[من المكتسبات بعد الانقلاب في العسكري في موريتانيا]
أحمد ولد محمد ذو النورين
لا وجه لإهمال المسلم واقعه أو ابتعاده عن مجريات الأحداث في محيطه؛ إذ المسلم بما يتحمله من مسؤوليات وما يجب أن يعيه من أمور، وما يحيط به من مخاطر، يظل لزاماً عليه أن يبقى في قلب الحدث.
والمتتبع الفطن لأحداث التاريخ يستخلص بوضوح خطورة التغافل والانعزال عن شؤون الحياة من قِبَل المسلم؛ فكثير مما حصل في بلاد المسلمين من إبعادٍ لتعاليم الإسلام واستذلال لأهله ناتج في الغالب عن تقوقعهم وابتعادهم عن الأمور العامة، وعن تخاذلهم وعدم مواكبتهم للتعاطي مع الوقائع، وخاصة في أمور الدولة وما يتصل بها.
لا وجه لإهمال المسلم واقعه أو ابتعاده عن مجريات الأحداث في محيطه؛ إذ المسلم بما يتحمله من مسؤوليات وما يجب أن يعيه من أمور، وما يحيط به من مخاطر، يظل لزاماً عليه أن يبقى في قلب الحدث.
والمتتبع الفطن لأحداث التاريخ يستخلص بوضوح خطورة التغافل والانعزال عن شؤون الحياة من قِبَل المسلم؛ فكثير مما حصل في بلاد المسلمين من إبعادٍ لتعاليم الإسلام واستذلال لأهله ناتج في الغالب عن تقوقعهم وابتعادهم عن الأمور العامة، وعن تخاذلهم وعدم مواكبتهم للتعاطي مع الوقائع، وخاصة في أمور الدولة وما يتصل بها.
ففي المشهد الموريتاني الحديث نجد أن أغلب الدعاة والمتدينين قد انشغلوا بأمور الدعوة واستحثاث الهمم للعمل التعليمي والدعوي في نطاق ضيق، متجاهلين أو متجاوزين ما يتصل بالعمل السياسي، مسايرين بذلك مستندات فكرية مبنية على معيار قياس الوسائل والحاجات والأولويات انطلاقاً من خلفية قوة المسلمين وسيادة أخلاقهم وتعاليمهم، بعيداً عن مراعاة المتغيرات والمستجدات؛ وهو الأمر الذي أخلى الساحة السياسية من المتدينين، فظلت مسرحاً للفاسدين والحاقدين على التدين يمرحون فيها كيف يشاؤون، في غيبة أهل الصلاح وانشغال منهم بالدعوة والمجالات الاجتماعية والأخلاقية، ظانين أن الطريق بيِّن، وأن الأمور ستظل سائرة في مسارها الصحيح؛ فلم يلبث أهل الفساد ـ في بلاد شنقيط ـ أن وقفوا في منتصف الطريق حاسرين الأقنعة عن وجوههم، معلنين محاصرتهم للعمل الإسلامي بكافة طرقه ووسائله، متخذين لذلك شتى الذرائع، متكئين على نظام أراد أن يناصب الدين وأهله العداء، بعد أن تنكر لدينه وقيم مجتمعه، فأفلس أخلاقياً واجتماعياً، حين طبخ زاده لمحاربة الدين في مراجل صهيون، متوسلاً بالنظام العالمي الجديد، مبدياً وجه العداوة لأهل الخير، محاولاً عزلهم والنيْل من مكانتهم، بعد أن عرّوه في وضح النهار؛ بإعلانهم كلمة الحق رغم غلاء الثمن وصعوبة الطريق.
لقد وصل النظام البائد بزعامة (ولد الطائع) إلى درجة من المكاشفة والمصارحة بحقده وعدائه للعمل الإسلامي، لم يوازها إلا عدله في توزيعه للظلم على الناس ... لقد أغلق المساجد والمعاهد، وجند كل قواه الأمنية والإعلامية لسد أبواب الدعوة، مؤسساً لكل خطوة يخطوها في سبيل ذلك على آراء حثالة من المتعاملين لم يحظوا بالفهم السليم، ولم يوفقوا للاتباع ولم يراعوا للكرامة ذماماً، فعظمت الجراءة على الله، وتم التطاول على العلماء، ولويت أعناق النصوص، وتم القفز على المفاهيم والقيم، فألقي في السجن كل داعية إلى الله، وجففت منابع الخير وروافده، وأوصدت ديار العلم ومعاهده، فماج الناس في ظلام مدلهمّ، واشتد الحصار على المساجد، وخنقت المحاظر، وتم طمس السنة وإنكارها، بل والسخرية منها والاستهزاء بأهلها ووصمهم بكل نقيصة، وأُشهرت البدع، وانتشر الباطل، وتجمعت الأزمات بشكل خانق كاد أن ينزلق بالبلاد في أتون حرب أهلية غير محسوبة العواقب.
فنشأت في خضم ذلك مرحلة لم يعد بعدها الوضع مطاقاً، فعجت البلاد بالكراهية والظلم والحقد والمكر، فكان أمل كل موريتاني أن يزول (ولد الطائع) ولو كان بانقلاب من الشيطان.
فجأر الناس إلى خالقهم، والتجؤوا إلى فارج الكرب، فجاءت المفاجأة من حيث لم تكن متوقعة، وأزال رأس النظام أقربُ معاونيه، فكان انقلاب الثالث من أغسطس ٢٠٠٥م، بمستوى من السهولة والإتقان غير معهودة؛ فلم يُرَق دم، ولم تقع بلابل ولا اضطرابات.
لم يعلق الناس في البداية آمالاً كبيرة على الانقلاب؛ لأن من قام به هم شخصيات من أهم ركائز النظام، خاصة قائده الذي ظل مديراً للأمن طيلة حكم (ولد الطائع) . حصل ذلك التغيير وتنفس الموريتانيون نسائم الأمل، رغم حمله لبعض رواسب الماضي المتجذر لدرجة يصبح الإصلاح معها عسيراً. غير أن خطوات إصلاحية بدأت تتحرك رويداً؛ حيث تم التشاور بين المجلس العسكري وأطياف واسعة من مختلف الفرقاء السياسيين، ففتحت المساجد من جديد وخاصة في وجه أنشطة الوسطيين، وتراجعت الشرطة عن مطاردة المصلين، وشهد الإعلام قفزة نوعية؛ فصار مشاعاً ـ إلى حد ما ـ بين أغلب شرائح المجتمع، بعد أن كان محتكراً على التطبيل والتزمير لسدنة القصر، وتراجعت الدعاية ضد المرجعيات الإسلامية التي حاول النظام البائد أن يحيدها عن محيط الثقة والتقدير.
وأفسح المجال أمام أهل الدعوة من جماعة الإخوان المسلمين، وتولت عنهم عيون البولسة، ومات قانون المساجد المشؤوم، وأعدت تعديلات دستورية من شأنها تقليص الفترة الرئاسية، والقضاء على التشبث بالكرسي إلى الأبد، وتلاشى التخندق في بوتقة الحزب الواحد.
وقد ظهر جلياً بعد هذا التغيير أن الإسلاميين يملكون مكانة لا يمكن تجاهلها ولا تخطيها، مما جعل كل القوى السياسية في البلاد اليوم تدرج ضمن برامجها وخطاباتها، بل وأنشطتها، كافة ما يغازل شعورهم، وإن كانت تخالفهم في الرؤية والتصور.
ولقد وصلت حرية المجال الدعوي إلى معاودة بعض الجمعيات المجتمعية ذات النزعة الإخوانية العاملة في الحقل الدعوي عملها، وإن كانت أخرى سلفية لا تزال موصدة الأبواب. هذا إضافة إلى رفع الحظر عن الدروس الثابتة والمنابر التعليمية والليالي التربوية التي يقوم بها الوسطيون؛ علماً بأنه تم الفسح للعديد من التظاهرات والمسيرات المعبرة عن التضامن مع الأشقاء في فلسطين ولبنان مثلاً، تلك التظاهرات التي كانت تعبيراً صارخاً عن الرفض الكلي للعلاقة مع اليهود الغاصبين، وهو الأمر الذي كان مستحيلاً في ظل الحكم البائد الذي كان سنداً مستميتاً وشريكاً مخلصاً لليهود.
وفي ميدان رقابة المال العام كان هناك تحسن ملحوظ، بعد أن ظلت المؤسسات المالية فوضى في أيدي المفسدين ينهبونها كيف شاؤوا دون رقيب أو حسيب، في ظل نظام كانت ولاءاته قائمة على العبثيات والنهب والغبن، وهو ما تم الحد منه بشهادة الجميع.
صحيح أنه بقي الكثير والكثير مما يحتاج إلى إصلاح، وصحيح كذلك أن الظلم لا تزال بعض رواسبه جاثمة على الصدور، كما لا تزال بعض هياكله تعيق الطريق، خاصة بعد تبدد آمال كثيرين حين تواصلت الاعتقالات التعسفية في صفوف السلفيين، مع العلم أنه تم إطلاق سراح جماعة من أهم رموزهم.
ولقد بدأت روافد الظلم ـ والحمد لله ـ تضعف، وجعلت لوبياته تتخلخل وتتفكك وتحس بالخجل والخوف، وإن كان القضاء على الظلم بشكل كلي لن يتحقق إلا بتراكمات من الإصلاح ونضوج للوعي الجمعي الذي أوهنه عشرون عاماً من الأيام العجاف ماتت خلالها الضمائر الحية وقبرت قيم الفضيلة، ونمت بدل ذلك روح الانتهازية والانتفاع والنهم المتأجج في دوائر جهوية وقبلية، يحتضنها إطار من الاستفهامات يُفقِد العاقل صوابه، والثابت توازنه، والرحيم إنسانيته.
غير أن الأمل ينتعش حين يرى المراقب للواقع الموريتاني، بعد التغيير، إقبال فئات عديدة على دعم مبادرات الخيرين من الإصلاحيين الوسطيين وتشجيعهم على المستويات الدعوية والسياسية والاجتماعية.
ينضاف ذلك إلى أن القائمين الجدد على القرار، وإن لم يفتحوا المجال في الظاهر ـ على الأقل ـ ويمارسوا بأنفسهم الأنشطة الدعوية ذات الصبغة الوسطية؛ إلا أنهم يتغاضون عنها ويتركون قافلتها تسير من غير وضع عراقيل أو معوقات، بل يعلنون تعويلهم عليها في إرساء موازين العدل والاستقرار ونشر الفضيلة
وخلاصة القول أن هناك نتائج ملموسة تم إحرازها على المستوى الإسلامي يتمثل أهمها في انفتاح الحكام الجدد على البلدان الإسلامية؛ وذلك بالسعي الحثيث إلى إٍقامة علاقات دبلوماسية ودية مع بعضها بعد أن لم تكن، كما هو الشأن مع السودان، والعمل على تحسين وتوطيد العلاقات مع البعض الآخر، كما هو الحال مع المملكة العربية السعودية.
وعلى الصعيد الداخلي:
تم إطلاق سراح أغلب المعتقلين، خاصة كبار العلماء والدعاة مثل الشيخ محمد الحسن الددو والشيخ محمد سيديا النووي.
كما تمكن عدة شخصيات وسطية من العودة إلى البلاد بعد أن كانوا ممنوعين بسبب المتابعات الأمنية أو الأحكام القضائية الجائرة، إضافة إلى فتح وسائل الإعلام الرسمية أمام شخصيات إسلامية وسطية كان بعضها مسجوناً أو مطارداً، مما أتاح لبعض هذه الشخصيات المشارَكة ببرامج معروفة في الإذاعة الوطنية.
ورغم أن الدولة لم تعترف بأي حزب إسلامي؛ إلا أنها تغض الطرف عن عمل ونشاط الإسلاميين الوسطيين علناً وفي أغلب مناطق البلاد.
وفي ميدان العمل الاجتماعي والثقافي والعلمي هناك هيئات إخوانية تنشط تحت مظلة منظمات غير حكومية، إضافة إلى رفع الرقابة أو تقليصها عن المساجد؛ إذ أصبح الدعاة والوعاظ والأئمة يقدمون داخلها الدروس والخطب بحرية كبيرة، مقارنة مع ما كان عليه الوضع أيام المخابز.
ولقد تم الترخيص رسمياً لبعض المعاهد التي كانت قد أغلقت في ظل النظام السابق.
وكذلك تشكَّل اتحاد الطلاب في الجامعة لأول مرة، وهو منبر متميز للإسلاميين الوسطيين لسيطرتهم عليه منذ فترة؛ ولا يزال الناس ينتظرون المزيد من المكاسب بشيء من الترقب والحذر، نظراً للوعود الوردية التي قطعها المجلس العسكري على نفسه صبيحة الانقلاب، والتي لا يزال المنجَز منها على أرض الواقع دون التطلعات، وخاصة إذا نظرنا إلى الطريقة التي تم التعامل بها مع السلفيين وملفاتهم القضائية، رغم تبرئة القضاء لهم، وثبوت بُعدهم عما اتهموا به من صلات بالإرهاب وما وُصِموا به من تهديد للأمن، فلا العدالة شملتهم، ولا الحقوق القانونية والمدنية والإنسانية حمتهم؛ فقضيتهم ستظل وصمة عار في جبين النظام الجديد ما لم تجد حلاً منصفاً عادلاً. ولا ندري؛ فلعل الأمور تصير إلى الأحسن إذا تعززت المفاهيم والقيم، وتأسس العدل، واتسع هامش الحرية، وترسحت دعائم النظام، وحَسُنت النوايا.
فبلاد شنقيط لا تزال تحن إلى الإسلام الصافي وحملته، فهي التي دأبت على احتضان الدعوة السلفية منذ تأسيس الدولة المرابطية خطاباً ونهجاً، فأنجبت ربوعها العلماء، وترعرعت على أحقافها (١) بذور الحسبة وخصوبة الإصلاح، ولم يعتكر جو الإنبات فيها إلا بعد اجتيالها (٢) من قِبَل شرذمة من أهل الشر، في غفوة من أهل الحق واستغلال لظرف دولي جِبِلَّةُ أهله الظلم والاعتداء ...
{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: ١٧] .
زبد البحر تراه رابياً واللآلي الغر في القعر رُسَّبُ