للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علاقة العلم بالدين]

أ. د. جعفر شيخ إدريس

المعاني أهم من الألفاظ. لكن المعاني لا تأتينا مجردة إنما تصل إلينا محمولة على ألفاظ؛ فإذا ما عزونا إلى الألفاظ معاني غير التي تحملها، أو غير ما تعنيه في سياق معين، حصل خلط في فهمنا للحقائق أو في تصورنا لها. لذلك كانت العناية بالألفاظ أمراً ضرورياً لحماية المعاني.

من أسوأ ما رأيت من أنواع هذا الخلط اللفظي ما حدث للفظي (العلم) و (المعرفة) في لغتنا العربية الحديثة؛ وذلك أنه عندما ظهر العلم التجريبي الطبيعي في أوروبا أرادوا تمييزه عن العلم الذي تدل عليه كلمات مثل كلمة نولج knowledge في اللغة الإنجليزية، فاختاروا له لفظة تدل عليه بخصوصه وتميزه عن العلم بصفة عامة هي لفظة سيَنس science ذات الأصل اللاتيني.

لكن المترجمين العرب فعلوا العكس تماماً: عمدوا إلى أكثر الكلمات دلالة على العلم بصفة عامة وأعطوها هذا المعنى الخاص، فصارت كلمة (علم) تعني (سيَنس) . ثم أرادوا أن يميزوا بين هذا المعنى الخاص والمعنى العام فعمدوا إلى كلمة أخرى هي كلمة (معرفة) فأعطوها المعنى العام الذي تدل عليه كلمة (نولج) . هذا مع أن كلمة (معرفة) أخص من كلمة (علم) . لذلك قال أهل اللغة: إن كل معرفة علم، ولكن ما كل علم معرفة. وقالوا: إنه بينما يوصف الخالق ـ سبحانه ـ بالعلم؛ فإنه لا يوصف بالمعرفة.

أدى العبث بمعاني هذه الألفاظ المهمة إلى خلط تصوُّري عظيم ولا سيما في العلاقة بين العلم والدين. إن كلمة (العلم) من أهم الكلمات القرآنية وأكثرها وروداً في الكتاب العزيز، لكنها عندما أُعطيت ذلك المعنى الخاص ـ معنى كلمة سينس ـ حدث لَبْسٌ عظيم من أمثلته:

أننا صرنا نسمع بعض الناس يقولون: هذه مسألة علمية لا دينية.

بل سمعنا من يقول: إن القرآن كتاب هداية لا كتاب علم.

ثم أدى هذا إلى شنائع أخرى هي أنه في سبيل الدعاية للعلوم الطبيعية وبيان اهميتها وعدم مخالفتها للدين صار كثير من المتحمسين لها من أهلها ومن غير أهلها يستدلون على أهميتها بآيات مثل قوله ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: ٢٧ - ٢٨] .

وقوله ـ سبحانه ـ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ١١] .

(علمية لا دينية) وهل يقوم الدين الحق إلا على الأدلة العلمية: على الآيات البينات، والبراهين الساطعات، والحجج القاطعات؟ وإذا كان الدين كله بمعزل عن العلم فلا مجال لتمييز دين حق منزل من السماء عن دين باطل خرافي من اختراع البشر. وإذا كانت هذه هي النتيجة التي يريد أن ينتهي إليها أعداء الدين ولا سيما في البلاد الغربية؛ فما بال المستمسكين من المسلمين بدينهم الحق؟

(كتاب هداية لا كتاب علم) يا ليت شعري! وهل تكون الهداية إلا على أساس علمي؟ ألم يقل الله ـ تعالى ـ:

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: ٥٤] .

فجعل الإيمان قائماً على العلم، وجعل الهداية إلى الصراط المستقيم راجعة إليه.

{إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: ٢٨] . أفكل من اختص بشيء من العلوم الطبيعية كان ممن يخشون الله تعالى، وكان ممن يرفعهم الله درجات؟ لعمري إن هذا من أبطل الباطل:

أولاً: لأنه مخالف للواقع المشهود، فهو بذلك كلام غير علمي حتى بمقياس الـ (سينس) . كيف يكون علمياً ونحن نرى أن بعض هؤلاء العلماء الطبيعيين من أكثر الناس إنكاراً حتى لوجود الخالق سبحانه؟ من أشهر هؤلاء عالم الأحياء الإنجليزي الداروني (دوكنز) الذي ظل منذ سنوات طويلة يكتب مدافعاً عن الإلحاد، وقد ألف مؤخراً كتاباً في هذا الموضوع وُصِف بأنه من أكثر الكتب انتشاراً (١) .

وثانياً: لأنه ما كل علم ينتج عنه عند كل إنسان إيمان بالله وخشية له، بل إن بعض العلم قد يكون لبعض الناس فتنة تصدهم عن قبول الحق. ألم يقل الله ـ تعالى ـ:

{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: ٨٣] .

وقد حدث هذا لبعض علماء الطبيعة؛ إذ كان من بين ما دعاهم إلى الإلحاد أو إنكار الوحي أنهم استكبروا فظنوا أنهم هم وحدهم أصحاب الكلمة الأخيرة في ما يمكن وما لا يمكن أن يكون في الكون، فكرهوا لذلك أن يؤمنوا بإله هو خالق لهذا الكون ومتصرف فيه.

وثالثاً: لأن الأدلة سواء كانت كونية أو عقلية أو آيات منزلة لا تُلْزِم هي وحدها أحداً بقبولها أو الاعتراف بموجباتها. قال ـ تعالى ـ:

{قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: ١٠١] .

قال أكثر المفسرين: (لا يؤمنون) أي عَلِمَ الله أنهم لا يؤمنون. ولكنهم لم يعنوا بذلك أن الله ـ تعالى ـ أجبرهم على عدم الإيمان أو خلقهم بحيث يكون عدم الإيمان من طبيعتهم، وإنما المقصود أنه ـ سبحانه ـ علم أنهم يصرون على عدم الإيمان. والله ـ تعالى ـ إنما يهدي من يعلم أنه يستحق الهداية.

ولذلك قال القشيري في تفسيره لهذه الآية الكريمة:

الأدلة ـ وإنْ كانت ظاهرة ـ فما تغْنِي إذا كانت البصائر مسدودةً، كما أن الشموسَ ـ وإن كانت طالعة ـ فما تُغْنِي إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة، كما قيل:

وما انتفاعُ أخي الدنيا بمقلته

إذا استوَتْ عنده الأنوارُ والظُلَمُ؟

من أعجب ما قرأت حديثاً عن أحد الملحدين من علماء النفس أنه اعترف بأن هنالك حقيقة أثبتها علماء الأنثروبوليا هي أنه ما من أمة من أمم العالم إلا والناس فيها يؤمنون بوجود الخالق. واستنتج من هذا باعتباره عالماً نفسياً أنه يدل على أن لهذا الاعتقاد أصلاً في النفس البشرية، واعترفَ بأن كل حال أو اعتقاد أو سلوك له أصل في النفس البشرية (يعني أشياء مثل الخوف أو الحب أو الميل الجنسي) لا بد أن تكون فيه فائدة للإنسان. لكنه أصر على إلحاده؛ لأنه لم يجد للإيمان بالله فائدة للإنسان (٢) !!

رابعاً: قوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} معناه أن الذين يخشون الله ـ تعالى ـ هم العلماء به حقاً. فالآية جعلت الخشية دلالة على العلم لا العكس. ولذلك قال قتادة ـ رضي الله عنه ـ تعليقاً على هذه الآية الكريمة: «كان يقال: كفى بالرهبة علماً» . فالخشية تدل على العلم الحقيقي الذي يدخل القلب فيؤثر فيه. أما علم اللسان فقد يتصف به حتى المنافق.

وقد حدث خلط آخر في علاقة العلم بالقرآن الكريم والسنَّة المطهرة نذكره بهذه المناسبة. كثيراً ما تسمع قول بعضهم عن آية من آيات الكتاب العزيز كقوله ـ تعالى ـ:

{يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: ١٢٥] :

إن الناس لم يعرفوا معناها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن هذا المعنى إنما كشفته العلوم الطبيعية الآن. الذين يقولون هذا يخلطون بين أمور ثلاثة هي: عَقْلُ المعنى الأوَّلي للآية، وفهم الآية، وتأويل الآية.

المعنى الأولي للآيات يعقله كل متحدث باللغة التي يرسل الله بها رسولاً من رسله؛ لأن الله ـ تعالى ـ لا يُنزِل على رسوله كلاماً لا يمكن لأحد من المخاطَبين أن يعرف معناه. كيف؛ والحجة إنما تقوم بفهم المعنى؟ وكيف؛ والله ـ تعالى ـ يقول عن القرآن الكريم: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: ٢] أي تعقلون معناه.

هذا العقل الأولي للمعنى أمر يشترك فيه كل المخاطَبين ممن عرف لغة القرآن كفاراً كانوا أو مسلمين؛ لأن الإنسان إنما يصدِّق الكلام أو ينكره بعد أن يعرف معناه؛ ولذلك فإن الله ـ تعالى ـ إنما يرسل كل رسول بلسان قومه ليبين لهم. قال ـ تعالى ـ في ذم بعض الكفار:

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ؟ [البقرة: ٧٥] .

أما الفهم ـ وهو ما يمكن للإنسان أن يستنبطه من الآيات بعد أن عرف المعنى الأولي لها فأمرٌ يختلف فيه الناس اختلافاً عظيماً، وهو أمر لا يتأتى إلا بالتدبر الذي أمر الله ـ تعالى ـ به.

من الأدلة الواضحة على الفرق بين الفهم وإدراك المعنى الأولي ما جاء في صحيح الإمام البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن.

وأما التأويل فهو الواقع الذي يتحدث عنه النص، وهو شيء مختلف عن معناه. إذا قال لك إنسان: إن بالمكان الفلاني شجرة غريبة طولها كذا وألوان أوراقها وأحجامها كذا وكذا فإنك تعقل ما قال. وأما إذا أراك إياها فتكون قد أدركت تأويل ما قال لك. ونحن الآن نعقل معنى الآيات التي تحدثنا عن عجائب ما في الجنة وإن لم نرَ تأويله. والله ـ تعالى ـ قد يخبر المخاطَبين في زمان نزول الوحي بكلام لا يظهر تأويله إلا في المستقبل مثل ما أخبرهم به ـ تعالى ـ من غلبة الروم على الفرس. ومثل قوله ـ تعالى ـ:

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟ [فصلت: ٥٣] .

والمكتشفات العلمية المؤيدة لما أخبر به الله ـ تعالى ـ كلها أو معظمها من هذا النوع. إنها لا تعلمنا معنى كلام ربنا، لكنها تُظهِر لنا بعض حقائقه التي أخبر بها. كيف تعلمنا المعنى ومعرفة المعنى شرط في معرفة موافقة الخبر العلمي له. كيف تعرف مطابقة قوله ـ تعالى ـ: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: ١٢٥] لما كشفه العلم إذا كنت لا تعرف المعنى اللغوي لهذه العبارة؟

نقول بعد هذا: إنه لم يكن قصدنا من هذا المقال التشكيك في العلوم الطبيعية أو التقليل من شأنها وأهميتها، وإنما كان القصد منه وضع الأمور في نصابها الصحيح.

إن العلم هو كل دعوى موافقة للواقع سواء كان هذا الواقع غيباً أو شهادة، وسواء كان حسياً أو نفسياً أو عقلياً. والعلوم وإن صدق عليها كلها هذا التعريف إلا أنها تختلف باختلاف مجالاتها وباختلاف طرقها التي تحتمها عليها تلك المجالات. والمسلم يعترف بكل حقيقة دل عليها واحد من تلك العلوم إذا ما قام عليها دليل صحيح. والعلوم الطبيعية المسماة (سيَنس) هي من هذه العلوم، بل هي نفسها علوم مختلفة في بعض طرقها. فعلم الفلك ليس كعلم الأحياء، وعلم الكيمياء ليس كعلم الفيزياء. وهي كلها علوم مفيدة، بل إن منها ما هو ضروري للمسلمين في هذا العصر. وكما أنها مهمة في مجال الحياة الدنيوية فهي مفيدة في مجال الإيمان بالله وبرسوله؛ فقد أيد كثير من حقائقها ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن هنا نشأ العلم الذي سمي بالإعجاز العلمي. فما قلناه عن العلوم الطبيعية ليس المقصود به إذن إنكارها أو تحقيرها أو التقليل من شأن الاهتمام بها، وإنما المقصود به وضعها في موضعها الصحيح.