للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[لماذا تحارب الشريعة الإسلامية؟]

د. محمد يحيى

تواترت في السنوات الأخيرة الهجمات من مصادر متنوعة وبأساليب وحجج

عديدة على الشريعة الإسلامية؛ بحيث أصبح لا يمر يوم دون أن نقرأ في بلد عربي

أو آخر مقالة أو نسمع حديثاً أو نشاهد إعلاناً عن كتاب يهاجم أو ينتقد الشريعة أو

يطالب بتعديلٍ أو محوٍ أو إلغاء فيها. وليست هذه مبالغة. والمسوِّغات التي تقدم

عديدة.

البعض يقول إن الشريعة الإسلامية أو بعض أحكامها كانت السبب وراء ما

يسمى كذباً بالتطرف أو الإرهاب الإسلامي أو الأصولية أو السلفية أو ما شابه ذلك

من أسماء. وهؤلاء يبنون على هذه المقدمة الفاسدة نتيجة أكثر فساداً، وهي

ضرورة تعديل وتغيير وإلغاء هذه الأحكام المزعوم أنها تروِّج للتطرف والإرهاب،

وهي أحكام لا يحددها إلا هؤلاء، ويدرجون تحتها عادة كل ما لا يروق لتوجههم

العلماني.

والبعض يهاجم الشريعة من منطلقات علمانية صريحة معلنة، لكن هؤلاء قلة

ولا توجد مشكلة معهم؛ لأنهم يعلنون جهراً وبلا خداع مفارقتهم للصف الإسلامي،

لكن الغالبية من ذلك التيار تتستر وراء شعارات براقة وجذابة؛ وذات أصل في

الوسط الفكري والشرعي الإسلامي كي تتوسل بها لتحقيق أغراضها.

وهكذا أصبح مألوفاً في السنوات الأخيرة أن نسمع ونرى طوفاناً من الدعوات

حول ضرورة الاجتهاد في الشريعة لمواكبة العصر ومتغيراته، وضرورة التحديث

والمعاصرة. ويتبحر البعض في هذه الدعاوى ليواجهنا طوفان آخر حول تطوير

الشريعة وتعديلها تحقيقاً لمقاصدها، وحول تغليب الأصول العامة على الفرعية،

والأحكام الشاملة على الجزئية، وحول إنزال الشرع على الواقع (وليس تغيير

الواقع بالشرع!) ، وحول فهم الشريعة وتفسيرها انطلاقاً من العصر، وليس من

فهم أهل العصور الغابرة وتفسيرهم، وحول الاستنارة والعقلانية (المبهمة التعريف)

في التعامل مع أحكام الشريعة.

ومؤخراً أخذنا نسمع عن الطابع «المدني» وحتى «العلماني»

و «الوضعي» للشريعة، وأنها لا تفترق عن أي نظام قانوني وضعي من حيث

أنها تترك أوسع المساحات للمشرعين كي ينطلقوا فيها لوضع ما يشاؤون من

تقنينات غير مستدلين إلا بأحكام العقل العام والمصلحة العامة كما تتحدد في كل عصر

أو في كل مكان، أو وفق كل ظروف اجتماعية وثقافية على حدة.

وكل من هذه الدعاوى يحتاج إلى المساحة الواسعة لتفنيده وتوضيح أبعاده،

لكن ما يجمع ويوحد بينها هو «مسكوت عنه» (حسب التعبيرات العلمانية

المنتشرة) عامٌّ يتعلق بالهدف الأشمل والسياق الأوسع لها. إن القضية ببساطة

والتي قلَّ أن ينتبه إليها أحد (على الأقل خشية التعرض للاتهام بأنه مؤمن

«بنظرية المؤامرة» ، وهي تهمة أصبحت تحمل معنى الجهل أو الغباء أو

الاستسهال الفكري) هي أن اليهود (وسمِّهم ما شئت باليهودية العالمية، أو

الصهيونية الدولية، أو المحافل والمنظمات السرية والعلنية التي تلف لفَّهم) لا

يريدون أن توجد في العالم أي شريعة أو نظام قانوني يمكن أن يزعم أنه إلهي

الوضع سوى شريعتهم.

هذه هي الحقيقة بلا مراء ولا لف أو دوران، وبكل تجرد.

إن أهم ما يقيم عليه اليهود شتى مزاعمهم بدءاً من أنهم شعب الله المختار،

إلى أحقيتهم بأرض فلسطين، إلى تميزهم عن سائر العالمين هو أنهم أصحاب شرع

أو قانون أنزله الله عليهم مكتوباً في الألواح من السماء مباشرة، وقام أحبارهم

بتفسيره ووضع أركانه وتفصيله.

إنهم يدَّعون تميزهم عن المسيحية بحجة عدم وجود شريعة فيها؛ بل إن

حركات «الإصلاح الديني» في المسيحية (الغربية بالذات) التي توالت منذ

القرن السادس عشر وحتى الآن، وكان في القرون الأخيرة للتيارات العلمانية

والماسونية التي يحركها اليهود الدور الأساس والفاعل فيها أسهمت إلى حد حاسم

وكبير في الإطاحة بما تبقى في المسيحية من بعض الرسوم والأحكام المحدودة جداً،

والتي كان يمكن وصفها بالشريعة.

ومن هنا لا يعود أمام اليهود من منافس في زعم الوضع الإلهي للشريعة سوى

الإسلام، ولهذا فليس من الغريب أن تتكاتف في الفترة الأخيرة ومع الهجمة العاتية

على الإسلام من جانب الغرب والصهيونية دعوات هدم الشريعة وتعطيلها، وبث

البلبلة والشكوك حولها. وليس من الغريب كذلك بل من الطبيعي والمنطقي أن تتخذ

هذه العملية أساليب الخداع والمواربة والتمويه أدوات أساسية لها، وأن تجتذب

الكثير من العملاء إلى الجهلة المخدوعين.

ليس هناك أفضل لهدم الشريعة من استخدام مصطلحات لها أصل في الشريعة

(الاجتهاد، المقاصد الشرعية، الأولويات الشرعية، الأصول والفروع، الأصل

في الأشياء الإباحة، إلخ) ثم تفريغ هذه المصطلحات من معانيها ومضامينها،

وفصلها عن سياقها وضوابطها الأصولية (شريطة أن يحدث ذلك في هدوء! وبلا

تعرض للنقد) ثم تحويلها إلى مجرد مصطلحات فكرية عامة مجردة، وأخيراً إعادة

ملئها بمضامين ومفاهيم علمانية متغربة وضعية، وإطلاقها وسط الفكر الإسلامي

لتعمل عملها في الهدم والزعزعة وهي تلبس الرداء الإسلامي القديم، وتحتفظ

بأصداء معانيها في الفقه الإسلامي بينما هي في الباطن وحسب استخدام مستعمليها

وفهمهم علمانية الجوهر.

ومع اطِّراد هذه العملية تتحول الشريعة الإسلامية (وربما بدون أن يشعر أحد)

إلى كَمٍّ من الأحكام المقلقلة والمشكوك فيها؛ بحيث يسهل التخلص منها، كما

يترسخ الفهم لها باعتبارها نظاماً وضعياً (أو «مدنياً» كما يسمونه على سبيل

التخفيف!) يتبدل ويتغير ويتكيف ويتمشى مع شتى الأنظمة ولا سيما العلمانية

الغربية بقيمها. ولن يعود من الممكن الرجوع إلى الشريعة الأصلية؛ لأن موجة

التحطيم والهدم (وكذلك تحت المسميات الجذابة نفسها) تكون قد امتدت إلى كبار

الفقهاء (هم رجال ونحن رجال!) وإلى الأصول الشرعية (الدعوة إلى أنواع من

«الفقه الجديد» ) ، وهذا هو المخطط أو الهدف اليهودي لهدم الشريعة الإسلامية

حتى لا يتبقى في العالم نظام يستطيع الزعم بأنه إلهي الوضع سوى شريعتهم التي

هي في حقيقتها أشد الأنظمة وأكثرها وضعاً وتحريفاً في التاريخ.

إن هذا التصور قد يبدو مغالياً في التخوف ومصادراً لحركة التفكير والاجتهاد

الفقهي الطبيعي التي يجب أن تحدث باستمرار لتجديد الفقه، ولكن الواقع المعاش

يدل على خطورة ما يحدث عندما نجد على سبيل المثال أن ممارسة «الاجتهاد»

أصبحت تسير في اتجاه واحد فقط هو لَيُّ عنق الشريعة الإسلامية لتصبح متمشية

مع المذاهب الوضعية العلمانية كما يتجلى في العديد من قوانين الأحوال الشخصية

التي وضعت مؤخراً (أو ما تزال تنتظر) في بعض البلدان العربية، وعندما نجد

أن غالبية الدعاة والممارسين الجدد لما يسمونه بالاجتهاد هم من العلمانيين الأقحاح

على امتداد الساحة العربية ممن لم يعرف عنهم اشتغال بالفقه الإسلامي فضلاً على

أن يحملوا هَمَّ هذا الدين.

إن القضية تتطلب وعياً ومتابعة بحقيقة ما يجري بتجاوز الظواهر ليصل إلى

الدوافع والمضامين الكامنة وراءها. ولا أشك في أن دراسة عملية علمنة الشريعة

وهز ثوابتها وخلخلة مفاهيمها ستكشف عن أن الهدف الصهيوني في الإبقاء على

شريعة واحدة فقط في العالم يزعم لها الأصل الإلهي هو الهدف الأصيل والدافع

الأول وراء هذه التحركات والدعوات.