للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أزمة الخليج الرابعة هل تعيد الصراع بين الفرس والروم..؟!]

د. عبد العزيز كامل

كثيراً ما تختلط الأمور، وتختلف التفاسير، وتتعدد الاحتمالات في قضية من قضايا الأحداث المعاصرة، حتى يذهب الناس بسبب ذلك إلى تصور «سيناريوهات» متناقضة وضرب تخمينات متعارضة، تحت التأثر بتحليلات مرتجلة أو تسريبات متعمدة، وعند ذلك؛ ربما يكون الحل للوصول إلى رؤية أقرب للصواب، أن يلتجئ الباحثون إلى أمهات الحقيقة قبل بناتها، وإلى أصول الطريق بدل بُنَيَّانها، وإلى الثوابت والأصول قبل المتغيرات والتفريعات، حتى لا نتشعب في شؤون القضية أو نتيه في شجونها.

وقد مرت في العقود القليلة الماضية قضايا وأحداث كثيرة من هذا القبيل، تضاربت آراء الناس حولها من عامة وخاصة، حتى ضربت الأحداث الجميع بما كان الأكثرون لا يتوقعون ولا يصدقون، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ ما كان في حرب الخليج الأولى بعد الثورة الإيرانية، وما كان في حرب أفغانستان الأولى بعد الانسحاب الروسي، وما كان في حرب الخليج الثانية بعد الغزو العراقي للكويت، وما كان في حرب أفغانستان الثانية بعد أحداث سبتمبر، وما كان في حرب الخليج الثالثة، بعد الإرجاف بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل؛ فقد كان الناس في كل مرة يتساءلون بقلق: أتقع الحرب أم لا تقع ... ؟ أتثبت الأطراف على مواقفها أم تتراجع ... ؟ أيحدث الدمار والاحتلال، أم يتغلب العقل ويسود السلام ... ؟

واليوم تتجدد ظروف مشابهة، في أحوال مقلقة، تتعلق بكل من القضية الفلسطينية بعد فوز حماس، والقضية العراقية بعد بشائر الهزيمة الأمريكية، والمسألة الإيرانية بسبب ما استجد في ملفاتها النووية، وقبل ذلك كان الانشغال بالقضية السورية بعد اغتيال الحريري، لكن الشاغل الأكبر، والتساؤل الأخطر، تفرضه تداعيات الأزمة الإيرانية؛ لأنها باتت تمثل خطراً يفوق ما سبقه من الأخطار، أياً كانت الاحتمالات في الحرب أو تأجيلها أو حتى في إلغائها.

والظاهر أن الأزمة ـ ولا أقول الحرب ـ سيطول الجدال حولها، ولهذا فلا بأس من إطالة النَّفَس حول الغوص في خلفياتها؛ لمحاولة استجلاء مستجداتها وتداعياتها؛ فالقضية ليست تصعيداً ثنائياً بين طرفين يمكن أن تقتصر عليهما الأضرار والأوضار، ولكنها قضية ذات مخارج ومداخل إلى غيرها من القضايا والساحات.

ولا بد من العودة ـ كما سبقت الإشارة ـ إلى أصول المواقف وثوابتها لدى الأطراف، مع الإلمام بخلفياتها العقدية أو العنصرية والمصلحية، والإلماح إلى تطوراتها التاريخية.

والأزمة الإيرانية الحالية، لها أطراف متعددة؛ فالطرف الرئيسي فيها ـ بعد إيران ـ هو الولايات المتحدة الأمريكية، والطرف الثالث هم العرب، وبخاصة دول الجوار الإيراني، والطرف الرابع هو دولة اليهود (إسرائيل) ، والطرف الخامس هو ما يسمى بـ (المجتمع الدولي) ، وأبرز أعضائه فيما يتعلق بتلك الأزمة هو أوروبا وروسيا والصين.

ü نظرة في الخريطة الاعتقادية والعنصرية:

بالعودة إلى ثوابت المواقف في ضوء ذلك سنراها على ما يلي:

١ ـ هناك نِدِّيَّة تقليدية بين كل من الغرب النصراني والطرف الإيراني، وهذه الندية الضدية تعد امتداداً لما كان في سالف الزمان من صراع اعتقادي وعنصري بين الفرس والروم.

٢ ـ أن هذا الصراع بين الطرفين؛ كانت ساحته التقليدية عبر التاريخ، تمتد على طول المسافة بينهما من أقصى شرق العراق، إلى أقصى غرب الشام، وما يحاذيهما من أراضي شمال الجزيزة العربية، إضافة إلى ضفافها الشرقية.

٣ ـ أن الطرفين المتصارعين على الرغم مما بينهما من بغضاء وعداء على مر التاريخ، كانا ـ ولا يزالان ـ يشتركان في النظر إلى العرب نظرة دونية، ملؤها الاحتقار، وهاجسها السيطرة والاحتكار، وفق مصالح الطرفين فقط.

٤ ـ أن هذه الكراهية المشتركة والممتدة عبر التاريخ للعرب، كانت تمزج دائماً بين الحقد العنصري، والبغض العقائدي. فالفرس كانوا قبل الإسلام يزدرون العرب عنصرياً، وبعد الإسلام كانوا ـ إلا من طهره الله بالدين الصحيح ـ يتعالون على العرب دينياً ومذهبياً، ويحاولون أن يجعلوا من أنفسهم حماة دين الإسلام الذي اختصروه كله في محبة أهل البيت بزعمهم. وأما النصارى الغربيون، فقد كانوا قبل الإسلام وبعده يجمعون في موقفهم من العرب بين بغض عنصري وحضاري وبُعد ديني.

٥ ـ وأما الطرف الرابع، وهم اليهود، فلا يشك أحد في أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، سواء كانوا عرباً أو عجماً؛ غير أن بغضهم للعرب أشد؛ لأنهم يبغضونهم دينياً كمسلمين، وعنصرياً كعرب، وموقف هؤلاء المغضوب عليهم من النصارى الضالين معلوم، فهم ـ دائماً ـ يتخذون منهم حميراً تُركب للوصول إلى مآربهم، وموقف اليهود من الفرس قبل الإسلام كان فيه تقارب بسبب إعادة الفرس ليهود السبي البابلي إلى فلسطين، وأما بعد الإسلام، فإن بغض العروبة كعنصر، والسنَّة كمذهب، كان عاملاً مشتركاً بين اليهود وجمهور من الفرس المتشيعين، وهذه هي الأرضية التي بنى عليها عبد الله ابن سبأ اليهودي دعائم المذهب الشيعي، حيث حملها فئام من الفرس بحماس، وتصدروا لها بإصرار؛ لأنها ـ باختصار ـ تقوم على بغض يهودي فارسي للعرب، وكل ما يتفرع عن ذلك مجرد تفاصيل.

٦ ـ وأما ما يسمى بـ «المجتمع الدولي» بدوله الكبرى، فإن الكِِبْر يجمعها، والمصالح تفرقها، وهي وإن تلاقت مصالحها مع العرب حيناً، فإن غلبة العداوة تتغلب عليها أحياناً، ولا نستثني من ذلك الروس أو الصينيين، فلم يحدث أن أنصفوا المسلمين عموماً والعرب خصوصاً في أية قضية من قضاياهم المعاصرة، مع كامل قدرتهم على ذلك، لا بل إن سياسة الروس على وجه الخصوص، كانت دائماً الطعن في الظهر، مع التبسم في الوجه.

وخلاصة تلك المواقف، هي أن أهل السنة بعامة، والعرب منهم خاصة، هم مجمع عداء الجميع، وموضع مكر الجميع، في الماضي والحاضر والمستقبل، وعليهم جميعاً أن يعوا درس التاريخ في ذلك.

ü بين الفرس والروم ... إطلالة تاريخية ضرورية:

ربما يحتاج المقام في هذا المقال إلى إعادة وصفي (الفرس) و (الروم) للتعبير بهما عن الإيرانيين وأشباههم من جهة، وعن الأوروبيين والأمريكيين من جهة أخرى، ولا غضاضة عندنا ولا عند الأطراف المعنية في ذلك، فالإيرانيون لا يزالون ينتسبون إلى الفرس عنصرياً، وكان الفرس على مرّ الزمان فيهم مؤمنون أبرار، وفيهم منافقون، وفجار، وكفار، والإيرانيون اليوم يتيهون فخراً بحضارة فارس، ولغتها، ومقدساتها. وقد كانت إيران حتى مجيء الشاه رضا بهلوي تسمى (بلاد فارس) ، ولا يزال العالم يستغرب من إصرار إيران على تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي.

والعرب قبل الإسلام، كانوا يبادلون الروم الشعور بالتعالي العنصري، فقد كانوا على ذلتهم وقلتهم يستنكفون أن يصاهروا العجم، حتى ولو كان العرب أدنى منهم وتحت هيمنتهم، ولما طلب (كسرى إبرويز) إحدى النساء من أسرة (ابن المنذر) ليتزوجها، رفض النعمان تزويجها لأعجمي، فاستعظم ذلك من أحد عماله، وعزم على الفتك بالنعمان، فتحالفت القبائل العربية مع المناذرة ضد الفرس، ووقعت معركة (ذي قار) التي انتصر فيها العرب على الفرس لأول مرة في التاريخ.

وقد درجت الشعوب على الاعتزاز بأصولها العنصرية مهما اختلفت أطوارها الاعتقادية، فالفرس سيظلون فرساً، والعرب سيبقون عرباً، والروم هم الروم، إلا أن الإسلام أراد قطع دابر التدابر والاختلاف والتفاضل بشأن تلك الانتماءات العنصرية التي لا اختيار للإنسان فيها، ودلَّ الناس على التنافس بما هو في وسع الإنسان وقدرته. قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «عدو يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام. قال راوي الحديث: قلت: الروم؟ قال: نعم!» (١) ، وقال #: «تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون الروم، فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله» ، قال نافع: يا جابر! لا أرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم» (٢) ، وقال #: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذ» (٣) ، وقال #: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» (٤) وقال: «ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم» (٥) .

وأما الروم الأوربيون الغربيون، ومن تفرع عنهم من الأمريكيين، فوصفهم بالروم قديماً، يبدو أنه سيعاد استعماله كلما تقارب الزمان، وقد قال النبي #: «ستصالحون الروم صلحاً آمناً، وتقاتلون معهم عدواً من غيركم ... » (٦) .

والروم عند العرب هم: الأمة التي تتكون من اليونان والرومان، المنحدرين من الأصل اللاتيني، وأول مواطنهم إيطاليا حالياً بعاصمتها (روما) . وبعد انتشارهم شرقاً وغرباً، كان العرب يطلقون على سكان أوروبا وآسيا الصغرى اسم الروم، دون نظر إلى الأصل اللاتيني، وباستمرار اتساع وجود الروم؛ هيمنوا على منطقة الشام، وكان العرب ينظرون إليها على أنها جزء من سلطان الروم.

وأما الفرس، فموطنهم القديم هو أرض إيران، فإيران تنسب إلى قبائل (الآريين) التي هاجرت من موطنها الأصلي جنوبي بحر الآرال إلى الهضاب المرتفعة أسفل بحر قزوين، فإيران معناها: موطن الآريين.

والجنس الآري والجنس السامي، هما الجنسان الرئيسان اللذان يعدهما العديد من المفكرين الغربيين أساس تقسيم شعوب العالم، ويذهب الكثير منهم إلى أن الجنس الآري متفوق على الجنس السامي، عقلياً ونفسياً، وهذه النظرة العنصرية التي تنطلق من تفوق العرق أو العنصر الآري، هي نفسها التي كان ينظر بها هتلر والنازية الألمانية، في سلوكهم العنصري المتعالي على البشر، وهي ذاتها التي كان ينظر بها الفرس إلى كل من: العرب والروم.

«يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (٧) .

ولقد كانت الصراعات سجالاً بين الفرس والروم، وكانت أكثر الأطراف الحاضرة في الصراع القديم هي نفسها الأطراف المتنافسة حالياً عرقياً ودينياً: فرس، وروم، وعرب، ويهود، ووثنيون، وكانت ساحة الصراع في الغالب تلك الأراضي الممتدة بين العراق، والشام، ومصر، وشرق جزيرة العرب.

ولما وقعت المنازلات بين المسلمين والروم في صدر الإسلام، كانت على أرض الشام، ولما أقبل المسلمون على نزال الفرس كانت المعارك الأولى على أرض العراق. فرحى التنافس التاريخي بين الفرس والروم، كانت دائماً تلك المناطق الثلاث من بلاد العرب، واليوم تكاد تتكرر الصورة، ونرى العراق أصبح ساحة تنافس بين الفرس والروم المعاصرين، دون أي اعتبار لسكان البلاد الأصليين، وكذلك تزداد ملامح التنافس بينهما على الشام وشرق الجزيرة العربية لتكشف أن هناك استقطاباً بين المتحالفين مع الفرس، وبين المتحالفين مع الروم.

ومن العجيب أن فارس والروم سيظلان عدواً للمسلمين في العراق والشام، حتى إن الحصار الشديد الذي يفرض وسيفرض على المسلمين في البلدين، سيكون منهما، كما قال النبي #: «يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أىن ذلك؟ قال: من قِبَل العجم، يمنعون ذلك، ثم قال: يوشك أهل الشام ألا يجلب إليهم دينار ولا مدى، قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل الروم» (٨) .

وهناك فصول من التاريخ: قديمه، ووسيطه، وحديثه تحكي طبيعة ذلك الصراع المزمن، الذي إن تجمَّد مرة بين بعض الأطراف، فإنه سرعان ما يعود مرات وكرات. وسأذكر أبرز تلك المحطات بدءاً من الزمن القديم، مروراً بالوسيط، ووصولاً للعصر الحديث؛ لكي نربط ذلك بعصرنا الراهن، وربما ما يأتي بعده.

ü حرب الخليج الأولى وبواكير الصراع الجديد:

بدأت دورة جديدة من الصراع بين الفرس والروم بمجيء الخميني، فبعد أقل من عام على بدء الثورة، اقتحم الطلبة الإيرانيون (الطالبان الشيعة) سفارة أمريكا في طهران واحتجزوا ٥٢ رهينة من الأمريكيين، وحاولت الولايات المتحدة الأمريكية تحريرهم بالقوة في عملية عسكرية خاطفة، إلا أن العملية فشلت، وتسبب فشلها في إسقاط الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) في الانتخابات الثانية، وقطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، وبدأت تمارس عليها ضغوطاً اقتصادية شديدة، فرد (الخميني) بإعلان ثورة ثقافية؛ لتخليص إيران من آثار الحقبة البهلوية التي أغرقت البلاد في التغريب، وقد اقتضت هذه الثورة أن تغلق الجامعات والمعاهد العليا لمدة عامين، ريثما تتغير البيئة التعليمية ليعاد بناؤها على أسس شيعية فارسية صرفة، وهو ما أنشأ جيلاً كاملاً حاملاً للتعصب الشيعي بخلفيات فارسية عنصرية.

وقد أثارت الأحداث الملتهبة للثورة الإيرانية، موجة من الحماس في العالم الإسلامي مع تلك الثورة، إلا أن الوعي العام للأمة لم يكن كافياً لإدراك أن تلك الثورة «الإسلامية» لم تكن إلا ثورة مذهبية شيعية، تعمل لحساب الشيعة فقط؛ بل لحساب الشيعة الفرس فقط، وهذا ما أثبتته الأيام والوقائع، ولا زالت تثبته.

شاء الله ـ تعالى ـ أن تكون إلى جوار تلك الدولة الفتية الناشئة على القومية الفارسية بغلو ظاهر، دولة أخرى تحاول تَزَعُّم العرب تحت راية القومية العربية بغلو لا يقل عن غلو الفرس في قوميتهم. وحاول الروم استغلال نتن الجاهليتين: الفارسية والعربية، غير مغفلين تأجيج الخلافات المذهبية للإيقاع بينهما في حرب ضروس، تستنزف أرواح، وأموال، ومقدرات البلدين، بل ما حولهما من البلدان.

وفي وقت كان فيه (صدام حسين) أحد «عمال» الروم في بلاد العرب، أغرت أمريكا (صدام) بالتحرش بإيران، فاستغل (صدام) بعض النزاعات الحدودية، وهاجم غرب إيران في ٢٢ سبتمبر ١٩٨٠م؛ لتبدأ بعدها حرب طويلة بين العراق وإيران، كانت صورة مصغرة من الحروب القديمة بين الفرس والروم، حيث وقف الروم بكل ثِقَلِهم وراء العرب، أو بالأحرى وراء الضغط على العرب؛ لكي يحرز الروم الجدد انتصاراً ضد الفرس الجدد، بدماء وأرواح العرب والمسلمين وفي أكثر بلدانهم ثراء ورخاء. واستمرت الحرب في شدّتها وحدتها مدة ثمانية أعوام؛ لتكون أطول حروب القرن العشرين.

وبما أن العرب والفرس معاً كانوا ولا يزالون من ألد أعداء الروم على التاريخ، فقد حرصت الولايات المتحدة على ألا تسفر هذه الحرب عن انتصار أحد من الطرفين؛ بل كانت سياستها المعلنة أن يُهلك كل من الطرفين الآخر، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الأسبق (هنري كيسنجر) عندما قال: «استراتيجيتنا في هذه الحرب، ألا تنتصر إيران، وألا يهزم العراق» . وظل الأمريكيون يؤججون نيران هذه الحرب بأشلاء ودماء الضحايا من الطرفين، حتى زاد عدد قتلاها عن مليون قتيل، والسلاح الذي كان يتقاتل به الطرفان كان يأتيهما من أعداء الأمس، روسيا وأمريكا، فأمريكا كانت تدعم العراق بسلاحها، وروسيا كانت تدعم إيران. بل كانت الولايات المتحدة تمد الطرفين معاً بالسلاح، في فضيحة اشتهرت بفضيحة «إيران كونترا» .

وقد تسببت تلك الحرب في تعطيل المد الثوري الإيراني، وتفنن (صدام حسين) في كسر كبرياء الشيعة الفرس، وهو ما أمد شياطين الفُرقة بطاقة رهيبة من البغضاء والحقد، صبوها مباشرة في أفئدة الشيعة في العالم على كل ما يمت إلى العرب السُّنة بصلة؛ مع أن السنة والعروبة بريئان من تلك العنجهية الجاهلية التي قاتلت باسم القومية العربية ضد القومية الفارسية لحساب الروم.

وانتهت حرب الخليج الأولى بلا غالب ولا مغلوب كما أحب الأمريكان، وتجرع (الخميني) مرارة الهزيمة التي عبر عنها أثناء توقيع الهدنة بأنها: أسوأ من كأس السم؛ ليضاف ثأر آخر من ثارات الشيعة أو «ثارات الحسين» التي ظلت تنتظر ظرفاً مناسباً تنفّس فيه عن نفسها.

وقد خرج (صدام حسين) من هذه الحرب أقوى مما كان قبلها، برغم عدم إحرازه نصراً حاسماً على إيران، ولم تكن هذه القوة العراقية الجديدة داخلة في حسابات الأمريكان، فأغروا (صدام) بمغامرة أخطر من مغامرته ضد إيران، بأن أعطوه ضوءاً أخضر لاحتلال إحدى أكثر الدول دعماً له أثناء حربه مع إيران وهي الكويت، وعندما ألمح الرئيس العراقي (صدام حسين) للسفيرة الأميركية في بغداد (أبريل جلاسبي) بأنه: قد يقوم بعمل ضد الكويت لاعتدائها على نفط العراق، ألمحت تلك السفيرة له بأن: هذا شأن عربي داخلي، لا شأن لأمريكا به!! والتقم (صدام) الطعم طائعاً، وسارع إلى تحريك قواته لغزو الكويت، فدخل عاصمتها في شهر أغسطس ١٩٩٠م. ووفر بذلك فرصة نادرة للولايات المتحدة؛ لتحشد حلفاءها من الروم، والعرب، والعجم؛ كي تقضي على قوة (صدام) التي أنفقت لبنائها مئات المليارات من ثروات العرب والمسلمين.

وكان طبيعياً أن تفرح إيران بتلك الحرب، وتستغل أجواءها وأصداءها.

وقد حاول (صدام حسين) أن يحسِّن من علاقته مع إيران، فأمر بالإفراج عن آلاف الأسرى، ثم أرسل عدداً من الطائرات الحربية المقاتلة لتأمينها في إيران من القصف الأمريكي، غير أن إيران صادرتها ولم تُعِدْها للعراق.

وبعد حرب الخليج الثانية، وإخراج (صدام) من الكويت، بدأت الولايات المتحدة مرحلة من التحرش بالبلدين معاً، وبدأت استراتيجية احتواء مزدوج لهما، ففرضت على العراق حظراً جوياً، وبحرياً، وتجارياً، استمر حتى حرب الخليج الثالثة عام ٢٠٠٣م. وتسبب الحصار في إعادة العراق إلى حالة من الفقر والتخلف لم تمر عليها قط، وتسبب ـ أيضاً ـ في قتل الآلاف المؤلفة من العراقيين لعدم توافر الدواء، وكان منهم نحو نصف مليون طفل عراقي.

وفرضت أمريكا أيضاً حظراً على جميع أنواع التجارة مع إيران في ٦ مايو ١٩٩٥م، وبعد ذلك بعام أصدرت قانوناً يعاقب أي شركة في العالم تستثمر في إيران، وبدأت أمريكا في الوقت نفسه تدعم توجهاً بدا مسالماً للغرب داخل إيران، وهو التيار الإصلاحي الذي جاء بـ (محمد خاتمي) إلى السلطة في ٢٣ مايو ١٩٩٧م. وقد وقعت إيران بعد مجيئه في حالة استقطاب بين: من يرغبون في التهدئة مع الغرب وهم الإصلاحيون، ومن يرغبون في التشدد معه، لكن أجواء الأحداث العالمية غلبت صوت المتشددين، خاصة بعد أن وضعت الولايات المتحدة الأمريكية إيران كضلع ثانٍ في محور الشرِّ الثلاثي: العراق، وإيران، وكوريا الشمالية، وهو محور يرمز إلى عداوة الفرس، والعرب، والصينيين، أشد الأعداء مع الأمريكان من النواحي الدينية والعنصرية، وبدا أن الولايات المتحدة التي قضت على الضلع الأول من المحور وهو العراق من خلال حربي الخليج الثانية والثالثة، تريد أن تهيئ لحرب خليج رابعة، تقضي فيها على الضلع الثاني من محور الشر كما أسمته.

وقد أفرز هذا الجو المشحون، مجيء قيادة إيرانية ثورية، أعادت الصراع بين إيران والغرب بقيادة أمريكا إلى المربع الأول ... ليبدأ الفصل الأكثر إثارة وجسارة، وربما خسارة بين الفرس والروم المعاصرين، غير بعيد عن أرض العرب، وثروات العرب، وشعوب العرب.

فما هي الاحتمالات؟ وما هي الاستعدادات؟ وما هي التداعيات؟

هذا ما سوف نتناوله في عدد قادم بإذن الله.