن يوجد هناك حل آخر، وللوصول إلى هذا الهدف اتبعت أساليب
عدة كتغيير الصيغة الإخبارية وتحليلاتها تدريجياً فيما يتعلق بهذه القضية وتركيز
الاهتمام بالأخبار التي تشجع تقدم خطوات السلام، ومحاولة تهميش الأخبار المؤثرة
على عملية السلام، إضافة إلى كم هائل من المقالات والأعمدة الصحفية المختلفة
للكتاب الذين ينظرون لهذه الخطوات بطرق مختلفة.
ويلاحظ المتتبع في الفترة الماضية لأكثر الآراء المختلفة المؤيدة والمعارضة
بمختلف توجهاتها التي طرحت عبر منابر إعلامية متعددة وفقاً لتوجهها العام، أن
هناك محاور عدة يحاوَل من خلالها اقناع الطرف الآخر.
وقبل أن أستعرض تلك الآراء التي طرحت، أو أن أشير بكل أسف إلى تفوق
الطرح العلماني، وجهود محرري السياسة العربية في التنظير لهذه القضية لإقناع
المتابع العربي، أو محاولة تخديره، وإن كان هذا التفوق ناتج عن التفوق الإعلامي
في الوسائل، إلا أن هناك بعض النقاط والتساؤلات التي طرحها هذا التوجه بعمق
وموضوعية
-مدعين- يوهمان المتابع البسيط الاقتناع بهذه الآراء حيث يلاحظ ابتعادهم
عن الطرح العاطفي، مع محاولتهم إشعار الآخرين بالموضوعية والواقعية، مع
رمي المعارضين من كل التوجهات ببعض الكلمات والتعبيرات، وجعلهم جبهة
واحدة، مع اتهامهم بعدم الواقعية وأنهم مازالوا يعيشون مرحلة الشعارات.
أما الطرح الإسلامي لقضية السلام، فإنه وللأسف لايزال دون مستوى
الأحداث، إذ كل الطرح الذي تم في الفترة الماضية من قبل الإسلاميين لايزال
طغيان العاطفة مؤثراً فيه تأثيراً كبيراً، وكثيراً ما تركز الهجوم فيه على قادة عملية
السلام، مع بكاء ورثاء الواقع، وتذكر التاريخ واستعمال العموميات بعيداً عن
مناقشة تعقيدات الأحداث، وفضح المبررات التي يطرحها المؤيدون.
حيل لإقناع الآخرين:
لقد كانت الآراء التي تؤيد عملية السلام تدور محاورها حول نقاط محددة ومن
خلالها استطاعت اختراق العقلية العربية وإقناعها بحتمية هذا الحل، ويمكن
بالاستقراء تحديد تلك النقاط باختصار كالتالي:
١- أن الأوضاع العربية لا يمكنها في الوقت الحالي مواجهة إسرائيل
ومعارضتها، فهي في ضعف اقتصادي كبير، ومشاكل داخلية متعددة إضافة إلى
الضعف العسكري والعداوات فيما بين الدول العربية نفسها.
٢- يجب استغلال هذه الفرصة لتفريغ مجتمعاتنا للتطوير والتنمية التي
تحتاجها بدلاً من الدخول في حروب استنزاف تئد برامج التنمية المختلفة.
٣- إنتهاج مبدأ «خذ وطالب..» ومن خلاله نتدرج في استرداد الحقوق
خطوة خطوة، بدلاً من أن نخسر كل شيء، ولو أننا قبلنا بالتقسيمات السابقة باتباع
هذا الأسلوب لكنا حافظنا على مكتسبات كبيرة.
٤- أنه تم تجريب الحلول التي يريدها المعارضون عن طريق استرجاع
الحقوق بالقوة وعدم التنازل عن أي شيء، فكانت النتيجة أن وصلنا إلى هذه الحالة.
٥- التحول الجيد في العقلية العربية في التفاوض والمحاورة الواقعية بعيداً
عن الأحلام، والتخلص من قضية رفع الشعارات والسياسات العنترية باسم تحرير
المقدسات التي استغلتها قيادات عربية لتبرير أخطائها المتعددة.
٦- كسب بعض الشيء أحسن من أن نخسر كل شيء نتيجة لأوضاعنا
الحالية.
٧- وضع هوية ودولة للفلسطينيين يكون من خلالها تكوين الذات لاسترداد
الحقوق مستقبلاً، وجعلهم يواجهون تحديات المستقبل بأنفسهم.
٨- تكرار إلقاء سؤال: ما هو الحل البديل؟ وكيف أيها المعارضون؟ ومن
خلاله يتم اتهام المعارضين بعدم وجود حل لديهم، وأنهم مازالوا يعيشون الأوهام
السابقة، وبعدهم عن النظرة الواقعية والموضوعية.
تلك بعض المبررات أو الحيل التي استعملت لإقناع الآخرين، والتي أثمرت
عن اقتناع قطاع عريض في المجتمع الإسلامي، بل حتى المعارضون ممن لهم
النظرة الإسلامية وبخاصة من ذوي الثقافة السطحية أصبح ليس لديهم إلا العاطفة
الحارة لمواجهة مثل هذه المبررات، حيث يلاحظ عدم قدرتهم على مواجهة
المبررات بذاتها والمحاورة حولها، وهذا الأمر له خطورته، إذ كيف تتم المحافظة
على هذه الفئة التي لم تتلوث بأفكار السلام؟ ثم كيف نحاول إقناع الذين آمنوا
بحتمية هذا الحل إذا كنا لا نحاول الرد عليها وفضح هذا التوجه؟ !
تهافت التبريرات:
من السهل جداً أن ترد على هذه المبررات إذا كان لديك علم شرعي وثقافة
واسعة وفهم عميق للواقع، ولكن من الخطأ أن نظن أن قطاعاً عريضاً يمكن أن
يكون لديهم هذه المقدرة، ويمكننا هنا أن نستعرض بعض المبررات التي يتمسك بها
من يعارض عملية السلام من أصحاب النظرة الإسلامية والمتمثلة فيما يلي:
١- خيانة القضية باعتبارها قضية دين أو عقيدة، لأن الاعتراف للعدو بحق
الوجود على أرض فلسطين لا يمكن أن يقابله أي شئ، فكيف إذا كانت بنود السلام
مجحفة وفيها ظلم واضح؟!
٢- أن الطبيعة اليهودية من الوحي ومن التاريخ ومن الواقع تثبت أنها لا
يمكن أن تلتزم بالمواثيق والعهود.
٣- من أهم الأفكار التي تقوم عليها عمليات السلام، الوقوف في وجه
الأصولية الإسلامية ومحاربتها والتضييق عليها، باسم معارضتهم لأفكار السلام!
٤- خطورة الأمور التي ستحدث مستقبلاً، كعمليات التطبيع التي سينتج عنها
اختراق كبير لمجتمعاتنا العربية والإسلامية في النواحي الثقافية والسياسية
والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
٥- أن تجارب الحروب والمواجهات السابقة لم تكن إلا من قيادات القومية
العربية، وكان طبيعياً أن تفشل، أما حركات الجهاد الفعلي فإنها قادرة على تحقيق
نتائج لولا إعاقات وخيانات بعض النظم العربية.
٦- بقاء القضية معلقة الآن، أفضل من أن تحل بمثل هذه الحلول التي ستدفع
ثمنها الأجيال القادمة.
تلك بعض المبررات وليس كلها التي يطرحها المعارضون لفكرة السلام مع
اليهود، وأعرف أن هناك أسباباً كثيرة غيرها تجعل من السلام الذي وصلنا إليه
واقعة حرجة للأمة تجمعت فيها أخطاء وخيانات الماضي والحاضر.
ما دورنا..؟ !
تُرى هل تكفي عبارات الشتم والتنديد، وتأجيج العواطف، وبكاء ورثاء
الواقع للتخفيف من آثار المصيبة؟ !
بنظرة موضوعية ونقدية لذواتنا نجد أننا لا نزال بعيدين عن مستوى الحدث
إذ لاتزال عشوائية الطرح البعيدة عن التنظيم فيما يخص هذه القضية، فكل ما تم
في الفترة الماضية فقط جهود فردية هنا وهناك، من بعض الكتاب والخطباء
والمحاضرين، التي ينقصها أيضاً الشمولية في الطرح، فكل جهد منها أجاد في
معالجة زاوية من زوايا المشكلة.
إن استمرارنا في معالجة هذه القضية بهذه الطريقة، دون تخطيط وتأمل
ودراسة مستقبلية للوضع، قد يجعلنا أمام مستقبل مظلم في ظل هذه الأوضاع حتى
أصبحت تلك القضية التي نتمسك بها في معارضة السلام تحشرنا في التصنيف مع
آخرين من معارضي السلام من متطرفي اليهود والإسلام الإيراني وحثالة المتاجرين
بالقضية..!
وحتى الآن ليس لدينا فكرة متكاملة لمواجهة الوضع الذي لم نُستشر فيه وما
هي البرامج التي يمكن أن نسير عليها للتخفيف من آثار تلك المصيبة.
وهنا اقتراحان يمكن البدء بهما:
*تنسيق الجهود بين مراكز وهيئات إسلامية مختلفة في أنحاء العالم لوضع
برامج عملية يمكن تطبيقها في الواقع لمواجهة تحديات المستقبل القريب.
*قيام مبادرات خاصة من أي جهة إسلامية لتخصيص لجان تهتم بهذا الشأن،
وعقد ندوات متعددة تُستقطب فيها أعداد كبيرة من العلماء والمتخصصين في الشؤون
الإعلامية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وأعرف أن هناك اقتراحات
كثيرة يمكن إيجادها في هذا الشأن، إلا أنه تبقى مشكلة من يُعلق الجرس، ومن يبدأ
..؟ ! لأن مثل هذه الاقتراحات تتكرر ويكثر الحديث حولها، بل سنجد من يقول
إن قيام أي مؤتمرات وندوات في هذه القضية سينتج كماً هائلاً من التوصيات التي
لن ترى طريق النور..! !
تلك مشكلة من مشكلاتنا الكثيرة التي نعاني منها، وأتوقف هنا عن الاستطراد
حولها.
ومع هذا وبافتراض عدم قيام تلك الاقتراحات الجماعية في عالم الواقع فإنه
يمكن أن تكون هناك جهود فردية منظمة هنا وهناك، يمكن من خلالها نشر وعي
متكامل حول هذه القضية، فبإمكان أي جهة إعلامية إسلامية أن تستقطب الكتاب
للحديث في هذا الشأن، وأن نقوم بإصدار كتيبات على شكل سلسلة من الإصدارات
تعالج القضية من جوانب مختلفة.
ويمكن كذلك لخطيب الجمعة بدلاً من أن يطرح القضية كلها بحماس وعاطفة
في خطبة أو خطبتين، ثم يترك الحديث عنها لسنوات يمكن أن يكون لديه تخطيط
مستقبلي في معاجة القضية وطرح متكامل على شكل سلسلة من الخطب تمتد
لسنوات، حيث يتطرق لهذا الموضوع كل أربع شهور مثلاً، يجمع خلالها
معلومات متنوعة وتعليقات ونظرات مستقبلية.
ويمكن لأي جهد شخصي نقوم به، أن نفكر جيداً قبل القيام به، حتى لا
يحصل هناك تكرار في الطرح لأفكار ومواضيع محددة، وتهمل جوانب أخرى
ويمكن عن طريق اللقاءات المباشرة مع العلماء، وأساتذة الجامعات والمتخصصين
حثهم على التطرق والاهتمام بمثل هذه الموضوعات وعدم نسيانها.
أشياء كثيرة يمكن عملها، لو صدقنا مع الله وابتعدنا عن تلك السلبية التي
نعيشها في حياتنا.