للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إن الدين عند الله الإسلام]

التحرير

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن الإسلام هو الدين الحق الذي يكلف الله به الخلق ولا يقبل منهم سواه؛ إذ ما عداه من الدين باطل وضلال، كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران: ١٩] ، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: ٨٥] ، وهذا من حقائق الدين الواضحة الجلية التي يؤمن بها كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بل إن هذه الحقيقة اكتسبت أنصاراً ومؤيدين من رجالات العلم والمعرفة والتعقل من أصحاب الديانات المخالفة للإسلام، ممن أطلقوا عقولهم من عقال التقليد والتعصب؛ فجذبتهم إليها عندما رأوا أن معارفهم وعلومهم التي أفنوا شطراً كبيراً من حياتهم للوصول إليها، توافق ما يقرره هذا الدين من حقائق وقواعد؛ لذلك أقبل الكثير منهم على الدخول تحت لواء هذا الدين، ورغم هذه المكاسب والاختراقات التي يحققها الإسلام على صعيد النخبة العقلية والعلمية؛ فإن المسلمين يواجههم اليوم تحدٍ كبير، ليس من قِبَل أعداء الإسلام عن طريق إثارة الشكوك والشبهات؛ وإنما يكمن التحدي أيضاً في الإقرار بأن الإسلام هو دين الحق، ثم محاولة تفريغه بعد ذلك من مضمونه الحقيقي في أذهان العامة الذين لا يستطيعون في كثير من الأحيان التمييز بين القشر واللباب؛ فيتحول الإسلام في وجدانهم إلى مظهر أجوف لا ثمرة له عند البحث عن المضمون. إن خطورة هذا التحدي لا تستمد من قوة الطرح ولا من صدقيته، وإنما تأتي الخطورة من كونه يُطرح باسم الفهم الصحيح للإسلام في ظل عصر التقنيات والاتصالات، ويقدمه مسلمون يظهرون في زي وسمت إسلامي.

نحن اليوم في هذه الفترة العصيبة من أوقات المسلمين أمام مرحلة جديدة مرحلة ما يمكن أن تسمى بمرحلة تسويق الإسلام الجديد؛ ففي ظل الضعف الشديد الذي تعانيه أمة المسلمين على مختلف الأصعدة، وفي ظل سطوة الكافرين وظلمهم وطغيانهم بعدما حازوا أسباب القوة، وتفوقوا فيها على المسلمين واحتكروها، دَبّ الضعف والخَوَر في نفوس طائفة من المسلمين من الوجهاء، ومن بعض من يتعاطون شيئاً من العلوم الشرعية؛ فلم يروا مخرجاً من ذلك إلا عن طريق التقارب، مع ما أفرزته الحضارة الغربية المادية التي لا تتعامل إلا مع المحسوسات، والقبول بما جاءت به وعدم معارضتها. وفي ظل ذلك فقد بدأ العالم الإسلامي بعد الصحوة القوية التي شهدها مع مطلع القرن الخامس عشر المتزامن مع مطلع السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم بدأ الآن يتراجع إلى قريب من الحالة التي كان عليها مع قرب نهاية القرن الثامن عشر عندما دهمته قوى الاستعمار بما لديها من تقدم مادي وعسكري؛ فرجع إلى نصوص الشريعة يلوي أعناقها ويحرفها عبر دروب كثيرة من التأويلات الفجة التي لا تستقيم من أجل إيجاد أرضية مشتركة بين ما دلت عليه الشريعة وبين ما أتت به الحضارة الغازية؛ فبدأت تغزو أسماعنا الآن كلمات مثل: الإسلام المدني، والإسلام الديمقراطي، والإسلام الليبرالي، ثم الحديث عن قيم الإسلام التنويري، والانفتاح على الآخر في المختلف الثقافي والديني، والتعاون في سبيل المشترك الإنساني، وعدم نفي الآخر أو تهميشه، والتواصل بين المؤمنين في العالم (اليهود، النصارى، المسلمين) في سبيل خير الإنسانية.. والكثير الكثير من أمثال هذه الجمل والتعبيرات التي تتداخل فيها الألفاظ والمعاني لإنتاج خلطة متقنة فيها الكثير الكثير من الأمور والمسائل والقضايا التي تخالف عقائد الإسلام وأحكامه، إضافة إلى القليل القليل من الطلاء الذي يبدو وكأنه ينتمي إلى عناصر الدين الصحيح، حتى يبتلع المسلمون الخلطة المعدَّة، كما يحتال الصياد بحبة من القمح يوقع بها الطائر في شراكه، فلا يخرج منها إلا إلى الذبح.

إن المعركة اليوم شديدة وقائمة على أشدها، وهي بكل أسف وأسى لا يديرها العدو الكافر المعلن بكفره وعداوته فحسب وإنما يديرها مسلمون من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويحتجون بما نحتج به من القرآن والسنة لكن على غير الوجه السليم والاستدلال المستقيم، وقد بين لنا هذه الحقيقة الساطعة حذيفةُ بن اليمان؛ حيث يقول: «كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير؛ فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم! قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم! وفيه دَخَن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم! دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا..» (١) .

فالإسلام الجديد الذي يروَّج له اليوم في الدوائر الإعلامية والرسمية يتكلم به ناس من جلدتنا، ويتحدثون عنه بلغتنا، وهو ليس الإسلام الذي تعبَّدَنا الله به ورضيه لنا؛ فليس هو إسلام السعي لنشر دعوة الله بين العالمين؛ لأن ذلك وفق الفهم العصري للإسلام عدوان وهمجية تأباها الإنسانية المتمدنة، وإنما هو إسلام التعاون والتآخي بين المسلمين واليهود والنصارى على أساس أن المؤمنين إخوة، وليس هو إسلام الدفاع عن الحقوق والبلاد والعباد؛ لأن ذلك إرهاب يهدد السلم العالمي، وإنما هو إسلام المحبة والتصالح مع الأعداء من أجل أمن المجتمعات، والإقرار بحق الأعداء في العدوان على ديار المسلمين من أجل الحفاظ على أمنهم ومصالحهم، وحق احتلال الأراضي واقتطاع أجزاء منها تضمن لهم ذلك، وليس هو إسلام الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وإنما هو إسلام بذل المحبة للجميع للمسلم الصالح وللكافر المعاند؛ لأن ذلك من قيم التحضر والتمدن التي غابت عن المسلمين قروناً طويلة بسبب التأزم النفسي من الصراع مع غير المسلمين، وليس هو الإسلام الذي يمنع الربا في المعاملات المالية والاقتصادية؛ لأن ربا اليوم ليس كربا الأمس (ربا الجاهلية) القائم على الجشع، وإنما ربا اليوم إنما يعمل على رفاهية المجتمعات وتحقيق التنمية، وأن الاقتصاد لا يقوم إلا به، وأن الدول لا تنهض إلا عليه، وليس هو إسلام التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة، وتقديم كلام الله وكلام رسوله على قول كل أحد؛ لأن هذا تنطع وتشدد وتزمت، يرفضه دين السماحة واليسر؛ فما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما، (ويتركون بقية الحديث: ما لم يكن حراماً) ، وليس هو إسلام التزام المرأة بما حد الله لها؛ لأن هذا يعبر عن النظرة الدونية للمرأة، والهيمنة الذكورية التي تغلب على ثقافة المسلمين التي نشأت بسبب الموروثات البيئية، إضافة إلى عدم الثقة في المرأة مما يحرم المجتمع من قدراتها العظيمة، وإنما هو الإسلام الذي لا يمنع من تبرج المرأة وإظهارها لزينتها واختلاطها بالرجال، ومشاركتها لهم في كل مجالات العمل ما دام الجميع محافظاً على الآداب العامة مع الاحترام المتبادل بين الطرفين، وليس هو إسلام الثبات الذي يظل الحرام فيه حراماً والحلال حلالاً والواجب واجباً؛ لأن هذا تحجر وجمود ولا يراعي خصوصيات الزمان والمكان والمستجدات العصرية وإنما هو إسلام التطور والمرونة ومجاراة العصر، حتى لو أدى ذلك للخروج على أحكامه المعلومة، ما دام أن ذلك الخروج يحقق المصلحة؛ فالدين ما جاء إلا لتحقيق المصالح.

وهكذا، والقائمة طويلة، ولكن نقول إن الإسلام ليس نظرية علمية أو اكتشافاً قابلاً للتغيير والتبديل مع تطور النظريات العلمية، أو تجدد الاكتشافات، كما أنه ليس «موضة من الموضات» التي تتغير وتتبدل بتغير أذواق الناس وأوضاعهم، بل إن هذا الدين قد أكمله الله، وأتم به النعمة علينا، ورضيه لنا ديناً {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: ٣] ؛ فلا ينبغي للمسلمين أن يضيِّعوا نعمة الله التي حباهم بها، بل واجبهم أن يقدروا هذه النعمة حق قدرها، ويعلموا أن ما لم يكن ديناً على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو على عهد خلفائه الراشدين فليس اليوم ديناً؛ فما لم يعرفه أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون، ولا أصحاب الشجرة فليس من الدين.

إن قوة الهجمة التي يراد منها تغيير الدين ولو باسم تجديد الدين أو باسم الدخول إلى عصر التقنيات الحديثة، أو باسم الانفتاح على الآخر، أو غير ذلك من المسوغات ينبغي أن تقابَل برد مكافئ في منتهى الوضوح بعيداً عن التعميم، والتداخل في الألفاظ والمناورات الكلامية، وتمييع القضايا؛ فالأمر جد لا هزل فيه، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: ٩] ، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالوضوح التام في القضايا المصيرية التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً فقال له: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: ١ - ٢] . وقد حذرنا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من هذا الصنف الذي يعمل على إفساد الدين في جمل قاطعة وواضحة، فقال: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم» (٢) . وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هؤلاء دجالون كذابون، وحذر من الاستجابة لهم؛ لأن في ذلك الفتنة والضلال، فقال: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم لا يُضلونكم ولا يفتنونكم» (٣) .

إن مهمة العلماء الراسخين في رد تلك الهجمة مهمة جليلة وعظيمة، وهذا هو دورهم، ولا يصلح أن تُترك قيادة السفينة في بحر قد تلاطمت أمواجه إلا للربان الخبير؛ فهل من مستجيب؟