للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقفات

شهادة على تجربة طالبان

في حوار مع فضيلة الشيخ غلام الله رحمتي

(نائب الشيخ جميل الرحمن رحمه الله)

نرحب بشيخنا الكريم، ونسأل الله تعالى أن يبارك في عمره وعمله، وأن

ينفع بعلمه الإسلام والمسلمين.

نرجو أولاً أن تعرفوا فضيلة الشيخ بشخصكم الكريم لقارئ البيان:

الشيخ غلام الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام

على عباده الذين اصطفى وبعد: إخوتي الأحباء: اسمي: غلام الله رحمتي، من

أفغانستان من مديرية قندز، وأنا كنت خريج مدارس الديوبندية، وبفضل الله

ورحمته طالعت كتب التوحيد وكتب أهل السنة مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

والشيخ ابن القيم وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، وسرت بمذهب أهل

السنة والجماعة، وتعرفت على التوحيد بأقسامه وعلى ما يضاد التوحيد من الشرك

وأنواعه، وبعد وصولي إلى العقيدة الحقة وفقني الله لبيانها في أفغانستان في منطقة

قندز، وحُبست بسبب ذلك في عهد ظاهر شاه عشر سنوات متواليات باتهامي بأنني

رجل وهابي ومنكر للطرق الصوفية وغير مقلد، وكان لي هناك مدرسة، وكنت

ألقي فيها الدروس.

وبعد أن أطلقت من المحبس هاجرت إلى باكستان، وأتيت إلى مدينة (كويتا) ،

وكان هناك أحد الإخوة اسمه (شمس الدين) وكان سلفياً، كان قد أسس مدرسة

باسم (الجامعة الأثرية) ، وكان درس عندي في أفغانستان، فلما علم بقدومي إلى

باكستان أرسل إلي ودعاني للتدريس في جامعته، فجئت إلى بيشاور ودرست في

الجامعة الأثرية لعدة سنوات، وأسست هناك جريدة باسم (المسلمون في أفغانستان)

كنا ننشر فيها المسائل الدينية العقدية والعملية والأخلاقية، إلى أن تأسست جماعة

الدعوة إلى القرآن والسنة، وبعد التأسيس أصبحت عضواً في جماعة الدعوة وكنت

نائباً للشيخ جميل الرحمن رحمه الله في حياته وحتى مقتله، نسأل الله أن يجعله في

الشهداء.

وبعد قتل الشيخ صار الأمير لجماعة الدعوة شيخنا الشيخ سميع الله نجيبي

حفظه الله، فكنت معه إلى انسحاب الروس، وبعد انسحاب الروس وقعت بعض

الأشياء المقتضية لأن أترك جماعة الدعوة، من حيث السياسة لا من حيث

الانتساب، ومنذ ذلك الحين أسست مدرسة في بيشاور اسمها دار القرآن والحديث

السلفية، وهي ومنذ ذلك الحين والحمد الله قائمة، ولا زلت ألقي الدروس فيها من

كتب الحديث والعقيدة والآداب وغيرها.

البيان: ذكرتم أنكم كنتم على صلة وثيقة بالشيخ جميل الرحمن رحمه الله فما

هي خلفيات تلك العلاقة؟

الشيخ غلام الله: كنا في ذلك الحين الذي كنت فيه محبوساً في ولاية قندز

وغيرها بتهمة تخريب العقيدة والإخلال بالأمن، كنت أنتقل من سجون مديرية إلى

مديرية لاعتقادهم بأنني أخرب عقائد المسجونين أيضاً، وفي آخر عهد داود سمعت

في السجون من بعض الإخوة أن هنالك رجلاً له تركيز على توحيد الألوهية، ويرد

على القبوريين ويسكن في مدينة كونار، فسمعت به ولم أره، وبعدها هاجرت إلى

باكستان سألت عنه، فقيل لي إنه قائد في الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار. وعند

ذلك جرى الاتصال بينه وبيني وعرفت أنه الرجل الذي سمعت عنه، وعرفت أن

الشيخ كان تلميذاً لأحد المشايخ الباكستانيين واسمه (مولانا محمد ظاهر) وكان

حنفياً وماتوريدياً ونقشبندياً، وسمى نفسه بالديوبندي؛ ومع ذلك كان له اهتمام

بتوحيد الألوهية فتأثر به الشيخ جميل الرحمن، ولكنه كان ذكياً ذكاءً فائقاً، فاستقل

بنفسه وطالع كتب شيخَيِ الإسلام وكتب أهل السنة فوقع فيه التغيير حتى صار

سلفياً.

ولما اجتمعنا في بيشاور، قلت له: إنك لا تستطيع أن تبقى مع هذه

المنظمات إلى النهاية، فلا بد أن نؤسس منظمة خاصة بالسلفيين، فأولاً ما كان

موافقاً، ثم وافق لما عُزل عن إمارة كونار من جانب الحزب الإسلامي لحكمتيار،

فاغتنمت الفرصة وقلت له: لا بد أن نؤسس جماعتنا، واتفقنا هناك وأسسنا جماعة

الدعوة.

البيان: ذكرتم أنكم هاجرتم إلى باكستان، ولم تكن لكم مشاركة في نشاط

الأحزاب الإسلامية؛ فكيف تقوِّمون أداء تلك الأحزاب في الفترة التي أعقبت

انسحاب الروس بدءاً من أيام صبغة الله مجددي القصيرة؟

الشيخ غلام الله: كان بعد مقتل الشيخ جميل الرحمن رحمه الله أن اتفق أركان

الشورى في جماعة الدعوة على أن يجعلوا الشيخ سميع الله خلفاً للشيخ جميل

الرحمن، وفي ذلك الحين في وقت إمارة الشيخ سميع الله، انسحب الروس من

أفغانستان، واجتمعت المنظمات الجهادية في إسلام أباد بباكستان واتفقوا على أنه لا

بد أن يكون هناك حكومة بديلة لحكومة الشيوعيين في أفغانستان، واتفقوا على أن

يكون الشيخ صبغة الله مجددي رئيساً لمدة شهرين، وبعدها يكون على رأس هذه

الحكومة المؤقتة الشيخ رباني، وعلى هذا الأساس شغل صبغة الله مجددي كرسي

الرئاسة وأصبح رئيس الجمهورية، ولكنه عجز لأنه ليست له قدرة، وكانت

منظمته أصغر المنظمات كلها، وكان تنفيذ الأوامر في عهده لمسعود ودوستم،

ويدل على ضعفه أنه عندما تولى الرئاسة ذهب بنفسه إلى دوستم بدلاً من أن يأتي

إليه دوستم، وأعلن عنده في مزار الشريف أنه خالد بن الوليد في هذا العصر.

وفي هذه المدة اتفق أعضاء شورى جماعة الدعوة على الانضمام إلى هذه

الحكومة حتى لا تبقى الجماعة منزوية في باكستان ولا يكون لنا دور في الحكومة

المستقبلة في أفغانستان. ولكني خالفت هذا الرأي؛ فصبغة الله كان رجلاً صوفياً

خرافياً، يصنف في الشرك الصراح البواح، منه أنه صنف كتيباً باسم: (متن

بيانية صبغة الله مجددي) وقد كان كتب فيه أن هذا العالم له أربع زوايا وفي كل

زاوية منها ولي من أولياء الله يُسمى القطب أو البدل، وهؤلاء الأقطاب الأربعة

يتصرفون في الأكوان. وكنت قد اتصلت بصبغة الله المجددي في حياة الشيخ جميل

الرحمن، وقلت لصبغة الله في الاتصال التليفوني إنني أُخبرت بأنك ألفت كتاباً

اسمه كذا، فهل هذا صحيح؟ قال نعم، تريده؟ قلت: لا أريده فقد وصل إليَّ،

ولكن أريد أن أناقشك في هذا الكتاب فإن لي عليه ملاحظات، فسألني عن اسمي،

فقلت له أنا غلام الله من قندز، وكان يعرفني بالاسم، فضحك وقال: آه، عرفتك

أنت الوهابي الكبير الذي خرب عقائد المسلمين في أفغانستان، والآن تريد أن

تخرب عقائد المهاجرين في مخيمات باكستان، وأغلق السماعة ولم يجب بلا أو

بنعم.

البيان: وما هو رأيكم في فترة رئاسة رباني؟

الشيخ غلام الله: جاء رباني بعد مضي عهد ضبعة الله مجددي وشغل كرسي

رئاسة الجمهورية لمدة ستة أشهر، ولكنه لم تكن له سلطة حتى في كابول، وما

كان يستطيع أن يخرج من كابول إلى مدينة أخرى بسبب التقاتل بين الأحزاب،

وكانت كابول نفسها موزعة على عدة منظمات من الشيوعيين والشيعة، وكان

الحساب الكبير لهم في كابول، وكانت هناك منطقة أخرى تحت سيطرة حكمتيار،

ولهذا لم يكن رباني يستطيع أن ينتقل من منطقة إلى منطقة في كابول، ولكن كان

بالاسم رئيس جمهورية، وما وقع في زمنه شيء يسمى حتى يقال إنه فعل هذا، إلا

أنه وقع تقاتل بينه وبين حزب حكمتيار، قُتل بسببه أزيد من خمسين ألف مسلم،

ووقع تقاتل آخر بين حزب عبد رب الرسول سياف والشيعة، وقتل منهم كثيرون،

وكذلك وقع تقاتل بين حزب رباني وحزب دوستم، ثم وقعت تغيرات في العلاقة

بين دوستم وبين رباني، حتى إن رباني أعلن دوستم نائباً له وقت سفره إلى مصر،

وكان في ذلك الوقت نفسه يستقبله استقبالاً لا يوجد مثله في التبجيل والتعظيم،

وكان يعلن أنه القائد الكبير والفاتح الكبير لأنه فتح كابول، وبعد ذلك وقع خلاف

بين الحزب وبين دوستم، فأعلن رباني أن دوستم كافر شيوعي دهري يجب قتاله

وقتله! فهذا ما وقع في فترة رئاسة رباني ما وقع شيء آخر.

البيان: هذا الذي ذكرتموه يدخل في الأمور السياسية وخلافاتها المعقدة، ولكن

ماذا عن واقع المجتمع الأفغاني نفسه، هل طرأ تغير عليه في ظل حكومة رباني

سواء في مدة الرئاسة المؤقتة لمدة ستة أشهر، أو في فترة التمديد التي استمرت

لأربع سنوات؟

الشيخ غلام الله: في زمن رباني وصلت الأمور من الفحشاء والفجور والظلم

والقتل والتعدي إلى أوجها؛ بحيث كان لا يمكن أن تزيد على ذلك، فوقع في عهده

أمور ينبغي أن يُبكى عليها، ولكن رباني ما كان يملك سلطة لأن يمنع هذا، يعني

كان كل قائد يتعامل معه كأنه غير مسؤول، بينما كل قائد كأنه لا يسأل عما يفعل،

فما كان هناك أمن، وما كان رجل عادي يستطيع أن يذهب من قرية إلى قرية

أخرى إلا وكان يخاف من القتل ومن الإغارة على أمواله وعرضه.

وكان الشيخ سميع الله في ذلك الحين قد ذهب إلى رباني وتكلم معه فوعده

رباني بأن يعطيه وزارة، ثم أعطاه بالفعل وزارة الشهداء والمعوقين، فقال لي

الشيخ سميع الله: لا بد أن نذهب إلى كابول لنشغل الوزارة. فقلت له: لو كان

الشيخ مخلصاً لك وللسلفية لكان أعطاك وزارة التعليم والتربية، فماذا نفعل بوزارة

الشهداء والمعوقين؟ يبدو أنه أحس أنك لك ارتباطات بالمحسنين في الخارج فلعلك

بها تستطيع أن تجمع التبرعات، أما أنا فلا أريد الاشتراك في هذه الوزارة. ولم

تكن في عهد رباني إدارة أو لجنة أو هيئة أو وزارة للأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، لنعمل بها.

البيان: لو تجاوزنا ما وقع بالفعل، وتحدثنا عن النية المعلنة في الإصلاح،

هل كانت هناك مشاريع لخطوات إصلاحية على طريق تطبيق الشريعة؟

الشيخ غلام الله: لا، لا، ما كان هناك قدرة حتى على ذلك؛ لأن رباني كان

لا يستطيع في بعض الأحيان أن يخرج من مسكنه؛ فما كان يستطيع أن يحمي

نفسه فضلاً عن أن يطبق الشريعة، كانت المزارات والأضرحة مثلاً تزار وتعبد

بجميع أنواع العبادات وما فعل في هذا شيئاً، وكان التبرج أشد من تبرج الجاهلية

الأولى وما فعل في ذلك شيئاً، وكان الظلم وصل إلى حد نهائي، فما كانت

الرءوس في أمن ولا الأموال في أمن، ولا الأعراض في أمن، ولا أي شيء كان

في أمن، ما جاء بشيء، حتى لو أراد ذلك فما كان يستطيع، كان قطاع الطرق

كثيرين، وما كان هناك مرجع للدولة وما طبق من الشرع شيئاً، بل في حين صار

حكمتيار رئيساً للوزراء، أنا بنفسي سمعت من المذياع أن حكمتيار أعلن أنه لا بد

أن تغلق دور السينما ويمنع الفساد وفرح ناس كثيرون بأن حكمتيار سيأتي بشيء

نافع، وأمر بمنع التبرج للنساء أيضاً، ولكن في الغد أعلن مسعود نفسه الذي كان

حاكماً بالحقيقة، أن الذي أعلنه حكمتيار بالأمس من المذياع كان يمثل رأيه

الشخصي وليس رأي الدولة. فهذا ما كان عند رباني، ما فعل شيئاً حتى أذكره،

وإن شاء الله لست ممن كانت بينه وبين رباني عداوة، بل بالعكس كان رباني

أقرب إلى أهل السنة من بقية قواد المنظمات؛ لأنه كان أعلن سابقاً أنه يريد تطبيق

الكتاب والسنة من غير تقيد بمذهب معين، ولكن بعد أن صار حاكماً ما فعل شيئاً،

بل كان من كان موالياً له ولياً من الأولياء، وكل من خالفه كان واجب القتل مباح

الدم.

البيان: هناك من يقول: إن ولاية رباني كانت ولاية شرعية وأنه ما كان

يجوز الخروج عليه؟

الشيخ غلام الله: لا يستطيع أحد عنده أدنى علم أن يقول إن هذه الحكومة

حكومة شرعية، كيف تكون حكومة شرعية؟ ومدتها ستة أشهر أو شهرين فهذا

أول شيء خلاف الشرع.

البيان: لكن الستة أشهر كانت مؤقتة فقط حتى تُجرى انتخابات.

الشيخ غلام الله: نعم! ولكنه مددها بنفسه وقبضها بالقهر بعد ذلك، وقد وقع

القتال لهذا الأمر، أنه ما ترك الحكومة بعد ستة أشهر، وقال: أنا حاكم شرعي لا

أترك الحكومة. فلهذا هو ليست له صفة شرعية، ولأن الحكومة لا بد أن تكون لها

السلطة، وهو ما كانت له سلطة، والحكومة هي التي تقيم الأحكام والحدود، وهو

ما كان يستطيع ذلك بل كل من كانوا في نظام نجيب ظلوا في عهده يعملون في

الدوائر الحكومية، فقد كانت حكومته بالاسم فقط.

البيان: هل نستطيع أن نقول إن هذه الأحوال المتردية التي كانت سائدة في

عهد رباني كانت سبباً مباشراً في نشوء حركة طالبان؟

الشيخ غلام الله: نعم! هذا أقوله، وأستطيع أن أقول أيضاً: إن حركة

الطالبان تولدت عن حكومة رباني؛ لأن حكومة رباني جرَّت إلى أن توجد حركة

لمواجهة حالة الفحشاء والفجور، لمنع أوجه هذه المفاسد، وقد قلت لك قبل ذلك ما

هي الحالة التي وصلت إليها البلاد في عهد رباني، وكانت الفوضى والفساد هي

السائدة في كل شيء، وسأذكر لك أحد الأسباب في نشوء حركة طالبان، كان محمد

عمر طالباً؛ لكن ليس له كثير علم، وكان من قبل يجاهد في أحد المنظمات

الجهادية، وبعد خروج الروس ترك كل شيء بظن أن هناك حكومة مجاهدين وأن

الأمر انتهى بذلك بعد الجهاد مع الروس فعاد إلى طلب العلم في باكستان، وفي يوم

جاءه أحد أقربائه من الأفغان في مسجده وهو يبكي، فسأله محمد عمر: لماذا تبكي

هل مات لك أحد؟ قال: لا، الموت أهون ولو متنا جميعاً؛ فالأمر الذي أبكي منه

أشد. وكان الرجل من روزجان وهي ولاية من الولايات المركزية في أفغانستان في

الوسط، وبدأ يحكي قصته لمحمد عمر، فقد مرضت زوجته وأراد أن يذهب بها

إلى باكستان للعلاج فأخذها في السيارة، وفي الطريق كان كل قائد له منطقة معينة

هو حاكم فيها، تفرض الجبايات والإتاوات على الناس وعلى المارين بمنطقته،

فجعل هذا الرجل كلما مر على نقطة يوقف للتفتيش، وتؤخذ منه الجباية والنقود،

فمر على العديد من نقاط التفتيش حتى جاء إلى منطقة تفتيش أخيرة، فأوقفه أحد

القواد وطلب منه النقود، فقال ليس معي شيء وما بقي معي شيء فكل النقود

أُخذت في نقاط التفتيش السابقة، وزوجتي مريضة وأريد أن أذهب لعلاجها في

باكستان. فقال: إذن اتركها عندي وأنا أعالجها، فقال: هل عندكم مستوصف؟

قال: لا، تتركها عندي ثلاث ليال ثم ترجع فتجدها صحيحة. فعلم أنه يريد الشر،

فوقع عراك بينهما، فجاء رجاله وضربوا الرجل ضرب قتل، وظنوا أنه قتل

فألقوه في غرفة وأخذوا المرأة، ولكن الرجل أفاق في ظلمة الليل وتسلل وهرب

حتى وصل إلى الملا عمر: وحكى له القصة، فقال له الملا عمر: لا بأس امكث

هنا، وأنا بعد ستة أيام سأرجع إلى أفغانستان في قندهار، وسأشاور بعض الإخوان

ثم أرجع إليك، إن ما تحكي عنه هو انقلاب على الإسلام.

وذهب الملا عمر وجمع زملاءه من زمن الجهاد ضد الروس، وكانوا يبلغون

نحو سبعة عشر رجلاً وهم الذين ظلوا معه بعد ذلك، وكانوا وزراء في حكومته،

جمعهم وقص لهم ما حكاه الرجل وقال: لقد جاهدنا لسنوات عديدة، أفتكون ثمرة

جهادنا هذا أن نسمع عن الظلم والفجور، أرى أننا الآن مطالبون أن نعمل بما علمنا،

ليس الآن وقت زيادة العلم، بل وقت العمل بما علمنا. فاتفقوا كلهم على ضرورة

العودة للجهاد، فقاموا وأخذوا أسلحتهم وهجموا على النقطة التي أخذ قائدها المرأة،

فقتلوا بعضهم وأسروا بعضهم وفر بعضهم، وقتل قائدهم الذي فعل تلك الفعلة

الشنيعة، فلما قُتل، كان معه خمسمائة مقاتل، فانضموا جميعاً للطلبة، وقالوا إن

قائدهم هذا كان فاسقاً فاجراً ولم يكونوا يستطيعون مخالفته؛ لأنه كان يقتل كل من

يخالفه، أما أنتم فقد أحسنتم ونحن معكم.

وقرر الطلبة بعد ذلك الذهاب إلى أحد القادة الذين عرفوا بالفساد، ولكنه سمع

بالخبر وفر، وانضم الكثير من جنوده إلى طالبان، ولما عادوا إلى قندهار صارت

تحت قيادتهم بغير قتال، ثم سيطروا على ولاية هلمند، وفي ذلك الوقت كان

الوضع السياسي بين أفغانستان وباكستان غير جيد، لأن مسعود كان توجهه مخالفاً

للحكومة الباكستانية أشد الخلاف، وكانت وجهته إلى الروس أكثر من توجهه إلى

البلدان الإسلامية، وكان له وجاهة عند الفرنسيين، وكان هناك رجال فرنسيون

مستشارون يتعاونون معه، وكانت الحكومة الباكستانية تخاف أن تدوم حكومة رباني

وتظل متوجهة إلى الروس، والروس تتعاون مع الهند والهند عدوة لباكستان،

وهذا يضرها كثيراً، فلما سمعت الحكومة الباكستانية بحركة الملا عمر اتصلت به،

وعرضت مساعدته.

واستمر الملا عمر في السيطرة على كثير من الولايات فلما وصلوا إلى ولاية

حكمتيار وكان في ذلك الوقت على أشد القتال مع رباني، اغتنم رباني الفرصة

واتصل بالملا عمر هو ومسعود وسياف، واجتمعوا مع قيادات طالبان ورحبوا بهم

وقالوا لهم: أنتم خليقون وحقيقون بأن تكونوا أمراء في أفغانستان لأنكم فعلتم أشياء

كثيرة.

وقد لاحظنا أن طالبان كانت كلما سيطرت على منطقة شكلوا لجنة للأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم يقيمون الحدود، فاستتب الأمن بسرعة،

وأستطيع أن أقول: إن الأمن الذي أقاموه إذا لم يكن أزيد من الأمن الذي تقيمه

الدول فهو لا يقل عن ذلك، ولهذا كان الجميع فرحين لهذا الأمر بعد معاناة الفوضى

والتقاتل، فجاء رباني حسب ما سمعت، وأبرم معهم اتفاقاً أنهم إن قضوا على

أصحاب الشر والفساد ووصلوا إلى كابول فسوف يتنازل رباني لهم، وبدأ مسعود

وسياف يساعدون طالبان بالسلاح والمال، ولكن كان المقصود القضاء على

حكمتيار، فلما تسلط الطالبان على منطقة حكمتيار بعد قتال قليل، فر حكمتيار إلى

(لغمان) وأمر بانسحاب قواته معه، ولكن الكثير من جنوده انضموا إلى طالبان،

ثم تقدم الجميع نحو كابول، وطلبوا من رباني قبل أن يدخلوها أن يعمل بما قال،

فقال لهم: أنتم مجانين؟ أنتم طلبة المدارس الدينية تريدون أن تأخذوا الحكومة؟ أنا

حاكم شرعي لدى القادة والرؤساء في الداخل والخارج، الآن يجب عليكم أن تذهبوا

إلى مدارسكم وتتركوا الأمر لنا. فلما سمعوا هذا الرد، وقع القتال بينهم وبين

رباني، وفي تلك الفترة قتلوا قائد قوات حزب الشيعة علي مزاري، وكان صاحب

أكبر قوة بعد قوة حكمتيار. ففي كابول وقع قتال بين طالبان وبين الشيعة، وبين

طالبان وسياف، وبين طالبان ومسعود ورباني، دون أن يصل إلى نهاية، ولجأ

رباني إلى حكمتيار مرة ثانية، وأرسل وفداً إليه وقال: كلانا إخوان، وطالبان عدو

مشترك لنا جميعاً. ودعاه إلى كابول وعينه رئيساً للوزراء، ثم وقع الخلاف بينهما؛

لأن حكمتيار أعلن ضرورة محاربة الفساد والفجور وتقليل النساء في الدوائر

الحكومية وخطَّأه في ذلك مسعود، فوقع القتال مرة أخرى مع طالبان وسيطرت

طالبان على كابول، وأخرجت رباني وحكمتيار إلى الشمال، وخرج الشيخ سميع

الله إلى بيشاور.

البيان: هل راقبتم سلوك طالبان في الأيام الأولى لدخول كابول؟

الشيخ غلام الله: بعد عدة أشهر من سيطرة طالبان، أعلنوا القضاء على

المزارات، وقالوا هذه أشياء لا تجوز، وكان منها ما تسمعون عنه في مزار شريف،

فهناك مشهد أو ضريح منصوب على قبر يقال إنه قبر علي رضي الله عنه،

ويسمى هذا القبر في أفغانستان (السخي) وهو وصف يعنون به من يعطي كل ما

سُئل لكل من سأل، وكان هذا القبر يأتيه الرجال والنساء والمعوقون والعميان كلهم

يطمع أن هذا السخي يقضي حاجتهم، وكانت هناك عادة في أفغانستان موجودة حتى

قبل ولادتي وهي أن كل ملك في أفغانستان إذا جاء، فلا بد في أول يوم من برج

الحمل وهو أول أيام النيروز لا بد أن يرفعوا في عهده راية باسم راية مزار السخي،

وكانت الحكمة عندهم من هذا الرفع أن هذه الراية إذا رفعت وقامت ولم تسقط

فهي أمارة عدم سقوط الدولة، وإذا سقطت فهذه علامة سقوط الدولة، وكانت العطلة

تعلن لمدة ثلاثة أيام بمناسبة رفع الراية في كل عام، وكان الناس يأتون فيها إلى

ذلك المزار في زحمة شديدة لا يُرى مثلها إلا في مكة أيام الحج، فلما وصلت

طالبان وقرب عيد رفع الراية، أعلنوا أن هذا العمل غير مشروع وغير جائز،

وهذا عمل ضد الإسلام ولن يُفعل هذا بعد اليوم، ولن يستطيع أحد أن يأتي إلى

المزار خلال تلك الأيام الثلاثة، ولن توجد فيها عطلة، وكل من سيتغيب عن عمله

في هذه الأيام الثلاثة سوف يفصل من وظيفته؛ فمنعوا هذا الشرك. وهكذا فعلوا

في داخل كابول وفي جميع أفغانستان؛ فقد كانت هناك قبور تزار وتعبد، فقط

استثنوا يوم الخميس بين الظهر والعصر لزيارة المقابر الزيارة الشرعية فحسب.

وأعلنوا أن كل من زار هذه المزارات للاستعانة بها والاستمداد منها أو الاستشفاع

بها أو توسل بها فهذا غير جائز، وفاعله يمكن أن يحبس أو يضرب أو يقتل إذا لم

يرجع، هذا حدث بعد مجيئهم بعد حكومة رباني.

البيان: هل كانت لكم تجربة شخصية في معاينة هذه الأحوال، أم أنكم سمعتم

بها فقط؟

الشيخ غلام الله: نعم كانت لي تجربة، فهناك في كابول كان هناك مزار

اسمه (شاهد شامشيراه) ومعناه: مشهد الملك ذي السيفين، وكان مشهداً معروفاً

مشهوراً، وهذا الملك يقولون إنه كان يقاتل ضد الأعداء بسيفين، فلما انقطع

السيفان قتل واستشهد ودفن هناك، وكان هذا المشهد يُعبد بجميع أنواع العبادات،

وأنا كنت قد دخلت بنفسي داخله، فكان مكتوباً على أحجاره وعلى جدره الأقوال

الشركية والأشعار الكفرية، وكان مكتوباً بالبشتونية عند الضريح: (ليس لنا معاذ

ولا ملاذ ولا ملجأ إلا إياك) ، هكذا، وفي ذلك الحين جئت إلى كابل وتكلمت مع

الشيخ رباني وأيضاً كان الشيخ سميع الله موجوداً، فقلت: أنتم أعلنتم الحكومة

الإسلامية، وقلتم إنها جمهورية إسلامية، فلماذا لم تقضوا على هذه المراكز

الشركية؟ فضحك رباني وقال: يا شيخ! أنت تريد حكومة إسلامية أوتوماتيك

عليكم بالصبر، قلت: لا بد أن تكون على الأقل لجنة للأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر؛ لأن هؤلاء يموتون على الشرك ولا بد من وجود من يمنعهم عن هذه

الشركيات. فضحك وقال: لا تكون الحكومة الإسلامية بشكل أتوماتيكي.

ولكني رأيت أنه لما جاء الطالبان قضوا على كل شيء، وأخرجوا كل شيء

من هذه الأضرحة، وأغلقوا أبوابها ومنعوا زيارة القبور إلا الزيارات الشرعية،

ومنعوا زيارة النساء مطلقاً للمقابر. وقد جئت في زمن الطالبان بعد أن أشيع في

بيشاور أنهم عملاء أمريكا وأنا أيضاً كنت قبل أن أجيء أفغانستان كنت أقول من

هم هؤلاء الطالبان؟ كنت أيضاً أظن إنهم عملاء أمريكا، وعملاء باكستان، وقد

كان يقال عنهم أيضاً: إنهم قبوريون مشركون وفئة خرافية أشعرية ماتوريدية، كل

هذا قبل أن آتي إلى أفغانستان، ولما أتيت إليها جئت متخفياً لأني كنت أيضاً أخاف

أن يقتلني هؤلاء القبوريون! ، فدخلت متخفياً، ولكن اتُّفق أنني عندما جئت كان

معي في هذه السيارة رجل معه طفل وطفلة وامرأة، ومعه كيس مملوء يشبه المتكأ

أو الوسادة، فلما وصلنا إلى كابول وضع هذا الرجل الكيس أمام واجهة مطعم ثم

أنزل ابنه وبنته وامرأته، ونزلت أنا أيضاً وسكنت في الفندق، وبِت هناك، وفي

الغد مررت على ذلك المكان الذي فيه المطعم، فلاحظت أن ذلك الكيس الذي

وضعه الرجل لا يزال في مكانه فقلت في نفسي: أليس هذا الكيس الذي تركه

الرجل بالأمس؟ ولم أهتم كثيراً وقلت لعله غيره، ثم بعد يومين مررت فكان

موضوعاً هناك، وبعد ثلاثة أيام وجدته موجوداً هناك أيضاً، وكنت قد نويت أن

أمر على مزار (شاهد شامشيراه) وأنا أعتقد أن طالبان قبوريون، فقلت: سأرى

ماذا زادوا في هذا المزار من الشركيات، فلما وصلت وجدت الباب مغلقاً وكان

معي أربعة زملاء كلهم ملتحون من طلبة العلم، فطرقت الباب، فجاء رجل ذو

شيبة وفتح، لكنه كان يُرى حزيناً أسيفاً.

البيان: عفواً ... ما أكملت فضيلة الشيخ ماذا حدث للكيس؟

الشيخ غلام الله: أنا آتيك بالحديث، لم أنسه، فالحديث مربوط ببعضه.. لما

دخلت إلى الضريح، دخلت منتعلاً، وكان هذا أمر ممنوع، ولكننا دخلنا بالنعال

غير مبالين، فظن الشيبة أننا من الطالبان فسكت، ودخلت إلى المزار فلم أرَ

لوحات شركية ولا أي أشياء شركية لم أرَ إلا لوحة واحدة مكتوب فيها حديث:

(كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكِّر الآخرة) ، مع لوحة أخرى

مكتوب عليها: (من جاء إلى هذا القبر متوسلاً به أو مستشفعاً به أو مستمداً به

فجزاؤه القتل) ، ففرحت فرحاً شديداً، وقلت: هذا والله الأمر الذي كنا نطلبه من

قبل، فخرجت أخاطب الشيخ الحارس، وقلت له: أين الزوار واللوحات وصناديق

النذور، أين هي؟ فظن الرجل أنني قبوري حزنت على ما جرى للقبر، فقال:

اسكت، هؤلاء طالبان لو سمعوا بك فإنهم يقتلونك، هؤلاء كفرة وهابية منعوا كل

هذه الأشياء. ففرحت فرحاً شديداً، ثم نصحته بعد ذلك، فلما فهم أن رأيي من رأي

طالبان حزن، وقال: نعم! هم يقولون مثل ما تقول. ثم ذهبت تاركاً المزار

وذهبت إلى السوق فلم أرَ امرأة واحدة متبرجة، وقبل ذلك كانت كابول التي أعرفها،

كان التبرج منتشراً فلما جاءت الطالبان منعوا كل هذا، ومنعوا النساء من العمل

في الدوائر الحكومية كلها، في الأول أعلنوا أن كل أمرأة تعمل وتحصل على راتب

ستعطى راتبها على أن تجلس في بيتها إذا كانت تربي أيتاماً. ورأيت أنهم منعوا

الأغاني والفجور.

أمضيت في كابول أسبوعاً وبعده أردت أن أرجع من كابول، فجئت إلى

الموقف الذي كان فيه الكيس عند المطعم فلم أجده، وأثناء انتظار السيارة، سألت

صاحب المطعم: كان هناك من عدة أيام كيس هنا أين ذهب؟ قال لي: يا شيخ!

لهذا الكيس قصة عجيبة. قلت وما هي؟ فقال: هذا الكيس لواحد من الرجال جاء

من بيشاور بباكستان، وكان بيته في هيرات فلما نزل في كابل نسي الكيس وذهب،

والبارحة جاء وأخذ الكيس، وكان الكيس موكأً ومربوطاً بخيط، فلما فتحه ظهر

أنه كان مملوءاً بالفلوس، فمازحته وقلت: وأين كنت أنت طيلة هذه المدة، كنت

ميتاً أو نائماً؟ فقال: يا شيخ! طالبان يمسكونني ما أحد يجرؤ على ذلك؛ لأن

طالبان يختبئون هناك وينظرون من يمد يده بالسرقة فيقطعونها. هذا الأمر أيضاً

رأيته.

فلما رجعت إلى بيشاور، ألقيت خطبة الجمعة، وقلت فيها: إن طالبان

أحسن بكثير ممن كانوا قبلهم. فأُخبر بذلك بعض زملائي وقالوا: يا شيخ! كيف

ألقيت الخطبة؟ فقلت لهم: على السُّنة وما فيها من الواجبات والسنن، قالوا: لا

نريد هذا، لكن ماذا قلت عن طالبان؟ فقلت: الذي رأيتم، فقالوا: كيف تقول هذا

وهم مشركون؟ قلت: والله شيء عجيب! كيف هم مشركون وقد رأيتهم منعوا

المراكز الشركية، هم قضوا على الشركيات، هذا رباني نفسه رفع الراية لمزار

شريف في عيد النيروز في عهد حكومته.

فقلت له: إذن هم فعلوا هذه الأشياء من منع المراكز الشركية، وأنتم ما فعلتم

وقلتم إن الحكومة الإسلامية لا تأتي بطرق أوتوماتيكية، ولكنهم لما وصلوا فعلوا

هذا الشيء؛ فكيف هم مشركون؟ ! ثم قلت: والله إن الإنسان في هذه الدنيا يحتاج

إلى شيئين: إلى الأمن للتعايش في الدنيا، والإيمان للتعايش في الآخرة، وهؤلاء

الطالبان وإن يقال عنهم في إيمانهم شيء، لكن والله جاءوا بالأمن ونطمع ونتوقع

أن يجيئوا بالإيمان أيضاً، أما أنتم فلم تجيئوا بالأمن ولا بالإيمان، هكذا قلت،

فانتشر هذا الكلام بين المهاجرين والمجاهدين.

البيان: هل التقيت أعضاء من حركة طالبان وسمعت منهم؟

الشيخ غلام الله: نعم! أنا ذهبت إلى أفغانستان مرة أخرى، والتقيت ببعض

الإخوة هناك فرأيتهم صالحين عقيدة وعملاً، فهذا محمد رباني الذي كان رئيساً

للوزراء ومات رحمه الله التقيت به، وسمعت منه والله كلاماً عجيباً غريباً، فقد

كان يريد أن يأتي بالحكومة الإسلامية في أفغانستان مئة بالمئة، ولأجل ذلك قضوا

على مظاهر الفجور والفحشاء، وأيضاً على كل مظاهر الشرك، وقد بدءوا بذلك

في قندهار نفسها، فقد كانت هناك خرقة منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه

وسلم، كان قد جاء بها أحد الملوك اسمه أحمد شاه أبدالي، جاء بها من بخارى

ووضعها هناك، كانت هذه الخرقة تُعبد بجميع أنواع العبادات، قولية عملية بدنية

فعلية ومالية، كانت هذه الخرقة موضوعة على مشجب محفوظ وتحتها مكان مفرغ،

كان الناس ينزلون تحتها ويطوفون حولها ويتمسحون بها ويتبركون، فلما سيطر

الطالبان على قندهار، أخرجوا هذه الخرقة، وقالوا للناس: هذه الخرقة لا يوجد

دليل على أنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لما كان هناك احتمال فنحن

نحفظها، ولكن لا يجوز لكم أن تطوفوا بها وتتمسحوا بها وتصلوا إليها. فمنعوا

ذلك وحفظوها في مكان آمن.

الشاهد أني ألتقيتهم فوجدتهم أخي الكريم بحسب ما أرى صالحين، والله أنا ما

بايعت طالبان، ولا عملت معهم ولا جاءني إلى هناك أحد منهم، ولكني أقول الحق؛

لأن المسلم لا بد أن يتكلم بالحق ولا يُفرِّط ولا يُفرِط؛ فالناس في مواقفهم من

الطالبان بين الإفراط والتفريط، بعضهم قالوا إنهم كلهم سلفيون سلفية محضة،

وهذا خطأ، وبعضهم قالوا كلهم مشركون. وهذا والله كذب، فحسب ما رأيت

الطالبان والتقيت بهم رأيتهم فيهم ثلاثة أصناف:

الطبقة الأولى: والأكثرية حنفيون تعلموا في المدارس الديوبندية، ولهم

تركيز على التوحيد في الألوهية والربوبية، وأما في الأسماء والصفات فهم أشعرية

ولكنهم غير متعصبين، وقد ناقشت بعضهم في بعض مسائل التوحيد في الأسماء

والصفات، وقلت: كيف تركتم مذهب أهل السنة والجماعة وتركتم مذهب أبي

حنيفة في العقائد وأنتم تقولون إنكم حنفية في الفروع، هل أساء أبو حنيفة في

الأصول فتركتم عقيدته؟ فكانوا يضحكون ويقولون: هكذا علمنا أساتذتنا، وقال

بعضهم: هذا الإمام ابن حجر العسقلاني أليس أشعرياً؟ ! قلت: نعم. قال: هل

تكفرونه؟ قلت: لا، قال: هذا أيضاً الإمام النووي كان أشعرياً، هل تكفرونه؟

قلت: لا، فالذي فهمته أنهم كانوا غير متعصبين وغير داعين إليها، وكانوا يحبون

السلفية.

والطبقة الثانية: والله هم سلفيون، وأعرف منهم عبد الوكيل متوكل وزير

خارجية طالبان، وهذا ابن الشيخ عبد الغفار وهذا الشيخ قتل بتهمة الوهابية، قتلته

الحكومة الأفغانية الشيوعية في المطار لما رجع من الحج، قتلوه وقالوا: إن لك

علاقة مع الوهابية، وأسرة عبد الوكيل أسرة سلفية وأنا أعرفهم منذ أربعين سنة،

وهكذا يوجد آخرون أيضاً، منهم واحد اسمه عبد الرقيب وهو خريج الجامعة

الإسلامية بالمدينة المنورة، هذا عقيدته سلفية، وكان وزير المهاجرين وأيضاً أحمد

جان، وهو أيضاً سلفي وأنا أعرفه وكان وزيراً للمعادن والصنايع وكثير منهم هكذا.

والطبقة الثالثة: يوجد فيهم من هو صوفي، ولا أريد أن أسمي أحداً منهم

حتى لا أسبب خلافاً، ولكن هؤلاء قِلة، هذا حسب ما أرى وأعلم من الطالبان،

وهذا الذي أدين الله به.

البيان: مصطلح الديوبندية، هل تلقون ضوءاً حوله؟

الشيخ غلام الله: في الهند منطقة اسمها (ديوبند) كان بها مدرسة كبيرة

أسسها بعض العلماء واشتهرت بـ (المدرسة الديوبندية) ، فكل من يتخرج من

هذه المدرسة يسمى ديوبندياً، وهم أحناف ولكن فرق بينهم وبين عامة الأحناف،

يعني عامة الأحناف فيهم بيرلورية أيضاً، وهؤلاء الديوبنديون مخالفون أشد

الخلاف للبيرلوريين إلى حد التكفير، وهم لهم تركيز على توحيد الألوهية

ويعارضون القبورية وأكثر الديوبندية ماتريدية، فهذه هي الديوبندية ومن تلاميذ

مدرسة الديوبندية كان هناك واحد من المشايخ اسمه عبد الحق، ديوبندي وهو في

بيشاور وله مدرسة هناك باسم المدرسة الحقانية على اسمه، وكان عالماً كبيراً

تدرس عليه كتب الحديث كلها، وهؤلاء الطالبان أكثرهم تخرجوا من هذه المدارس

وأما الملا عمر، فهو ليس ديوبندياً ولا حنفياً؛ لأنه يعتقد الإجمال بجميع ما جاء به

نبي الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تبارك وتعالى، هكذا يؤمن ويعتقد، وأما

إذا استفصلت منه، فربما لا يعرف الماتوريدية ولا الأشعرية، وهو كان يعلن في

كلامه ويقول: أنا أريد إقامة الحكومة التي أقامها محمد رسول الله صلى الله عليه

وسلم في مدينة طيبة، وهي حكومة الكتاب والسنة. هكذا يقول. وهو ليس عالماً

ولكن يعمل بما يفتي به العلماء، ويقول: العلماء يفتون وأنا أعمل وأطبق ما يفتون

به. فهو ليس صوفياً ولا ديوبندياً ولكنه يحب السلفية وإن كان غير عالم بتفاصيلها.

البيان: ولكن هل تشعر بأنه صادق في كلامه ومواقفه؟

الشيخ غلام الله: والله يا أخي هو صادق عابد زاهد، والله إنه ليس من

أقاربي ولا من أنسابي ولا درس عندي ولا درست عنده، وليس من قريتي ولا من

بلدتي فهو من روزجان وأنا من قندز، والله حينما رأيته ظننت أن هذا الرجل مسلم

بالإسلام، وزاهد بالزهد، إذا توزع زهده وتقواه على كثير من أمثالي لوسعهم،

هذا ما رأيته عليه، فهو زاهد عابد، إذا تكلمت معه فقط يذكر الله ويدعو الله:

ياالله.. يا الله.. اللهم انصرنا.. وما النصر إلا من عند الله.. ويردد مثل هذه

الآيات.. إذا وقعت له مشكلة يكثر من الصلاة.

البيان: حدثتنا عن العلامات والدلالات الإيجابية عن تجربة طالبان، فكيف

ترون الأمور السلبية في مقابل الإيجابية؟

الشيخ غلام الله: أنتم تعرفون أنه ليس هناك في هذا العصر من ليست له

سلبيات قط، حتى في عهد صدر الإسلام كان في المجتمع سلبيات؛ وأما ما أتى به

طالبان فمصالحهم وإيجابياتهم أكثر وأكبر من سلبياتهم؛ لأني والله ما سمعت أن

ملكاً من الملوك أتى في أفغانستان بتطبيق الشريعة كما طبقها هؤلاء الطالبان؛ فهذا

القضاء على التبرج مثلاً كان من غير الممكن في الأفغانيين، خصوصاً في كابل،

وكان متعذراً عند الناس، ولكن أتى به الطالبان والحمد لله، وهذه القبور ... ما

حدث والله انقلاب كبير؛ لأن الأفغان أكثرهم جهال، ليس لهم علم، فإن كانوا

يُعذرون بالجهل فهذا أمر، وإلا فأكثرهم لا يعرفون شيئاً، ما من قرية في أفغانستان

إلا فيها قبور تعبد من دون الله، ولكن الحمد لله هم استطاعوا أن يحاربوا ذلك وقت

حكمهم، ولعلكم سمعتم عندما استولى تحالف الشمال على مزار الشريف، واحد من

الصحفيين سأل واحداً من هؤلاء أصحاب المزار وقالوا: كيف الحالة في المزار

الآن، هل الحال الآن أفضل أم الحال في عهد طالبان؟ فقال: ما تقول: أيها الأخ؟

أتدري ما حدث؟ اليوم يوم العيد لنا. قال: كيف ذلك؟ قال: لأسباب عديدة،

منها أنك ترانا ندخل المزار، وهؤلاء الكفرة منعونا خمس سنوات من الدخول إلى

هذا المشهد، والآن والحمد لله، ترانا الآن رجالاً ونساءً ندخل إلى المزار مختلطين،

والسبب الآخر لفرحنا أنك الآن لا ترى من يمنعنا من حلق اللحى، بل الناس

يقفون أفواجاً لحلق لحاهم، وسبب آخر: هذه النساء المظلومات كُنَّ مسجونات منذ

خمس سنوات.

ومع هذا نقول: لعل فيهم أخطاء، أخطاء سياسية، أخطاء دينية، ليسوا

معصومين ولا نقول إنهم سلفيون مئة بالمئة، فحتى السلفيون الذين يعدُّون أنفسهم

سلفيين ويشيرون إلى أنفسهم أنهم سلفيون، لهم سلبيات، نحن أسسنا هناك في

كونار جماعة سلفية، كان فيها خير كثير ولكن كان فيها سلبيات، كان عندنا قبور

فما استطعنا القضاء على بعضها، وكان عندنا تجارة مخدرات وما استطعنا القضاء

عليها، كان هناك من علمائنا من يشربون الدخان، فلا نستطيع أن نقول إن هناك

حكومة إسلامية تقضي على كل شيء سلبي، فالكمال لم يحدث حتى في عهد

الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكيف تفعله طالبان بعد انتهاء القرن العشرين؟

البيان: أشيع في الإعلام الدولي أن الشعب الأفغاني كان مكرهاً أو كارهاً

لحكم طالبان، ووصف بعض القادة الكبار في تحالف الشمال حكم طالبان بأنه كان

بمثابة (كابوس) على الشعب الأفغاني؛ فما تعليقكم؟

الشيخ غلام الله: هذا الكلام من وجه صحيح، ومن وجه آخر غير صحيح؛

فمثلاً الذين اضطروا لإبقاء لحاهم خوفاً كانوا غير فرحين لطالبان، والنساء

المتبرجات كن غير فرحات بطالبان، والذين كانوا معتادين على شرب الخمر أو

كانوا شيوعيين فكانوا أيضاً غير مؤيدين. أما عامة الشعب فكانوا يحبون طالبان،

فأكثر الناس على هذا كانوا راضين عن طالبان.

وأذكر لكم أن الملا عمر جمع الناس بعد القصف بثلاثة أيام وقال لهم: يا أيها

الناس! إن كنتم مللتم من هذا القصف فإنه سوف يشتد أضعاف أضعاف ما رأيتم،

فإن كنتم مللتم من هذا، سأسلم نفسي لهذا الكافر الغاشم بوش حتى أرفع عنكم هذا

البلاء والقصف، فكل الناس أجابوه بصوت واحد: لا. وقالوا: والله لو بقي منا

رجل واحد لما تركنا مقاومة الأمريكان، فهذا شعور عامة الناس، ولا عبرة بالفساق

وأصحاب الفجور والقبور.

البيان: مما يأخذه بعضهم على طالبان، أنها لم تشرك في حكومتها عناصر

من القوميات أو العرقيات الأخرى غير البشتون؛ فما رأيكم في هذه المسألة؟

الشيخ غلام الله: هذا الزعم، هو إما أن يكون ممن يجهل أحوال أفغانستان

وأحوال طالبان، وإما أن يكون ممن يريد العناد والتشويه لسمعة طالبان؛ فطالبان

من جميع المسلمين في أفغانستان من جميع القوميات والجنسيات، نعم أكثرهم

البشتون؛ لأن سكان أفغانستان ٦٥% من البشتون، فطبعاً يكون البشتون أكثر،

فإن يريدوا أن يقولوا إن البشتون أكثر فهذا صحيح، وأما إذا قالوا إنه لا يوجد في

صفوف قادة طالبان إلا البشتون؛ فهذا كذب محض.

البيان: انزعج الناس من الانسحابات المتتالية لطالبان بدءاً من مدينة مزار

الشريف ثم كابول ثم هرات وقندز وغيرها، فقد أشاع الإعلام أن هذا ضعف

واستسلام وهزيمة؛ فهل هناك تفسير آخر غير هذا التفسير الشائع؟

الشيخ غلام الله: ليس هناك ضعف؛ لأن كل هذه الانسحابات لم يقع قتال

بينهم وبين قوات الشمال حتى يقال إنهم أخرجوهم، هم خرجوا بأنفسهم، ولهذا فقد

أصبحوا هم وأمريكا محتارين، ويتساءلون: أين هم طالبان.. أين اختبؤوا؟

صحيح أنه وقع هناك قتلى ومصابون، منهم ومن أعدائهم، ولكن طالبان ليس

عندهم الآن إعلام حتى يعلنوا الحقيقة؛ فالإعلام الذي ينشر الآن كله من أعداء

طالبان وأعداء المسلمين، وعندما تسمع من نفس الطالبان أنفسهم فهناك أمر واضح

يعرفه الأعداء والأصدقاء أن الطالبان لا يكذبون، أما هؤلاء الأعداء فإنهم يكذبون.

البيان: نشكر فضيلة الشيخ غلام الله على تلبيته دعوة (البيان) لهذا

الحوار، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنه خالص الأعمال وصادق الأقوال وصلى الله

على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.