للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من قضايا العلم والتعلم

حديث عن المقاصد

-١-

د. عبد العزيز القارئ

أول ما نفتتح به الكلام عن العلم والبحث، وقضايا التعلم والتعليم ومشكلات

العالم والمتعلم: هو الحديث عن المقاصد، وهو حديث ذو شجون، وأي شئون

المسلمين اليوم يخلو من الشجون؟ لِمَ نتعلم؟ تحديد الهدف والمقصد في مجال العلم

والتعليم هو المسألة الأولى، وعليها تبنى سائر المسائل، لأن كل شيء يصاغ على

ضوء الهدف والمقصد.

العلم في الإسلام يجب أن يكون لهدف واحد فقط: وجه الله والدار الآخرة،

وعلى ضوء هذا الهدف يقال: إن المؤمن إنما يتعلم ليعرف الله ويعبده ليعمر

الأرض بعبادته، حتى عمارة الأرض هي وسيلة لعبادة الله، فإذا أصبحت وسيلة

لغير ذلك أو أصبحت غاية فقد فسد المقصد. بعضهم يجلها غاية لأنه لم يفهم قوله

تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ] [يونس: ١٤] ، أو قوله تعالى: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] [هود: ٦١] ، ومعنى الآيتين: أن الإنسان جعل خليفة في الأرض ليعمرها بعبادة الله، أما

عمرانها المادي فهو وسيلة، أي هو مطلوب بمقدار ما يخدم تلك الغاية ليس أكثر،

إذ لا يتصور أن يكون هدفاً شرعياً أن يضع حجر على حجر، أو مدراً على مدر

إذا كان هذا لا يحقق غاية أخرى.

نقول هذا لنؤكد على أن الهدف المذكور هو لمجمل عملية العلم والتعلم مهما

اختلفت مجالاتها، لا نفرق في هذا بين علوم الدين وعلوم المدنية، فإن ظاهرة (التمدن) أو (العمران المادي) تتطلب علوما يلهث وراءها أكثر المتعلمين، كما أن

ظاهرة (التدين) تتطلب علوماً أخرى يسعى لنيلها آخرون.

مجمل التعلم والتعليم في هذا المجال أو ذاك يجب أن يدور حول ذلك الهدف

ظاهرة التمدن أو (العمران المادي) لما انقلبت غاية بذاتها أصبحت مشكلة في حياة

المسلمين، لأنها أصبحت انحرافاً على ضوء ما قررناه آنفاً، وهي المشكلة التي

يعبر عنها أحيان بـ (الترف) .

المؤمن يعمر من الأرض بمقدار ما يعينه ذلك على عبادة الله وأداء فرائضه

أي بمقدار ما يكنه ومعنى يكنه: أي يقيه مختلف الغوائل التي يمكن أن تعوقه عن

عبادة الله أو تعرض حياته للهلاك وبمقدار ما يستر عوراته وحرماته عن الأعين،

هذا على مستوى الفرد والمجتمع، وعلى مستوى المجتمع يضاف إلى معنى الإكنان

شيء آخر: هو الحاجة إلى ما يعينه على أداء رسالته العالمية التي تلخص في

كلمتين: الدعوة، والجهاد.

أنا أعلم أن قلمي وهو يسطر هذه الحقيقة يبتعد كثيراً عن الواقع لأن واقع

المسلمين في هذه المسألة ابتعد كثيرا عن المبدأ الإسلامي واقترب كثيرا من النظرة

الإفرنجية للحياة، و (الإفرنج) يتخذون (التمدن) غاية، لأنهم اتخذوا الحياة الدنيا

نفسها غاية، فهم لا يعرفون الله، ولذلك لا يبنون شيئاً للآخرة، [وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ

هُمْ غَافِلُونَ] [الروم: ٧] ، إنما يبنون لحياتهم الدنيا فقط.

لهذا فإن عملية التعلم والتعليم في ظلال هذه النظرة (الإفرنجية) يكون هدفها

منقطع الصلة بالآخرة.

لو سألت هذه الآلاف المألفة المحتشدة في الجامعات: لماذا تتعلمون؟ فكم منهم

من يتذكر عبادة الله وكم منهم يذكرك بالآخرة؟ تأمين المستقبل الوظيفي هو هدف

السواد الأعظم، ولا يلزم أن يصرح بذلك بلسان المقال، فلسان الحال يهتف به.

أما على مستوى التخطيط العام في المجتمع فالهدف أكثر بريقا، لكنه يحمل

نفس المعنى. الإسهام في عملية بناء الوطن، والمقصود الأول البناء المادي، فهو

الذي يستغرق معظم برامج خطط التنمية، وهذه الخطط تخضع لها كل الجوانب بما

فيها العلم والتعلم.

لم أسمع في أي بلد من بلاد المسلمين أن خطة التنمية فيها وضعت لتحقيق

عبادة الله عز وجل، قد يسخر منك المخططون! ! تضع خطة خمسية أو عشرية

لتحقيق عبادة الله؟ هل هذا يحتاج إلى خطة؟ [إن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ

كَمَا تَسْخَرُونَ] [هود: ٣٨] ، نسخر من هؤلاء الذين تدور حياتهم وخططهم

وبرامجهم وعلمهم وتعليمهم حول نفسها، تخططون من أجل الحياة؟ والحياة من

أجل ماذا؟ فلماذا لا تختصرون الطريق وتتخلصون من عقدة هذا الانحراف إلى

النظرة (الإفرنجية) فتخططون الحياة من أجل الذي وهبكم الحياة، وهو قد صرح في كتابه أنه إنما وهبكم الحياة لتعبدوه: [ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ] [الذاريات ٥٦ - ٥٨] ، لو جعل المخططون والمبرمجون الأساس والمنطلق هو هذا؛ كم تتغير خططهم وبرامجهم.

من المؤسف جداً أن نقول: إن فساد العلم والتعليم في حياتنا بدأ بفساد المقاصد، فإذا عدنا إلى مجال علوم الشريعة نجدها ألصق من غيرها بذلك الهدف. ابتغاء

وجه الله والدار الآخرة.

أليست علوم الشريعة إنما يتطلبها مبدأ (التدين) ؟ وهذا المبدأ في النفوس كلها

فطرة فطر الله الناس عليها، فهذا هو روح التدين: ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.

فانظر كيف يكون قبح الانحراف عندما تتخذ علوم الشريعة وسيلة لغير هذا

الهدف، أي عندما تفسد النية ويفسد المقصد.

إن هؤلاء الذين اتخذوا علوم الشريعة مطية لتحقيق الرغبات الدنيوية

والشهوات الأرضية أقبح انحرافاً وأسوأ ذنباً من أولئك الذين اتخذوا علوم التمدن

مطية لذلك، لأن علوم الشريعة ألصق بذلك الهدف الشرعي من علوم المدنية.

تصور واحداً يتعلم كيف يخبز ويعجن لإشباع شهواته أليس ذلك أخف قبحاً

ممن يستعمل الحديث والفقه من أجل الشهوات نفسها؟ ! كلاهما منحرف، لكن

الوعيد لهذا أشد من الوعيد لذاك.

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تعلم علماً مما يبتغى به وجه

الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» [١] .

أما كيف يقع طلاب علوم الشريعة في فساد المقاصد، فإذا بهم يتعلمون مما

يبتغى به وجه الله لا يتعلمونه إلا ليصيبوا به عرض الدنيا فإن لذلك عوامل كثيرة

من أهمها:

١- ضغوط المجتمع الفاسد من حولهم:

طلاب علوم الشريعة جزء من المجتمع، فهل تكتب لهم النجاة والسلامة مما

أصاب الكل من تلف وفساد؟ .

المجتمع بمجموعه يلهث خلف الحياة الدنيا، إنه متشبث بها، والقلوب متعلقة

بزينتها، لا يكاد يسلم قلب منها-إلا من رحم الله-، ومن شدة تعلق القلوب بشهوات

الدنيا وزينتها أصبح هذا التعلق عبادة، وأصبحت هذه الشهوات آلهة تعبد من دون

الله. إليكم الدليل:

قد يجترئ زنديق على المساس بجناب الشرع والدين، وفي -بعض بلاد

المسلمين تصل الجرأة بالزنادقة إلى حد المساس بجناب الألوهية -ألوهية الله عز

وجل -، ومع ذلك لا يتحركون! ! المسلمون لا يتحركون حتى لو شتم الله تعالى،

قد يتململون، يستنكرون بقلوبهم، أحيانا بألسنتهم - على استحياء-، لكن لا تصل

قوة الدافع إلى الدرجة التي تحركهم، وتدفعهم إلى التعبير المؤثر عن غضبهم.

سبحان الله! ما هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية؟ ! هذا الشلل في العواطف، في الإيمان، في العقول، مرض خطير كيف أصيبت به هذه الأمة؟ ! .

أما إذا أحسوا أن شهوة من شهواتهم ستعاني من الحرمان -خاصة شهوة

البطون - لو اعتدى على جنابها فالويل ثم الويل لمن يمس جنابها يتحركون (غريزياً) وينفجرون.. الأمثلة على ذلك كثيرة في جميع بلاد المسلمين.

في بلد أفريقي مسلم، الإسلام فيه عريق، كم خرج للأمة من علماء، ثم لما

أصيب بالمرض تحكم في مصيره طاغية خبيث، من جرأته واستخفافه بعواطف

الأمة التي يحكمها، واستخفافه بإيمانها ودينها أغلق الجامعة الوحيدة الإسلامية فيها، وبقيت مغلقة ثلاثين عاماً، ثم أسقط الصيام عن العمال، وبدأ يدخله الزهو

والكبرياء بل بدأ يتوهم أنه أصبح إلهاً، يفعل ما يفعل والشعب يرضخ ولا يقول

شيئاً، لا يعترض ولا يتململ -لماذا لا يتململ؟ - لأنه مشلول، توهم ذلك الطاغية

أنه إله فتحدى الإله الحقيقي.

سأله مرة صحفي إيطالي: أتؤمن بوجود الله يا فخامة الرئيس؟ أجاب: إذا

كان الله موجوداً فسيغفر لي شاء أم أبى.

وقرأ ذلك الشعب هذا الكفر الشنيع، بل قل هذا الاستخفاف الشنيع بعواطف

الشعب ومقدساته، قرأوا هذا الكلام ولم يتحركوا، ولو حركة عفوية، فإنها كانت

على الأقل تدل على أن ذلك الشعب موجود لم يمت، لكنه لم يتحرك، لأنه وإن

كان موجوداً فقد كان مشلولاً، واستطاع ذلك الطاغية أن يجثم على صدر هذا

الشعب المسلم ثلاثين عاماً، أي والله ثلاثين عاماً، وبعد هذا العمر الطويل تحت

ذل طاغية زنديق تحرك ذلك الشعب، ولكن احتجاجاً على رفع أسعار الرغيف! ! .

وفي بلد أخر اعتدي على جناب الدين في صفحات المجلات، وفي

المسرحيات، وفي ما أمكنهم من وسائل الإعلام، حتى سخروا من مقام النبوة ثم

صوروا سيدنا ونبينا محمداً بصورة ديك، ثم انقض فرعون ذلك الشعب المسلم على

نخبة من العلماء والشباب المسلم فصلبهم ونكل بهم، بينما الشعب يتفرج، ولا

يتحرك، كأنما هو مكبل موثق بالحبال، ولكني رأيته بنفسي عندما ثار فجأة كيف

فعل، لقد أصبحت العاصمة خلال بضع ساعات كأنها أطلال محترقة من التدمير،

لقد انطلقت الجموع تدمر كل شيء، ما هذا الذي أشعلها وأطلقها من عقالها؟ الحاكم

بأمره العصري أمر برفع أسعار الخبز والشاي والفول! ! .. لا أريد التشنيع على

هذه الشعوب، فإنها شعوب مسلمة لها تاريخ - وأي تاريخ -، ولا أريد بعث اليأس

والقنوط في نفس أحد، فإن كل متبصر يعلم ماذا يمكن أن تفعل هذه الشعوب

المسلمة، لو انطلق دافع الإيمان في القلوب، أو لو برئت تلك الشعوب من ذلك

الداء العضال، داء الشلل..

ولكن متى تشفى من هذا الداء العضال المزمن؟ الطواغيت الذين سلطوا على

رقاب هذه الشعوب المسلمة يتواصى كل منهم برعاية هذا الشلل، وبتدمير أي

محاولة لعلاجه، وبذلك أصبحت مهمة الإصلاح تتطلب جهوداً قوية ثابتة دائبة

طويلة قد تستمر أجيالا، المهم أن تكون منظمة على منهج سليم، وسائرة على

طريق مستقيم. وهل هناك إلا المنهج النبوي. والطريق القرآني؟ .

إذا كان هذا هو حال الشعوب المسلمة والمجتمعات المسلمة فكيف يكون حال

طلاب علوم الشريعة؟ الموقف الطبيعي أنهم ما داموا يعيشون في كنف المجتمع

وهم جزء منه أن يتأثروا به، أو يؤثروا فيه، ولكي يقدروا على التأثير فيه عليهم

أن يتحرروا من تأثيراته السيئة المرضية، وكيف يمكنهم ذلك؟ من هنا جاءت

الحاجة الضرورية إلى البديل، على هؤلاء أن يبحثوا عن البديل الذي يلجئون إليه

فراراً من الواقع الفاسد.

لابد أن يؤمن لهم مناخ تتوافر فيه الصحة والسلامة من عوامل التلف والشلل

الذي أصاب المجتمع الكبير، فإن لم ينشأ لهم هذا البديل، فالموقف الطبيعي الذي

تمليه سنن الله في خلقه أن ينشئوا هم البديل بأنفسهم.

وإنه لمن المستغرب أن يكون هناك عاقل يفضل إغماض عينيه ودس رأسه

في الرمال، فتراه يعيش في وهم الانتظار: انتظار أن يرق قلب الطاغوت فيتفضل

بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وربما بالغ بعضهم في أوهامه فتوقع أن يرفع

الطاغوت راية الجهاد ضد الزنادقة والكفرة والملحدين.

إن كان هؤلاء لا يدرون فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظم،

هي سنن الله في خلقه لن تجد لها تبديلاً، أن الكافرين وعلى رأسهم الطواغيت لا

يعبدون ما نعبد، أفيبدل الله سننه من أجل جيل من الكسالى يدسون رؤسهم في

الرمال، مع أنه سبحانه لم يبدل سننه من أجل نبيه وخليله ومصطفاه محمد -صلى

الله عليه وسلم-؟ لا مطمع في ذلك.

من عليه إذن أن يتولى تهيئة هذا المناخ، حتى يأوي إليه طلاب علوم

الشريعة؟


(١) رواه احمد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، كلهم في حديث أبي هريرة.