للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[ففروا إلى الله!]

لقد كان لانتفاضة الأقصى المباركة دور كبير في تفعيل الجامعة العربية

ونفض الغبار عنها؛ فقد كان واضحاً أن هناك حظراً أمريكياً يمنع اجتماع الزعماء

العرب إلا تحت المظلة الأمريكية، وكان هذا نابعاً من سياسة الاستفراد والحرص

على التعامل مع كل كيان بمفرده؛ فبعد مؤتمر مدريد الجامع ظهرت المسارات

الأردنية والفلسطينية والسورية واللبنانية وقنوات الاتصال العمانية والقطرية

والموريتانية في اختراق واضح للجامعة العربية ولمجلس التعاون الخليجي والاتحاد

المغاربي، وكان واضحاً للجميع آثار هذه السياسة اليهودية؛ فقد كان الاستفراد

بالخصم الضعيف يؤدي بالضرورة للحصول على أكبر قدر من المكاسب وأحياناً

بدون ثمن يدفع، ولكن الانتفاضة العارمة وعجز مؤتمر شرم الشيخ عن التصدي

للمشكلة وانهيارها أقنع الراعي الأمريكي بالسماح بالدعوة لمؤتمر قمة طارئ في

القاهرة، عقد وسط موجة غضب عارمة في الشارعين العربي والإسلامي،

وصدرت قرارات تؤكد دعم الانتفاضة مالياً، وتم الاتفاق على عودة الاجتماعات

الدورية، واتفق على عقد مؤتمر قمة عادي في عمان، وفي هذه الأثناء استمرت

الانتفاضة، وكان التخبط الإسرائيلي نتيجة ضغط الانتخابات عاملاً مساعداً

بالإضافة إلى الانتخابات الأمريكية، وتعرقل انتقال السلطة الذي ساعد على بروز

قضية العراق وتصدع حلقة الحصار حوله، وانتشر الحديث حول المصالحة مع

دول الخليج واستئناف الرحلات الجوية؛ وهنا تدخلت الإدارة الجديدة التي يبدو

عليها شدة الاندفاع وافتقادها للحكمة، وكان اختيار الجنرال كولن باول وزيراً

للخارجية مظهراً من مظاهر عسكرة الإدارة، وباتت الدبلوماسية الأمريكية التي

كانت في الأصل تفتقر للكياسة تلوح بالعصا، فقامت بضربة استعراضية لبغداد،

وقام باول بجولة في المنطقة الهدف منها ينحصر في تأكيد دعم إسرائيل وإعادة

إحكام الحصار حول العراق.

ويستطيع أي مراقب أن يرصد الكثير من الكبوات التي تفضح الإدارة الجديدة،

وتوضح أسلوب تعاملها خلال فترة قصيرة من الزمن، وإليك بعضها؛ فقد أطلق

وزير الخارجية الجنرال باول تصريحات حول التزام الرئيس بوش بنقل السفارة

الأمريكية إلى القدس وقد اضطرت وزارة الخارجية الأمريكية إلى تأكيد عدم تغير

السياسة الأمريكية حول هذا الموضوع، بل اضطر هو شخصياً للاعتذار. والذي

يهمنا هنا هو أن التصريح حول هذه القضية الحساسة في هذا الوقت بالذات لا يعدو

كونه نوعاً من الحمق السياسي، ولا يختلف عنه كثيراً التدخل المباشر والعلني في

جدول أعمال مؤتمر القمة والإعلان الأمريكي أن الإدارة سترسل مقترحات مكتوبة!

وفي وقت انعقاد القمة وبينما كان شارون يمارس حصار المدن الفلسطينية

ويقصفها بالطائرات والدبابات طرح مشروع قرار حول إرسال قوات دولية لحماية

الفلسطينيين. ولم تتورع أمريكا زعيمة العالم الحر وحامية الديمقراطية وحقوق

الإنسان عن الوقوف وحيدة في استعمال حق النقض وإسقاط القرار، وكان هذا

التصرف الأمريكي صفعة لأدعياء السلام في المنطقة، ولكن الصفعة هي تأكيد

مندوب أمريكا لدى مجلس الأمن على أن هذا التصويت لن يؤثر على مواقف

أصدقائنا العرب.

وإذا كان الرئيس بوش تكلف تأنيب عرفات وإفهامه بأهمية وقف الانتفاضة

التي يتعرض فيها اليهود للعنف الفلسطيني! ! فإن موظفاً من الدرجة الثالثة أو

الرابعة هو مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط (إدوارد ووكر)

هو الذي تولى طرح المطالب الأمريكية نحو أكبر حليف لأمريكا في المنطقة

العربية. ومن الغريب أن هذا الموظف لم يتردد في وصف الرئيس المصري بأنه

لا يرى إلا بعين واحدة نتيجة لعدم وجود السفير المصري في تل أبيب، وماذا نقول

نحن عن الإدارة الأمريكية ونظرتها للصراع في المنطقة؟ وهنا لا يفوتنا التأكيد

على أن الزعماء العرب سيتعرضون لسيل من المطالب العلنية التي تركز على

تحقيق مصالح إسرائيل، ومن يجرؤ على رفض هذه المطالب فلا ينسى أن

المندوب الأمريكي في مجلس الأمن لم يتورع عن تهديد كولومبيا علناً؛ لأنها

أحرجت أمريكا وطرحت مشروع القرار على مجلس الأمن، وقال إنها سترى

عواقب هذا التصرف!

إن وضع عرفات مثال حي لكيفية تعامل اليهود ومن ورائهم أمريكا مع كل من

مد لهم يد التعاون وربط حباله معهم وقطع حباله مع شعبه. إنه الصديق عندما

يحقق رغباتهم وهو العدو عندما يعجز عن إطفاء نار أشعلوها هم. وإذا كانوا

ساعدوا في بناء قوى عرفات الأمنية فلا مانع لديهم من تحطيمها عندما تفشل في

تنفيذ مطالبهم الحقيرة في المشاركة الفعالة في إبادة الشعب الفلسطيني المبتلى.

إن الحل الوحيد للخروج من هذا المأزق ومقاومة الإملاءات لا يمكن إلا

باستعمال ورقة الرفض الشعبي وتفعيل دور الشعوب، ولا يكون هذا إلا بإعادة

التلاحم مع الشعوب والعودة إليها واحتضانها والاندماج معها، ولا يمكن هذا إلا

بالعودة إلى البوتقة التي ينصهر فيها الجميع ألا وهي بوتقة الإسلام. إن تغييب

الشعوب وإذلالها له دور كبير في تحطيم إرادة البلدان، وجعل حكوماتها رهينة

بالتوجيهات العلنية والخفية وقوى الطغيان؛ فمتى نفر إلى الله متى متى..؟ !