للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نقد على نقد

الأدب الإسلامي

محاورات وتعقيب

محمد حسن بريغش

استوقفني في العدد (٧٨) من مجلة «البيان» ، القراءة النقدية لما نشر في

العدد (٧٦) للأستاذ الدكتور ناصر بن سعد الرشيد.

واستمتعت بهذه القراءة العميقة الجادة، والتعقيبات المفيدة على ما كتبه

الدكتور مصطفى بكري السيد، والأستاذ الشاعر محمود مفلح، وأود التوقف عند

بعض النقاط التي وردت في التعقيب، لما لها من فائدة في إثراء الموضوع وتجليته.

إن الذي أشار إليه الأستاذ محمود مفلح في العدد (٧٦) في مقالته «نقد ظالم

ونقد نائم» واقع ملموس، وشكواه لها ما يبررها، وأسبابها كثيرة منها:

١- تقصير المهتمين بالأدب الإسلامي، وعزوفهم عن تناول الإبداع بالنقد،

والتقويم على أسس واضحة، وانشغالهم بدلاً من ذلكبكثير من الأمور الاحتفالية

والإعلامية، واهتمامهم بتقديم النظريات والقوالب الأدبية المتخيلة للأدب الإسلامي، وانصرافهم عن الأمر الأهم، وهو دراسة الإنتاج الأدبي الإسلامي في القديم

والحديث، والعودة إلى تراثنا الأدبي الكبير منذ فجر الرسالة الإسلامية، إلى اليوم،

لدراسته وفق التصور الإسلامي، وإبراز ملامحه وسماته، واستخلاص المنهج

الصحيح لهذا الأدب، ووضع القواعد الموضوعية لنقد النصوص وتقويمها، وإعادة

عرض تاريخ الأدب العربي من جديد، على أسس إسلامية منهجية صحيحة، بعيداً

عن المناهج الغربية، التي استهدفت سلخه من الصفة الإسلامية، وإبعاده عن

حقيقته التي تنتمي إلى الإسلام في العموم.

ووفق هذا ستبرز الملامح الشاذة في هذا الأدب، وتفرز الفترات المضطربة

وحدها التي جعلها المنهج الغربي سمة عامة تنسحب على الأدب العربي كله

وتوضع هذه الفقرات والنصوص في مكانها الطبيعي، وضمن حجمها الصحيح.

وكذلك نحن بحاجة إلى عرض الآداب المختلفة لشعوب العالم الإسلامي غير

العربي وفق المنهج ذاته لإبراز سماته وملامحه واستخلاص هذه الملامح التي تشكل

منهجاً واقعياً صحيحاً للأدب الإسلامي.

إن مسؤولية المشتغلين بالأدب الإسلامي، إزاء دراسة النصوص ونقدها

والتعرف على خصائصها، وإبراز سماتها، والتعريف بأصحابها أهم بكثير من

وضع الأسس النظرية، والأطر الفكرية، وفق القواعد المطبقة في المذاهب الأدبية

الغربية، لأن هذا الاتجاه يلغي وبشكل آلي تراثنا الأدبي كله ويخرجه من دائرة

الأدب الإسلامي، ولأن التنظير يعني محاولة إنشاء هذا الأدب حديثاً، وتحديد

قواعده، وكأنه أمر مستحدث وليس امتداداً لتاريخ طويل وتراث كبير.

٢- ومن هذه الأسباب قلة المنافذ الإعلامية المتاحة للأدب الإسلامي بعامة

والنقد بخاصة فضلاً عن التعتيم المقصود في كثير من الأحايين على الأدباء

الإسلاميين، والمشتغلين بهذا الأدب.

٣- ومنها ابتعاد مناهج الدراسة الأدبية في العالم الإسلامي عن دراسة هذا

الأدب، فضلاً عن الاعتراف به، وخضوعها للمناهج الغربية في ذلك، وهناك

أسباب أخرى لا مجال للحديث عنها في هذه العجالة [١] .

ولكم كنت أتمنى أن يكون ضمن هذه التعقيب للدكتور ناصر على الشاعر

مفلح، مبادرة جادة منه للإسهام في النقد، والاهتمام بالأدب الإسلامي قديمه وحديثه، لا سيما أنه يملك هذه القدرة، وهذا الحس النقدي ولديه هذا الاهتمام الجاد بالأدب

الإسلامي.

هذه الملاحظة تنقلني إلى ما طرحه الدكتور ناصر في تعقيبه عندما أشار إلى

تعريف الأدب الإسلامي [٢] ، واستطرد بعدها إلى القول: «أود أن ننظر إلى

الأدب العربي كله بعد الإسلام على أنه أدب إسلامي، وأن نخرج منه ما خالف

الإسلام على أنه أدب شذ عن منهج الأدب الإسلامي في مضمونه، وفي تعبيره» .

ولأشد ما أفرحني ذلك، لأنني وجدت من ألتقي معه في مثل هذه النظرات،

لرسم معالم الأدب الإسلامي على أسس متينة [٣] ، كما سجلت ذلك في كتابي الثاني

عن الأدب الإسلامي، فالأدب العربي منذ بزوغ الرسالةتحول إلى أدب إسلامي في

عمومه وجملته، وإن لم يكن إسلامياً في شموله اعتراه ما اعترى الناس من صواب

وخطأ، وقوة وضعف، وصلاح وآثام « [٤] .

ومادام الأمر كذلك، ألا يحق لنا أن نتساءل عن مدى جدية الكاتب في هذا

الرأي، وعن مسؤوليته في ذلك، وهو الناقد والأستاذ الجامعي، والدارس والمدرس

للأدب؟ نحو الأدب والدارسين.

إن أدبنا العربي بحاجة إلى نظرة صحيحة، نظرة تعيده إلى منهج الأدب

الإسلامي، الذي يشمل الحياة كلها، ولا ينحصر في موضوعات محددة كما يظ'ن

الناس، لأن الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الجميل للأديب المسلم عن تجربته

في الحياة من خلال التصور الإسلامي.

وهو حقيقة ممتدة من بدء ظهور الإسلام إلى اليوم، وسيظل إلى قيام الساعة

مادام هناك إسلام ومسلمون، وقد يضعف، وقد يعلوه الغبار والأصباغ، ولكنه يظل

باقياً مادامت كلمة الله تتلى ومادام كتاب الله العزيز محفوظاً.

وهذا ينسحب على كل الموضوعات، والأفكار، والأغراض، والعصور

والأساليب.. فلماذا يرمي الكاتب الفاضل المسؤولية على الآخرين وكأن الأمر

خارج عن مسؤوليته ومسؤولية كل ناقد مسلم يهتم بإسلامه ومجتمعه، وبالتالي يهتم

بهذا الأدب؟!

إن اشارة الناقد إلى رابطة الأدب الإسلامي، وترك الأمر لها لترد على هذه

التساؤلات نوع من الهروب، ومع أن الرابطة قد تأسست لخدمة هذا الأدب، فإن

المسؤولية نحو الأدب الإسلامي، وتحديد منهجه، ليست مقصورة عى أحد لأن

الأمر ليس كهنوتاً بل هو مسؤولية كل أديب مسلم، وكل ناقد مسلم، إن كان من

أعضاء الرابطة أو خارج نطاقها، فقضية الأدب الإسلامي هي قضية كل مسلم قبل

الرابطة وبعدها، والاهتمام به ليس مقصوراً على الرابطة أو على أي مؤسسة

أخرى.

ومع أنني كنت من أول الداعين والعاملين لإنشاء هذه الرابطة والمؤسسين لها، والداعين للأدب الإسلامي، فإنني أعرف أن كثيراً من المهتمين خارج الرابطة

ليست إسهاماتهم بأقل من إسهامات الآخرين بل هي أكبر من إسهامات الرابطة لأنهم

غير خاضعين للأطر الإدارية والنفسية التي تتحكم في أعمال الرابطة والمؤسسات

الأخرى عموماً، فضلاً عن أمور أخرى لا مجال للحديث عنها.

أما عن موقف بعض المنظرين للأدب الإسلامي من الأشكال الشعرية الجديدة، أو بعض التعبيرات الحديثة، فإن الأدب الإسلامي يتسع لكل الأشكال

والموضوعات، لأن الإسلام هو الحياة ذاتها ولكنها الحياة كما أرادها لنا خالق الخلق

سبحانه وتعالى، وهذه الحياة فيها كل ما يتعلق بالإنسان والمخلوقات من نشاطات

ومشاعر وتجارب، والأديب المسلم يعبر عن كل ذلك كمخلوق يخضع بعبوديته لله

وحده، والأدب الإسلامي أدب الحياة، وأدب الإنسان في كل مكان، وليس

محصوراً في موضوعات محددة أو صيغ معينة ولكن هذا المفهوم لا يمنعنا من

الوقوف في وجه التيارات الوافدة التي تتسربل بألوان وأشكال مستحدثة وتدعي بأنها

لا تتعدى ذلك.

إن أقطاب هذه التيارات لا يخفون مقاصدهم إزاء كل شيء في تراث هذه

الأمة وكيانها، في الشكل والمضمون وفي السلوك والمعتقد وفي الوجود عموماً.

يقول يوسف الخال:» أريد أن أعبث باللغة مدة عشرين سنة كرد فعل على

عبث أسلافنا بلغتنا ألف عام «.

ويقول د. بولس نويا اليسوعي المشرف على رسالة (الثابت والمتحول)

لأدونيس، التي أصبحت كتاباً مقدساً عند الحداثيين يخاطب أدونيس:» لا أخفي

أنني شعرت بكثير من الحرج عندما طلبت مني أن أكون رفيقك في السفرة

الاكتشافية التي كنتُ ناوياً القيام بها، ولئن دفعني دافع إلى قبول هذه المهمة فلأنني

شعرت عندما فهمت مقصدك وتبينت الخطوط الكبرى لما تريد أنك ستحقق حلماً

حلمت به في شبابي مرتين ... «.

ويتابع:» إن معظم فصول أطروحتك إن لم يكن كل فصل منها يمكن أن

يصبح منطلقاً لأبحاث أرجو أن يتفرغ لها كثير من الشباب تحت إشرافك وموجهين

بتوجيهات منك « [٥] .

فهل يمكن أن نقطع الصلة بين النصوص الحديثة وجذورها؟ وهل يمكن أن

نقرأ النص أيضاً بحد ذاته منفصلاً عن سياقه وسط المجموعات الشعرية والأدبية

لهذا أو ذاك؟ .

إن الأديب المسلم أديب منفتح على الحياة، واسع الصدر، يحب الناس،

ويحب الخير، ولكنه أيضاً لا يستطيع التغاضي عن أي باطل، ولا يستطيع أن

يتغافل عما تحمله الصيغ التعبيرية من إيحاءات ومضامين يأباها الإنسان السوي كما

تأباها عقيدة المسلم.

ولا يمنع هذا من قراءة كل ما يصدر عن هذا وذاك بقلب سليم النية وعقل

واع متفتح، وإدراك بصير، حتى لا نقع في الغفلة من جهة، ولا نحكم بالاندفاع

العاطفي من جهة أخرى.


(١) انظر للمؤلف كتاب (الأدب: أصوله وسماته) الفصل الأول، الأدب الإسلامي بين مؤيديه ومعارضيه (١٩٣٥) .
(٢) البيان العدد (٧٨) ص ٦٩.
(٣) الأدب الإسلامي: أصوله وسماته، ص ٤٣٤٦، وانظر (٨٣٨٤) ، وانظر ص ٨٩ وما بعدها.
(٤) المصدر السابق، ص٩١.
(٥) الثابت والمتحول، ١/٩١٤، وواضح أنه يقصد الدعوة لإنشاء حركة يتولى أمرها أدونيس، تتابع هدم هذه الأصول، ولقد حدث ذلك.