[المدينة الفاضلة]
بقلم: منصور الريس
حديث خرافة! ولن يعدو أن يكون حلماً فلسفيًّا أولع به عقلاء الحكماء
والفلاسفة، وتغنى به الشعراء. لا وجود له إلا مع أحلام النفوس وآمالها وتخيلاتها.
فإن الله (سبحانه) قد جبل النفوس على طبائع وغرائز مختلفة، ولئن كان
الظلم والجهل والهوى قاسماً مشتركاً بين النفوس مشاعاً بينها، فإنها متفاوتة في
رتب الفضيلة، وحب الحقيقة والخير والجمال، متباينة في دركات الظلم وحب
الشر.
فكان ما يضطلع به المصلحون في كل أمة أمراً شاقاً للغاية، مضنياً لا ينهض
به إلا العظماء ذوو الهمم الصادقة والعزائم الثابتة في كل أمة، فهم يطمحون
للحيلولة بين الورى وشهواتهم، والحد من غي نفوسهم، وهم يعلمون علم اليقين أن
سلب الأجسام أرواحها أقرب منالاً من سلب النفوس غرائزها وميولها، ولذا لا يكاد
أن يجد الواحد منهم الراحة والدعة، وهذا الأمر هو هاجسه ومقصده، فإنه:
إذا كانت النفوس كبارا ًتعبت في مرادها الأجسام
أفلم ييأس الحالمون بعد أن لو وجدت هذه المدينة، فلن تكون خالصة من
شوائب الكَبَد والمعاناة، إن الواحد ليعيش مع نفسه صراعاً مجهداً، مع شهواتها
وغيها وأدوائها، ومع ذا: فقلما تطاوعه على أمر من الحق وتسلمه قيادها، وهذا
ما عاناه الصالحون قبلنا، ويعانيه الصادقون في حاضرنا، فإن القلب قلب. فأنى
لك بمجتمع أخلاطه وأوشابه أن تجده متجاوباً معك وفق ما يقتضيه سبيل الفضيلة
والفطرة الصحيحة والقلب السليم، أرأيت عظم الأمر؟ ! فما أبعد هذا! .
أليس من الجور أن يطالب المرء الآخرين بما يضن هو به عليهم: يذم
الزمان وأهله، ويندب الأخوة الصادقة، ويبكي المروءة الغائبة، وهو نفسه عيب
الزمان وآفة الإخوان، وعناء ذوي المروءات.
وكأين من صادق في المحبة خالص في الود قاسَى من مفارقات الزمان
وأضنته الآلام ... كان عزاؤه في دنياه أخاً يبثه هموم نفسه وأحزان قلبه، يعده
مستودع سره، فأعياه ذلك فما ظفر ببغيته؛ فنأى بنفسه وانطوى عليها: يجتر
آلامه، ويكتم زفراته حتى قضى غير مأسوف عليه:
فعاش وما واساه في العيش واحد ومات ولم يحفل به غير واحد
تموت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عوادها ما بها
وما أنصفت مهجة تشتكي أذاها إلى غير أحبابها