في دائرة الضوء
المواقف الفرنسية
إزاء (حرب الإرهاب الأمريكية)
حسن الأشرف [*]
* أمريكا بعيون فرنسا:
حاول المؤرخ «ميشيل كايار» تحديد علاقات الشد والجذب، والمد والجزر
بين فرنسا وأمريكا فكتب: «تُعد فرنسا أكثر البلدان بأوروبا مُناهضة للنزعة
الأمريكية، لكنها لا تستطيع مقاومة جاذبية مجتمع تلك القوة وثقافتها.. تلك مفارقة
غريبة، لا تستعصي على التفسير، فكلا البلدين يطمحان إلى العالمية، إلا أن
فرنسا تعتبر نفسها صاحبة رسالة حضارية، في حين ابتدعت الولايات المتحدة
طريقة للعيش (life of way) تعمل على تصديرها عن طريق القوى العسكرية،
والنفوذ الاقتصادي.
وبينما تنتمي فرنسا إلى عالم ولّى كانت فيه رائدة، تحتل الولايات المتحدة
الأمريكية مقدمة عَالَم وُلد سنة ١٩٤٥م، إنها في الوقت نفسه النموذج والعدو في
نظر فرنسا.
وبدأت مع الحرب الباردة وانطلاقاً من سنة ١٩٤٧م، تتحدد صورة الأمريكي
العدو، فقد تميزت السنوات الممتدة من ١٩٤٧م إلى ١٩٥٥م بمعارضة ذات طبيعة
سياسية للنزعة الأمريكية، جسّدها تحالف ضمّ الشيوعيين والمسيحيين واليسار
المسالم والمثقفين ذوي الميول الشيوعية أو المسيحية، حيث اعتبرت الولايات
المتحدة بلداً إمبريالياً يهدد بأسلحته ورؤوس أمواله وثقافته الاستقلال السياسي
والثقافي والاقتصادي لفرنسا.
ولم يَسلم الفرنسيون من جاذبية طريقة العيش الأمريكية؛ إذ في إطار مشروع
» مارشال «انتقل إلى الولايات المتحدة مواطنون فرنسيون من أجل النفاذ إلى
سرار الرفاهية الأمريكية، ويتعلق الأمر بالنسبة إليهم برغبة في نشر لروح المقاولة
والإنتاجية والتايلورية (نسبة إلى مبدعها تايلور) ، والتبادل الحر في فرنسا، لقد
استبطنوا النموذج الأمريكي دون إيجاد الجواب المناسب عن السؤال الآتي: هل
يمكن لفرنسا أن تتماهى مع النموذج الأمريكي دون أن تفقد هويتها واستقلالها؟
إنه سؤال وجيه في بلد يرى أن الولايات المتحدة هي من القوة بحيث تحشر
أنفها في كل شيء، وتسيء معاملة الفرنسيين ولا تريد فهمهم. ودون انتظار
الإجابة عن هذا السؤال؛ فإن الفرنسيين الذين استفادوا من الرخاء الاقتصادي لبداية
النصف الثاني من القرن الماضي؛ انخرطوا في مجتمع الاستهلاك الذي تجلى من
خلال ارتفاع الأجور وتوفر القروض ومواد التجهيز، وأقبلوا على المنتوجات
الأمريكية (America in Made) ، وقد حظيت سياسة دوغول المناهضة للعدو
الأمريكي بسندٍ شعبي واسع لم يتوفر لليسار الذي سبقه إلى ذلك.. ومرّت السنون..
واستطاع الرئيس» بومبيدو «بمشروعه الذي سماه» الضرورة الصناعية «،
» وفاليري جيسكار ديستان «المدافع عن» المجتمع الليبرالي المتقدم «؛ طي
صفحة المفارقات الدوغولية، فحصل الانفراج في العلاقات الفرنسية الأمريكية،
والذي بلغ مداه خلال الثمانينيات من القرن المنصرم، غير أن حليمة عادت إلى
عادتها القديمة، حيث حورب» ميشيل روكا «المتطلع إلى رئاسة الجمهورية
الفرنسية من طرف أنصار» فرانسو ميتران «بدعوى تمثيله» اليسار الأمريكي «
فتم إقصاؤه؛ وبدأت فرنسا تستعد لخوض» الحرب الثقافية «للخروج من
منطقة الاحتلال الأمريكي، وهو الشعار الذي ظهر في السبعينيات وبعثه من جديد
» جاك لانغ «و» جون بيير شوفينمان «؛ إذ ندد الأول بالإمبريالية المالية
والثقافية التي تخلب ألباب الناس، وحارب الثاني التغلغل الثقافي الأمريكي الذي
يؤدي إلى الخضوع السياسي..» .
إن فرنسا تعيش أزمة هوية ناتجة عن البناء الأوروبي الذي يطمس الأمم من
أعلى، واللامركزية التي تحول فرنسا إلى إقطاعيات، والهجرة التي تعصف بآليات
الاندماج، وبذلك يعتبر الاستثناء الفرنسي والحضارة التي ترمز إليها بمثابة عمل
رائع مُعرّض للضياع، لكن فرنسا تتوفر على الضحية المناسبة التي تهدد الفلاحة
والثقافة الفرنسية.. إنها «العدو الأمريكي» .
ولقد جاءت أحداث ١١/٩/٢٠٠١م لتشكل صدمة كبيرة للأمريكيين، واختلف
المفكرون الفرنسيون في رؤيتهم لما حدث؛ إذ برزت تيارات معينة حاولت فَهْم ما
جرى:
التيار الأول: هو تيار نعت الإسلام صراحة بأنه ديانة عنيفة يشوبها التعصب
والتطرف، وهذا كان السبب في أحداث ١١ سبتمبر.
التيار الثاني: يرى من خلال تلك الأحداث ضرورة أن تعيد الولايات المتحدة
الأمريكية النظر في سياساتها الخارجية، وتراجع دورها في العالم.
التيار الثالث: هو الذي اكتفى أصحابه بمحاولة إعطاء تفسيرات اقتصادية أو
اجتماعية أو دينية لما وقع يوم «الثلاثاء الأسود» كما يسميه الأمريكيون.
التيار الرابع: هو الذي يمثله الموقف الفرنسي الرسمي. ثم هناك رأي
المسلمين في فرنسا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م.
فلنعالج اتجاهات المفكرين والمحللين الذين يمثلون هاته التيارات من خلال
التصريحات أو الاستجوابات التي أجرتها معهم الصحافة الفرنسية.
* التيار الأول: التحذير من الأصولية الإسلامية:
هذا التيار اهتم أساساً بالخطر الذي يمثله المد الإسلامي على الغرب، وفسر
أحداث الحادي عشر من سبتمبر على أنها تعبّر عن حالة من العداء والعنف الذي
يُكنّه المسلمون للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية، وأبرز من يمثل هذا التيار:
المستشرق الفرنسي «مكسيم رودنسون» صاحب كتاب: (الرأسمالية والإسلام) ،
ومن هذا التيار أيضاً عالم الاجتماع ومدير معهد الدراسات العليا بباريس «ألان
تورين» ، ثم الباحث المتخصص في الدراسات الاستراتيجية «إلكسندر ديلفال» .
يقول المستشرق الفرنسي «مكسيم رودنسون» في مجلة لوفيجارو (Le
FiGARO) : «إن العالم الإسلامي تؤسسه أفكار متنوعة ومتضاربة أحياناً،
وتخترقه تيارات جد مختلفة، إنه عالم يمتد من الفلبين إلى الأنتيل.. أما الغرب فلا
يمكن أن نجد له تعريفاً موحداً، رغم أنه يدافع الآن عن قيم مشتركة تحت تهديد
العمليات. إن ضرب المركز التجاري العالمي مؤشر قوي على تنامي العداء داخل
العالم العربي والإسلامي إزاء العالم الغربي، غير أن هاته الظاهرة ليست وليدة
اليوم أو الأمس، فمنذ البدايات الأولى للإسلام وخصوصاً بعد وفاة الرسول برزت
نقاشات حول إمكانية قتل المخالفين؛ إذ إنه تم فهم الإسلام منذ بدايات توسعه
بطريقة تختلف عما جاء به الرسول، فالأصولية ليست جديدة في الإسلام، بل هي
معطى وجودي في هذا الدين ... يجب الحذر من العمى التاريخي، فقد وجد دائماً
صراع الحضارات، وعلى ضوء الأحداث الأخيرة ليوم الحادي عشر من سبتمبر،
لا بد من إنصاف» صمويل هانتنغتون «الذي تنبأ منذ خمس سنوات بصراع
الحضارات، رغم الخاصية النسقية لنظريته، وهو على حقٍّ مقارنةً بـ» جيل
كبيل «الذي يعتقد انطلاقاً من نظرية متفائلة بأن النزعة الإسلامية ولّت. لنكف
عن طمأنة النفس عبر القول مسبقاً بغياب رد فعل الجماهير المسلمة ... أنا لستُ
من أولئك الذين يقللون من خطر الأصولية الإسلامية، ويمكن تفسير حدة العداء
اعتباراً لكون الإسلام يأتي من المصدر نفسه الذي جاءت منه النصرانية، فإنه
تطور في نوع من الانفصام في علاقته بالإشعاع الغربي ... إن جزءاً كبيراً من
التعصب الحالي يعبر عن محاولة يائسة للإجابة عن سؤال: لماذا تقدم الغرب
وتأخر المسلمون؟
أما عالم الاجتماع الفرنسي» ألان تورين «فيركز على مسألة تراجع الإسلام
السياسي كما يسميه؛ مما جعل الحركة الإسلامية تلتجئ إلى العنف. يعتبر
» تورين «أن الهجوم على المراكز المالية والعسكرية للقوة الأمريكية وتدميرها
لم يكن فقط انفجاراً للعنف وتعبيراً عن الحقد الذي شهدته بعض المدن العربية؛
بقدر ما كان إعلان حرب أعلنته بعض الشبكات الإسلامية في الوقت الذي يعرف
فيه الإسلام السياسي انحساراً وتراجعاً!!
لقد توسعت هذه الحركات الدينية في البداية كحملة وطنية، ثم بعد ذلك كحركة
سياسية تسعى إلى الاستيلاء على السلطة أكثر من الدعوة الدينية، لكن النجاح الذي
حققه اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية أضعف هذه الحركات، وانخرطت
البورجوازية العربية شيئاً فشيئاً في معسكر الاقتصاد المعَوْلم، بدون طبقة تساندها،
وبدون قادة للجماهير الغفيرة بالمدن.
وبفرضها الاستيلاء على السلطة في أنحاء عديدة من البلاد الإسلامية؛ لم
تملك الحركة الإسلامية إذاً خياراً آخر غير الانحلال الذاتي أو العنف، وربح العنف
ضد الخيار الأول، كما ربح ضد قوة الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنه يوحّد الذين
ينقسمون على أنفسهم.
فالعالم في رأي» ألان تورين «يمكن أن يصير» بلاد باسك «كبيرة؛
» لضعف الإسلام السياسي وبروز الإسلام المُحارب (يقصد الدعوة إلى الجهاد) ..
إن التغير الأساسي هو أن أعداء الولايات المتحدة الأمريكية أصبحوا أكثر
خفاء «. وآخر مثال لهذا التيار الأول هو الباحث المتخصص في الدراسات
الاستراتيجية» إلكسندر ديلفال « (DELVALL ALEXANDERE) ، والذي
كتب في جريدة لوفيجارو الفرنسية مقالاً تحت عنوان:» أسس الإرهاب
الإسلامي «، تحدث عما سماه» عنف ودموية الإسلام «، واعتبر الفكر
الإسلامي فكراً يميل إلى الإرهاب أكثر من ميله إلى أي شيء آخر ... وتصيّد
آياتٍ من القرآن الكريم تحث المسلمين على القتال في الحرب، لكنه فصلها
عن نسقها البياني، ولم يضعها في سياقها الحقيقي.
واعتبر الأحداث التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية إرهاباً حقيقياً
ضحيته الشعب الأمريكي والقيم الأمريكية في الحرية والمساواة والديمقراطية،
ومرتكبوه أصوليون متعطشون للدم والهيمنة عبر العنف.
* التيار الثاني: ضرورة مراجعة أمريكا لدورها في العالم:
مفكرو هذا التيار ركّزوا على مظهر مهم من مظاهر تداعيات الثلاثاء الأسود،
ألا وهو: ضرورة إعادة الولايات المتحدة الأمريكية النظر في سياستها الخارجية
إزاء عدد من القضايا الدولية، وكيفية معالجتها لبؤر التوتر في العالم خاصة مشكلة
الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تكيل الولايات المتحدة بمكيالين تجاه
الفلسطينيين، وأبرز من نادوا بهذه الفكرة: المفكر الفرنسي» برتراند بادي «
و» ألان جوكس «مدير الدراسات، ومختص في قضايا الاستراتيجيات والقارة
الأمريكية. كتب المفكر» برتراند بادي «في جريدة ليبراسيون يقول:» يلزم
الانطلاق من شحنة العنف القوية التي تميز العالم اليوم.. إن العنف يُولّد
العنف ... ثمة أناس يعانون منذ ولادتهم من عنف يومي، ويشعرون أن هذا العنف
الذي أخذ يكتسح المناطق التي كانت محمية وهي المناطق التي يعتبرونها عن حق
أو باطل والذي كان يصيب بعضاً ويُعفى منه بعضها الآخر؛ يتجه نحو الانتشار.
إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر موجهة ضد القوة، فهي ليست عملاً
إرهابياً ضد الديمقراطية، وليست عملاً إرهابياً ضد الغرب أو المسيحية، إنه فعل
موجه ضد قوة معتبرة، عن حق أو عن باطل، وجد متقدمة أو بُولغ في تقديرها
مقارنة بقدراتها الحقيقية.
إن القوة العظمى لأمريكا اهتمت بتعبئة الموارد التكنولوجية والاقتصادية
والمادية والعسكرية في الوقت الذي لم تبعأ فيه بالجانب الأساسي والأهم، وهو
قدرتها على استعمال ما تراكم لديها من تلك الموارد، خصوصاً في مواجهة بعض
الرهانات والتحديات ... لقد رأينا كيف أصيبت الولايات المتحدة الأمريكية بالرعب
في الصومال والعراق وليبيريا ويوغسلافيا إزاء تمظهرات العنف المنتشر:
عنف الفقراء؛ وبالتالي فإن هاته القوة تبدو كما هي هشة!
وهي قوة مختلة أيضاً؛ على اعتبار أن فكرة النظام الدولي الجديد تُحمّل
الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية إضافية، تتمثل في تنظيم النظام الجديد، ومن
ثم فإن هذه القوة التي ربحت الحرب الباردة قد طرأ تغيُّر على دورها، حيث انتقلت
من دور المصارع إلى دور المُنظم (Régulérateur) ؛ بيد أن الولايات المتحدة
لم تخفق فقط في الدور الجديد الذي أسند إليها، بل انتقلت في أغلب الصراعات من
دور الحَكَم إلى وضعية طرف في الصراع. وأفضى ذلك على مدى عشر سنوات
خلت إلى تراكم كره رهيب نتيجة إحساس الأطراف المتصارعة بعدم حيادها! وفي
المستقبل فإن الولايات المتحدة الأمريكية مدعوة إلى إعادة التفكير بشكل مضاعف
في دورها من أجل مواجهة هذه الأشكال الجديدة للصراع باعتبارها مصارعاً، ومن
ثم راكمت على عاتقها كتلة من العنف لم تُحسن ربما تقدير حجمها، وهي مدعوة
أيضاً إلى حصر حدود قوة أضحت من الآن نسبية، وهذا لا يؤدي بالضرورة إلى
الانعزالية، بل إلى التحلي بالتواضع، ومراجعة دورها في الصراعات الدولية.
أما «ألآن جوكس» فقد كتب في جريدة لوموند ما يلي: «يمكن طرح
السؤال: هل هجمات الحادي عشر من سبتمبر يمكنها أن تسهم في جعل الولايات
المتحدة الأمريكية تعيد النظر في سياستها؟
الجواب سيكون بالإيجاب؛ إذ ينبغي على الأمريكيين أن يعوا ضرورة
مراجعة البناء الاستراتيجي الذي يسندون إليه سياستهم مراجعة عميقة، لكن المشكل
هو أنهم ليسوا مبرمجين لبسط المعضلة الاجتماعية على المستوى العالمي، بل إنهم
مبرمجون على إنكارها من أجل اعتبار الإرهاب شراً، وأن جميع أشكال الإرهاب
وجوه متعددة لإرهاب واحد ... إن الأهم هو قمع المسؤولين عن الإرهاب ثم المرور
بسرعة إلى معالجة الأسباب، وإذا لم نقم بذلك، فلن نتمكن من خفض عدد
المتطوعين للعمليات الانتحارية؟
سيكون من الخطأ أن نعتبر أنفسنا جميعاً أمريكيين ... إننا أوروبيون يقول
جوكس وقد تأثرنا بما حدث بالرغم من أننا لم نتأثر للأسباب نفسها، فوحدة الشعور
تعود للمظهر الفاشي والدموي الذي طبع الحادث؛ يجب علينا كذلك أن نحافظ على
حرارة الشعور، ونحتفظ بهدوء الأعصاب.
إن المثير للانتباه هو المظهر الانتحاري والدموي الذي يطبع النظام الإرهابي
الجديد، حيث أصبح الإنسان فيه (الضحية) عبارة عن أشياء ثابتة، بينما
الفاعلون هم الانتحاريون لذلك، فرجال القاعدة الانتحاريون يشكّلون النخبة، ولهم
طموح جماعي ما دام المنتحرون أنفسهم لا يمكنهم التمتع بنتائج هذا الطموح.
ثم إن الطموح الجماعي شكل من أشكال السيطرة على المسلمين، فإذا تمكنوا
من إحكام قبضتهم على العالم الإسلامي، فسيمكنهم إذن تسليطه ضد الحضارة
الغربية.
إذن هناك منطق استراتيجي؛ يمكننا القول إنهم فاشيون؛ لأنهم يؤمنون
بالوصول إلى الحكم عبر المرور فوق أكوام من القتلى ومنطق الإرهاب؛ بينما نحن
لنا تقليد يقضي بالوصول إلى الحكم انطلاقاً من قناعة المواطنين من خلال
الانتخابات.. إن ما نواجهه اليوم هو تحدٍّ كبير يهدد مستقبل الثقافة الديمقراطية
الغربية» .
* التيار الثالث: محاولة تفسير ما حدث:
هناك من أصحاب هذا التيار أو الاتجاه الثالث من يرى ضرورة الاجتهاد
لتفادي التأويل السيئ للإسلام. وهناك من دعا إلى وحدة للديانات الكبرى،
وآخرون عالجوا الأثر التراجيدي للعولمة وقالوا بأن العمليات العسكرية وحدها لن
تقضي على الإرهاب. وهناك من مفكري هذا الاتجاه من فسّر أحداث الحادي عشر
من سبتمبر بالصراع بين الشمال والجنوب والحرمان السياسي والثقافي الذي يعاني
منه الجنوب.
في حوار مع «برونو إتيان» المختص في علم اجتماع الأديان ومدير
مرصد الديانات بفرنسا أدلى به لمجلة «ليكسبريس» يقول: «ثمة إمكانيات
متباينة لتأويل القرآن. مثلاً؛ يتم الحديث اليوم عن العمليات الانتحارية، بينما
هناك حديث للرسول يقول إنه امتنع عن الصلاة على منتحر، ويعتبر القرآن
بوضوح أن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً.. أما شروط الجهاد والحرب
والقصاص فقد حددها أساساً خلال ١٤ قرناً في إطار تأويلات مختلفة» .
ومن ثَمَّ تمّ تأميم الخطاب الإسلامي الذي حل محل خطاب البعث أي اليسار
العربي الذي يتراجع شيئاً فشيئاً، وهناك تفسير آخر يتجلى في إخفاق الإسلام الذي
لم يفلح في إحداث مدينة فاضلة بالحداثة، فمن الضروري أن ينكب المسلمون
أنفسهم على القيام بالمجهود الذي سبقهم إليه المسيحيون واليهود منذ عقود؛ أي
التفكير في الشروط الموضوعية لإنتاج خطاباتهم الدينية وتاريخهم الديني، وذلك
لتفادي التأويل الخطر للإسلام «.
في كتابه (عنق العالم) حاول الفيلسوف الفرنسي» جان بودريار «
(BAUDRILLARD JEAN) أن يبحث عن أسباب العنف المنتشر في العالم
المعاصر ... يقول إن البرجين التوأمين (TOWRES TWIN) قد تعبا من أن
يكونا رمزاً اقتصادياً ثقيل الحمل، فانتحرا! ... وهذه إشارة لطيفة لها أكثر من
دلالة.
يتفق الفيلسوف» جان بودريار «مع الفيلسوف» إدكار موران «
(MORIN EDGAR) على أنه لا يمكن اختزال أحداث الحادي عشر من
سبتمبر في البُعد المالي فقط.. فهذه الأحداث دعمت المراقبة الأمنية أكثر.. وهنا
يكمن النصر الحقيقي للإرهاب بأن ينشر الرعب.. إن الإرهاب معاصر لعولمة
التقنيات والمعلومات. والتدفق المتزايد للمال وانحسار دور القيم يشكلان السمة
البارزة في عالم تروج فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان تماماً كأي منتوج إعلامي.
كما أنهما يعتقدان كون الإيمان بالتقدم انطفأت جذوته خلال القرن العشرين.. إن
البنية التحتية لمجتمع عالمي مهيأة ومعدة بفضل وسائل الاتصال والتبادل الأكثر
تطوراً.. ولكن حالة الذل والهوان التي يعيش فيها جزء كبير من سكان العالم تُعتبر
سرطاناً حقيقياً، كحالة الفلسطينيين، وكره الولايات المتحدة الأمريكية والغرب
ينتشر في العالم العربي الإسلامي انتشار النار في الهشيم، ينبغي أن تتم القطيعة مع
مصطلح التنمية، والجزم بأن الغرب يحمل الهمّ الكوني للإنسانية على عاتقه.
ويضيف الفيلسوفان على ذلك نداءهما إلى تكوين وحدة للديانات الكبرى انطلاقا من
نقطها المشتركة؛ مثل الكونية، والتضامن، والإحسان.
أما الخبير في الدراسات الاستراتجية» جون بيرغالو فيرى «أن ما حصل
هو ثأر الدول الفقيرة من الدولة الغنية، يقول هذا الخبير:» لقد أظهرت الولايات
المتحدة الأمريكية القوة العالمية الأولى اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً هشاشتها القصوى
في مواجهة التهديد، وإذا ما اعتبرنا القوة الأمريكية؛ فإن ما حصل يشكّل بدون
شك إخفاقاً ... إن أمريكا لا يمكنها في الحقيقة أن تصنع شيئاً ضد سلطة الإنسان
وإصراره، وبدرجة أقل الشيء نفسه نلاحظه في فلسطين، فلم يتمكن الإسرائيليون
من إيقاف الفلسطينيين، ولنتصور كم من الصعب تسوية هذا المشكل داخل
ديمقراطية كبيرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
بالتأكيد؛ لقد وضعت الولايات المتحدة الأمريكية وسائل ضخمة لتطوير
علومها وتجارتها، وأنشؤوا صناعة عسكرية ضخمة، وبالنتيجة أعطوا تسويغاً لنمو
قوتهم العسكرية والعلمية بوجود «الدول المارقة» (voyous Etat) ؛ مثل
كوريا الجنوبية، والتي لا نرى الأسباب التي تدعوها للهجوم على الولايات المتحدة
الأمريكية. لقد خصصت (و. م. أ) مصادر مالية ضخمة لقواتها العسكرية،
وتخلت عن قضايا أخرى، وما حصل يمكن النظر إليه بأنه ثأر أو رد فعل مشروع
من الدول الفقيرة ضد الدول الغنية «.
* التيار الرابع: الموقف الرسمي والتيار التغريبي:
بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ صرّح الرئيس الفرنسي» جاك
شيراك «بما مفاده:» لا يجب أن تقتصر الحرب على الجانب العسكري، وأيضاً
ينبغي معالجة مشكلة الإرهاب على المدى الطويل «.
إن الموقف الفرنسي منذ هجمات الثلاثاء ١١ سبتمبر؛ كان منذ الأساس
مركزاً على ضرورة الابتعاد عن أي خلط بين الإرهاب والعرب والمسلمين؛ إذ هو
تصرف خاطئ وخطر! غير أن فرنسا أوضحت منذ البداية أن هذا الوضع سيتغير
إذا ما ظهرت براهين دامغة تثير العلاقة بين طرف عربي والأعمال الإرهابية ...
وفرنسا ترى الرد الأمريكي على أفغانستان من جرّاء أحداث الحادي عشر من
سبتمبر رداً شرعياً ومسوَّغاً؛ لأنه» لا يمكن القول بمحاربة الإرهاب ثم الامتناع
عن توفير الوسائل المادية لذلك «.
ولقد أشار الكاتب محيي الدين عميمور في عدد ٧/١٠/٢٠٠١م في جريدة
» الشرق الأوسط «إلى مسألة الإعلام الفرنسي والتيار التغريبي الذي يخترقه،
مثلاً يقول الكاتب محي الدين:» حين يشير الإعلام الفرنسي إلى عدد من الذين
تم القبض عليهم في إطار بعض الشبكات الإجرامية بأنهم جزائريون لا يذكر
جنسيتهم الفرنسية، في حين يفعل العكس مع أشخاص مرموقين عالمياً كلاعب الكرة
الشهير زيدان؛ حيث يُنسى أنه جزائري الأصل أو يكتفي بالإشارة إلى أنه من أصل
قبائلي.
ولقد وجد الرئيس الفرنسي فرصة لتمرير مشروعه الرامي إلى تكريم
(الحركيين) (Harkis Les) ، وهم الجزائريون الذين جندتهم فرنسا لمحاربة
(الإرهابيين) ؛ أي الذين عانت منهم الجزائر، ثم كرمهم شيراك تحت أضواء
إعلامية جعلت كثيرين يتصورون بأن التكريم لا يقتصر على أعمال الماضي البعيد،
بل قد يمتد ليشمل أعمال ماض قريب؛ أي أن التزامها حاضر يمتد إلى مستقبل
بعيد.
وبقي أن ندرك أن مجرد غضبة محتمشة فرضت على رئيس وزراء إيطاليا
أن يتراجع عن تعبيراته المتسرعة، وعلى رئيس الوزراء الفرنسي وقائد الحزب
الاشتراكي الحليف التقليدي لإسرائيل أن يزور مسجداً إسلامياً لكسب ود الجالية
الإسلامية، وهي التي تمثل الديانة الثانية في فرنسا؛ بغضّ النظر عن أن تمثيل
المسلمين هزيل بكل المقاييس «.
* استقراء للرأي:
أنجزت مؤسسة فرنسية لفائدة جرائد لوموند، ولوبوان، وأوروبا؛ استقراء
للرأي في عينة من سكان فرنسا (أنجز ما بين ٢٢ و ٢٨/٩/٢٠٠١م) حول
الأحداث التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية يوم ١١ سبتمبر، والتي وجهت
فيها أصابع الاتهام إلى جماعات إسلامية.
ويمكن الاستنتاج من خلال هذا الاستقراء أن المسلمين بفرنسا يبدون أكثر
تمسكاً بهويتهم عبر ممارسة الشعائر، يتجلى ذلك في الحرص على أداء الصلوات
الخمس، والصوم، والتطلع إلى الحج؛ على الرغم من ذلك أنهم مندمجون في
المجتمع الفرنسي ويحترمون قيمه العلمانية.
وبخصوص العينة المسلمة؛ فإن الإسلام يُدين هذا النوع من العمليات،
ويذهب ٩٠% منهم إلى أن منفذي العمليات لا يمكن أن يدّعوا الانتماء إلى الإسلام؛
لأن الدين الإسلامي يدعو إلى السلم والوسطية، فيما اعتبر ٦٨% من العينة أن
السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط قد تكون دفعت الإسلاميين إلى التطرف.
ويشير استقراء الرأي إلى تراجع النظرة السلبية إلى الإسلام لدى العينة الثانية
التي تشمل السكان الفرنسين؛ حيث إن ٢٢% منهم يربطون بين الإسلام والتعصب،
مقابل ٣٤% في استقراء سابق للرأي سنة ١٩٩٤م.
غير أن الباحث الفرنسي» فرانك فريكوزي «الباحث في سوسيولوجيا
الإسلام بالمركز الوطني للبحث العلمي؛ يلاحظ أنه رغم هذه المواقف الإيجابية ما
زال ثمّة غموض يكتنف صورة الإسلام في فرنسا تشير إليه مقولات من قبيل
» رفض القيم الغربية «و» صراع الحضارات «اللتين تترددان كثيراً في
الآونة الأخيرة.
* خاتمة:
إذا كان السياسيون الفرنسيون، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١م؛
قد ركزوا على مباحث: النظرة إلى العالم، والأمن الداخلي، والعلاقة مع الإسلام،
فإن المفكرين الفرنسيين انصب اهتمامهم أكثر على محاولة إعطاء تفسيرات
منطقية لما وقع، مثل الأثر التراجيدي للعولمة، أو الصراع الحضاري بين دول
الشمال ودول الجنوب؛ أي بين الدول الفقيرة والدول الغنية، وهناك من فسَّر ما
حدث بتنامي الحرمان السياسي والأيديولوجي والثقافي أكثر من الحرمان
الاقتصادي.
لكن على الرغم من ذلك هناك من الباحثين والمفكرين الفرنسيين من اتهم
الإسلام بالتطرف والعنف والتعطش إلى الدم، وإن كان هؤلاء قلة قليلة بالمقارنة مع
باقي المفكرين الذين ذهب بعضهم إلى حد المطالبة بأن تُغَيِّر الولايات المتحدة
الأمريكية سياستها إزاء العالم؛ خاصة تجاه قضية الشرق الأوسط.
إذن؛ اختلفت الاتجاهات الفكرية إزاء ما حدث يوم الثلاثاء ١١/٩/٢٠٠١م
في عقر الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها جميعاً اعتبرت ما حدث إرهاباً فظيعاً،
على الجميع أن يتضامن مع الأمريكيين من جراء وقائع ذلك اليوم الذي سيظل
محفوراً في ذاكرتهم إلى الأبد.
ويحق لنا أن نتساءل عن مصير كثير من المفهومات والمبادئ الإنسانية بعد
أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وهذا ما تساءل عنه الفيلسوف الفرنسي الكبير
» جاك ديريدا « (DERRIDA JACQUE) .. انطلاقاً من مسألة السيادة
والدور الحالي للولايات المتحدة والقلاقل والتغيرات الناتجة عن العولمة، تساءل
» ديريدا «في كتابه الجديد عن مصير مفهومات» المنطق «و» الديمقراطية «
وأيضاً» السياسة «و» الحرب «و» الإرهاب «، وخاصة بعد أن فقد شبح
سيادة الدولة (ératique Souveraineté La) مصداقيته!
* المراجع:
- مجلة ليكسبريس L'Exspress.
- مجلة لوفيجارو Le Figaro.
- جريدة لوموند Le Monde.
- جريدة ليبيراسيون LiBeration.
(*) كاتب صحفي مغربي، ماجستير في الاقتصاد.