للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قراءة في كتاب

[لماذا يجب على النصرانية أن تتغير أو تندثر]

اسم الكتاب:

(Why Christianity Must Change or Die)

المؤلف: (John Shelby Spong) .

عرض وتحليل: د. ممدوح نور الدين [*]

الناشر: (Harpersan Francisco) .

تاريخ النشر: ١٩٩٨م.

حجم الكتاب: ٢٥٧ صفحة من الحجم المتوسط.

مؤلف الكتاب كاتب أمريكي تقلَّد عدة مناصب في الكنائس الأمريكية حتى

أصبح أحد الأساقِفَة اللامعين؛ له عدة مؤلفات أشهرها: «إنقاذ الكنيسة من

الأصولية» ، ويتميز طرح الكاتب بالجراءة فيما يعتقد أنه إصلاح للكنيسة في

عقائدها ومناهجها وأفعالها.

يقدم المؤلف نفسه على أنه كاتبٌ مؤمن، ويحاول التركيز على هذا المعنى

بصورة واضحة توحي للقارئ أنه يحاول أن يدفع عن نفسه شبهة قد علقت في

أذهان الناس عنه. كما يفخر المؤلف بأنه قد اشتهر عنه في أوساط المؤلفين

والأساقفة ولعه بالجدل، وحبه للمناظرات، وجسارته في طرح الأفكار الغريبة التي

تتجاوز حدود الدين وتطلق العنان للعقل المتحرر من قواعد الدين؛ ومع ذلك فقد بلغ

منصب أسقف في الكنيسة الأمريكية، وما زال يفضل أن يُعرف عنه أنه يتصف

بصفة الإيمان.

يبدأ المؤلف كتابه بهجوم شرس على المؤسسات النصرانية وعلى رأسها

الكنيسة، ويتهمها بالجمود الفكري وعدم الانفتاح والتخوف من مناقشة عقائدها

البالية، ويوجه هجمته الأولى إلى عقائد النصارى واحدة تلو الأخرى، فيهاجم

اعتقادهم بأن الإله الذي يعتقده النصارى ذكر وليس أنثى. فيرى في هذا أنه زيغ

محض قد استخدم مسوغاً لاستعباد النساء عبر آلاف السنين؛ بيد أن المؤلف لم

يحدد موقفه من هذا الاعتقاد الذي أنكره.

ثم ينتقل المؤلف إلى التشكيك في قدرة الله بأنه ليس قديراً على كل شيء،

ويرى أنه لو كان قادراً على كل شيء لاستطاع علاج الأمراض الفتاكة كالسرطان

والطاعون، كما أنه يرى أن هذه الأمراض ليست مصائب من الله يبتلي بها الناس،

بل إنها نتيجة مباشرة لمشكلات عضوية مادية ملموسة!

والمؤلف يحاول جاهداً أن يظهر أنه يلتزم الموضوعية في طرحه قدر الإمكان

أثناء انتقاده لعقائد النصرانية؛ لكنه لا يستطيع أن يلتزم طويلاً بهذا المنهج. فيذكر

المؤلف أنه قد كتب «تحرير الأناجيل» عام ١٩٩٦م؛ حيث ذكر فيه أن مؤلفي

الأناجيل وهم (متَّى وبطرس ويوحنا ولوقا) لم يكن أحد منهم من الذين عاصروا

المسيح أو التقوه، بل إنهم لم يعتمدوا على ذاكرة حواريي المسيح، وأن هذه

الأناجيل مبنية على مصادر يهودية؛ فكيف يرى أتباعها أنها صحيحة؟

وبغضِّ النظر عن صحة الانتقادات التي وجهها المؤلف إلى عقائد النصرانية

إلا أنه لم ينجح في الوصول إلى الحقيقة التي يزعم أنه ينشدها. بل كان جل همه

أن يشكك الناس في عقائد النصارى المنحرفة، بل تجاوز الحد إلى التشكيك في

قدرة الله سبحانه وتعالى [سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ] (الصافات: ١٥٩) .

فالكاتب يرى أن عالم الطب اليوم ليس له علاقة البتة بقدرة الله، وأن هذا

الأمر خارج عن ملكوت الله وسلطانه! فالفيروسات والبكتيريا والأورام التي يتعامل

معها الطب لا علاقة لها بقدرة الله! وكذلك الأدوية والعقاقير فإنها من نتاج العقل

البشري ولا دخل لله بها، ثم يزعم أن الذي يعتقد أن الله هو مسبب هذه الأمراض

ليس إلا مجرد إنسان تغلب عليه السذاجة! وهنا يلحظ القارئ أثر الحياة المادية

على منهج مؤلف الكتاب الذي أصبح لا يرى إلا من خلال الماديات والمحسوسات،

وينكر الغيبيات، بل يتهم الذين يؤمنون بها بأنهم رجعيون ومتخلفون! كما تظهر

عليه النزعة التجديدية في الدين.

وفي موضع آخر من كتابه يناقش قضية ألوهية عيسى ابن مريم عليه السلام

ويتهكم قائلاً: «إذا كان عيسى هو ابن الله الوحيد، فليس أحد آخر من البشر من

أبنائه؟» ويفسر هذا الاعتقاد بأن مصدره أساطير الأولين التي سيطرت على

عقول الناس قروناً طويلة، ويبدو أن الكاتب لم يستطع أن ينفك عن دينه الذي

يؤمن بأن اليهود هم أبناء الله وأحباؤه، لذلك يستغرب عدم وجود مكان لليهود إذا

كان عيسى هو ابن الله الوحيد!

ويطلق المؤلف عنان قلمه ليطعن أيضاً في عذرية مريم أم المسيح عليه السلام

فيقول: إن جميع قصص النساء التي أنجبن أولاداً وهن عذارى إنما هي من وحي

الخيال وليس لها أساس علمي بما في ذلك قصة مريم أم المسيح عليه السلام، ويؤكد

وجهة نظره مستنداً إلى علم الأحياء الذي يحتم وجود البويضة في رحم الأم.

ويستنتج من ذلك ضرورة حدوث تلقيح بين روح الإله وبين بويضة الأم، وإذا كان

ذلك كذلك فإن مريم أم عيسى عليه السلام تعد شريكاً لله في خلق عيسى عليه السلام

إذ إنها في مقام الزوجة! ! [وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً]

(الجن: ٣) ولا شك أن مرد هذا التفكير لدى المؤلف يرجع إلى عدة عوامل هي:

١ - عدم إيمان المؤلف بالغيب.

٢ - تصوره السطحي عن الله خالق الكون كله.

٣ - التشويه الموجود في عقائد اليهود والنصارى عن الله من أثر تحريف

كتبهم.

٤ - أثر المذهب المادي والمذهب العقلاني في حياة هؤلاء القساوسة

والأساقفة الذين نهجوا منهج الملحدين.

٥ - إيمان الكاتب بمذهب التجديد في الدين والسعي لنشره سعياً حثيثاً.

ثم ينتقل المؤلف إلى مرحلة أخرى هي مرحلة التنظير والتأصيل، فيشجع

القراء على الخروج على الكنيسة بأسلوب عصري فيقول: «إن ما أطلبه من

المؤمنين من أهل دينه العصرانيين أن يعترفوا بأن الكلمات والمعاني التي وردت

في المصادر الإنجيلية في العصور الغابرة ليست في حقيقتها إلا كلمات خاوية لا

معنى لها؛ إذ إننا أصبحنا نرى الحقيقة في عصرنا هذا بصورة مختلفة» .

وكلما وجد المؤلف فرصة سانحة تحدث عن كيف أنه يعيش في عزلة عندما

يتعامل مع نصوص الإنجيل، فيشعر أن المعاني الموجودة فيه لا يقبلها عقل

الإنسان المتحضر (وكأن الحضارة في عصرنا هذا سبب في إدراك زيغ الماضي)

ويستمر الكاتب في خلطه بين الحق والباطل؛ فهو يرى خطأ بعض عقائد النصارى

لكنه لا يصحح هذا الباطل بالحق؛ وإنما يصححه بباطل آخر اسمه: العصرانية،

ومن ثم فهو ينتقل من ضلال إلى ضلال آخر، ومن ظلمة إلى أخرى.

وقد نالت الخصومة بين العلماء والكنيسة في القرن الخامس عشر نصيباً من

الكتاب؛ فقد تناولها الكاتب تناولاً معتدلاً نسبياً، فذكر أنه عندما رفضت الكنيسة

معطيات العلم الذي أتى به جاليليو إذ أثبت أن الأرض تدول حول الشمس ثارت

ثائرة القساوسة وأهل الإنجيل في ذلك الوقت، ثم ذكر كيف اعترف الفاتيكان في

٢٨/١٢/١٩٩١م أن العالم جاليليو كان على صواب، وأن الكنيسة والإنجيل كانا

على باطل في تصورهما للكون ومكانة الإنسان فيه.

وهنا تجدر الإشارة إلى تفسير المسلمين لهذا الأمر؛ فإن الإنجيل قد حُرِّفَ كما

أشار القرآن الكريم إلى هذا، وأن علماء الكنيسة لم يبذلوا جهداً في التحقق من هذا

التحريف؛ بل قبلوه دون تمحيص؛ ولو كان الإنجيل غير محرف لما وجد الناس

فيه اختلافاً كبيراً، وهو ما يراه مؤلف الكتاب وغيره من المؤلفين، ولما تعارض

مع حقيقة علمية قط؛ فإن خالق الكون هو الله الخبير العليم.

ويسترسل المؤلف في انتقاده لعقائد النصارى واحدة تلو الأخرى، فيعرض

إلى قضية صلب المسيح والحلول والخطيئة الأولى، لكنه عندما ينتقد هذه العقائد

ينتقدها من منطلق الهوى المحض؛ فهو يرى حقيقة الخلل في هذه العقائد؛ لكنه

عندما يعمد إلى تفسيرها يستخدم هواه فيقع في مشكلات أكبر.

والكتاب بصفة عامة خليط بين الحق والباطل؛ فهو ينتقد أخطاء النصارى

التي نجمت عن تحريف الإنجيل وهذا حق، لكنه يبني هذا النقد على هواه وعلى

مفهوم العصرانية المادية، وهذا باطل [**] .

في الفصل الثاني عشر من الكتاب يضع المؤلف تصوراً جديداً للصورة التي

يجب أن تكون عليها كنيسة المستقبل، وقد بنى تصوره على فلسفته وهواه وعلى

معطيات العلم الحديث وعلى مفهوم العصرنة، واقترح مفهوماً جديداً للعبادة تصور

فيه عدم وجود معبود، ولقد بلغ بخيال المؤلف أن يعتقد أن العبادة يمكن أن تتم دون

وجود معبود؛ لأن المعبود في زعمه وَهْمٌ قد سيطر على أذهان الكنيسة في العصور

الوسطى.

أما في الفصل الثالث عشر فإن المؤلف قد أعلن في تصريح دون تلميح بأن

«عهد الإيمان قد مضى وأدبر» ! (هكذا) إذ صار الناس لا يحتاجون إلى

المعتقدات الإيمانية في العصر الحديث حسب زعمه وبذلك فقد سلك المؤلف سبل

الفلاسفة الملحدين، فأنكر وجود الجنة والنار إنكاراً مطلقاً، وزعم أن هذا المعتقد

إنما هو أسطورة قد حشت أذهان الناس في الماضي الغابر لكن عهدها قد ولى

وانصرف.

وفي خاتمة الكتاب يرى المؤلف أنه على يقين من أن صورة الدين عامة

والنصرانية خاصة ستتبلور خلال ١٠٠ عام تبلوراً صحيحاً في أذهان الناس عندما

تندثر الخرافات. ولم ينس المؤلف في نهاية المطاف أن يذكِّر القراء بأنه مؤمن بالله

بالرغم من كل ما ذكره من تشكيك، ثم اختتم كتابه بتحية اليهود (شالوم) ومعناها

السلام.

من خلال صفحات الكتاب كشف المؤلف بوضوح عن غايته من هذا الكتاب

وهي التحرر المطلق من قيود الدين؛ فقد صرح بإيمانه بضرورة منح اللوطيين

والشواذ جنسياً الحرية المطلقة في ممارسة ما يرونه في طبيعة علاقتهم الجنسية مع

الآخرين.

ولا شك أن الكتاب صورة من صور تجسيد الانحراف الفكري والخواء

الروحي والضلال المبين الذي يصيب كل من تنكَّب عن الصراط السوي، وكذلك

فإن هؤلاء القساوسة والأساقفة يتحملون وزراً عظيماً في تضليل أتباعهم الذين ليست

لديهم القدرة على فهم الحقائق، ولذلك فهم يتبعون أهواءهم التي هوت بهم في

مكان سحيق لا يستطيعون الخروج منه؛ ومن ثَمَّ يأتي الدور الذي يمكن أن يلعبه

علماء المسلمين ودعاته في إظهار العقيدة الصحيحة وتقديمها بالأساليب المناسبة

للعقلية الغربية التي تنكبت عن صراط ربها سعياً لإنقاذ البشرية من ضلالها المبين.

وجدير بالذكر أن هذا الكتاب لم يواجه أية معارضة من قِبَل الكنيسة ولا علماء

النصارى ولا عوامهم، ويرجع هذا إلى عدة أسباب منها:

أولاً: ضعف تأثير الدين في حياة الناس الذين صاروا لا يعبؤون بما يسمعون

ويقرؤون.

ثانياً: انغماس الغربيين في الحياة المادية انغماساً يشغلهم عن عظائم الأمور.

ثالثاً: مهارة المؤلف في طرح أسلوبه التشكيكي ونسبته إلى غيره من الناس

حتى لا يكون مستمسَكاً عليه، وفي الوقت ذاته لا ينفي عن نفسه صفة الإيمان مما

يجعل السذج من القراء يجهلون حقيقة موقفه.

رابعاً: سكوت علماء النصارى عن مثل هذه الأطروحات يؤكد أن بعضهم

يؤمن بما في الإنجيل من تحريف وتزييف.

خامساً: إن فتح الباب على مصراعيه أمام الملاحدة وأفكار الفلاسفة لن يقف

عند حدود النصرانية بل قد يتعداها إلى غيرها.

سادساً: إن علماء المسلمين يجب أن يكون لهم دور فاعل في الرد على

هجمات هؤلاء الفلاسفة الذين يهاجمون رب العالمين ليلاً ونهاراً.

تعقيب:

لا شك أن الكتاب تجسيد لمفهوم العصرانية في الدين التي تعني أن الاعتقاد

بأن التقدم العلمي والحضارة المعاصرة يستلزم إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية

على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة، والمتأمل في منهج الكاتب يدرك كيف

أن العصرانيين العرب قد أخذوا منهجه نفسه في مهاجمة الإسلام لكن بدرجة أقل

وضوحاً من الكاتب الذي يعيش بين أناس لا يرون للخالق مكاناً بينهم ولا حتى في

كتاباتهم؛ بيد أن العصرانيين العرب لا يجدون في القرآن ولا في محمد صلى الله

عليه وسلم ولا في سنته ما يمكنهم من ذلك، فيلجؤون إلى مهاجمة التراث عامة؛

ولا يقدرون أمام الملأ أن يجهروا بما يبطنون حتى لا ينفضحوا أمام أهليهم وذويهم

ومن في الأرض جميعاً؛ فما زال ثوب الحياء يمنعهم من ذلك؛ ولكن إلى متى

سيصبرون؟ !


(*) أستاذ وعضو الهيئة التأسيسية للجامعة الأمريكية المفتوحة.
(**) هناك نقد موضوعي أثبت صحة القرآن أمام الكتب المحرفة كالتوراة والإنجيل، في كتاب
(القرآن والتوراة والإنجيل في ضوء المعارف الحديثة) ، للكاتب الفرنسي (موريس بوكاي) ، وإن
كان لا يخلو من ملحوظات ومآخذ؛ لكنه أحسن من الكتاب محل البحث، وللعلم فإن (بوكاي) أسلم
بعد بحثه هذا.
- البيان -