في إشراقة آية
[وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ..]
يقرر المتخصصون في علوم الأحياء والسلوك ووظائف الأعضاء أنه - وفي
كثير من الأحياء - يفوق الإحساس بالألم جميع الأحاسيس الأخرى، مثل الإحساس
بالجوع والعطش والمتطلبات العضوية الأخرى.
بمعنى آخر، أن هذه الأحياء قد يوقفها الألم عن طلب ما تسد به جوعها
وعطشها حتى عند الضرورة، يقررون ذلك بناءً على عدد كبير من التجارب على
حيوانات مختلفة وحتى الإنسان. وعادة ما تتم هذه التجارب بوضع حاجز يسبب
ألماً شديداً للكائن الحي عند محاولة اجتيازها للوصول إلى الطعام والشراب. فقد
لوحظ أن كثيراً من هذه الأحياء تتردد كثيراً قبل اجتياز هذه الحواجز، وقسم كبير
منها أدى به الجوع والعطش إلى محاولة هجر المكان تخلصاً من هذا الضغط
العضوي، وعند الفشل بمغادرة المكان، قد يقرر الكائن الحي اجتياز الحاجز
وتحمل الألم في سبيل سد هذه الحاجة العضوية المهمة. في حين أن هناك قسماً من
الأحياء تصل به عدم القدرة على تحمل الألم إلى الموت.
نفهم من هذا السلوك أمراً مهماً هو أن أي مطلب أو حالة عضوية تؤدي
بالكائن الحي إلى تجاهل أو تحمل الإحساس بالألم فلابد وأن يكون ذلك المطلب أو
تلك الحالة العضوية من القوة بحيث تعطل، ولو مؤقتاً، أو تقلل - على أفضل
تقدير - إحساس الكائن الحي بالألم.
وفي تجربة شخصية على عدد من الأحياء البحرية، وُجد أنها تتوقف تماماً
عن تناول الغذاء في حالة حصول عطب شديد. أو لا عادي في الظروف المحيطة
بالأحياء. وقد يتوقف الكائن الحي عن القيام بعدد غير قليل من الوظائف العضوية
تؤدي به إلى الموت التدريجي إذا زاد العطب والفساد في المحيط من حوله.
ونظرة تفكر فيما تقدم وفي قوله - تعالى - يصف حالاً مشابهاً لحال الأحياء
التي تتجاوز مرحلة الإحساس بالألم للحصول على شيء أكثر أهمية، أو قل أكثر
إلحاحاُ، هو قوله - عز من قائل -: [فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ]
[يوسف: ٣١] ؛ إذ تشير الآية إلى واقع حال تجاوز فيه الإحساس بمطلب معين (وهو هنا الانبهار برؤية النبي يوسف - عليه الصلاة والسلام -) الإحساس بألم قطع اليد، هذا الألم الذي يعرف الجميع ضرورة شدته بسبب تركز خلايا الحس في هذا الجزء من الجسم. إذاً فقد أدى ذلك المؤثر إلى تعطيل إحساس النسوة بألم قطع السكين ولو جزئياً..
والواقعة - كما هي معروفة من القرآن في سورة يوسف - تخبر عن
مراودة امرأة العزيز لفتاها المملوك عن نفسه. تلك المراودة التي خطط لها أحسن
تخطيط وتحرز لها كل الحرز على أن تتم بدون علم بشر [وغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وقَالَتْ
هَيْتَ لَكَ] [٢٣] ولكن خبر المراودة والمحاولة انكشف بإرادة الله واطلع عليه مَن
اطلع داخل البيت وخارجه. فطار الخبر للخارج - من غير جهة يوسف عليه
السلام - بسرعة حتى أن نساء المدينة أصبحن يلُكن وينقلن الخبر في كل مكان
ومجلس [وقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ امْرَأَةُ العَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُباً]
[٣٠] ؛ حتى رجع الخبر إلى مصدره الأصلى الذي بُهت فيما يبدو من عظم ما
يُحاك من مكر في الخارج [فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ] [٣١] ، وكأن حال لسان نسوة
المدينة يقول إننا لا نجد لها عذراً؛ فهي مَن هي مركزاً ومقاماً وجاهاً، وأنه لابد
وأن يكون قد أصابها شيء إذ تفعل ذلك [إنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] [٣٠] ، أي
أننا لنستقبح منها ذلك الفعل، فما كان من امرأة العزيز إلا أن صممت أن تجرب
بهن نفس السلاح الذى عطل عندها أو أفقدها الإحساس بكل القيم العليا. وفيما يبدو
من سياق الآيات الكريمة أن امرأة العزيز لم تزل قادرة على مراودة يوسف - عليه
السلام - والخلوة به مع علم زوجها، الذي كان قليل الغيرة أو عديمها، ولهذا لما
اطلع على مراودتها أول مرة قال [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ
كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ] [٢٩] ، فلم يعاقبها ولم يفرق بينهما، وهو كان له دور في
تيسير دعوة يوسف للفاحشة من قبل نسوة المدينة. وكان أن كانت نتيجة التجربة
أنهن قطعن أيديهن بسبب الرغبة الجنسية التي فاقت إحساسهن بالألم، تلك الرغبة
الجماعية منهن جميعاً والتي بيَّنها يوسف - عليه السلام - في قوله (تعالى) [وَإلاَّ
تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ] [٣٣] ، وقوله [ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ
النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ] [٥٠] ، فهن قد راودنه عن
نفسه لأنفسهن ولامرأة العزيز!
سبحان الله! ، إن رؤية الرجل الحسن مؤثر عظيم القوة عطل لدى المرأة
الإحساس بالطهر والعفاف وكل معايير إكرام المثوى وحسن الضيافة وحفظ الزوج
وحقوقه. هل يبقى شك بعد هذه الآيات بخطورة الاختلاط وعدم غض البصر؟ هل
يبقى بعد هذا تساؤل عن المقصود من قوله - تعالى -: [وقُل لِّلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ
مِنْ أَبْصَارِهِنَّ] [النور: ٣١] ، أو قوله [قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ]
[النور: ٣٠] ، أو قوله - عز من قائل عليم -: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ ...
وبَنَاتِكَ ونِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ]
[الأحزاب: ٥٩] .
ومن فوائد هذه الآيات من سورة يوسف أن الله - تعالى - يروي للأمة
تفاصيل قصة حصلت في السر أو هكذا خُطط لها بصورة فردية أعقبها فتنة عظيمة
على مستوى نساء المدينة وبصورة علنية وعامة. وقد بلغت السرية كمالها عند
إغلاق الأبواب والتي كانت سبعة أبواب (القرطبي) ، حيث الإرادة أن يتم المنكر
معها وحدها، لكن إرادة الله شاءت أن يطلع على ذلك الشهود وزوجها ونساء المدينة
وكأنه - تعالى - أراد لهذا الدرس عنواناً آخر هو أن مَن يهتك الستر الذي بينه
وبين الله يهتك الله السر الذي بينه وبين الناس وأن من يتقِ الله يجعل له مخرجاً.
هذا ليعلم أن الفتنة والمكر قد يبدأ بصورة فردية أو حالة سرية هنا وأخرى
هناك أو تساهل في مسألة ومسامحة في أخرى، ولكن شر الفتنة لابد أن يعم
المجتمع جُله إما بصورته المباشرة، كما هو في كثير من المجتمعات متمثلة بانتشار
الأمراض التي يعم شرها الصالح والطالح، ذلك إذا لم يؤخذ على يد الفتنة والمكر
من أوله وحال حدوثه، والضابط في ذلك كله الشرع الإسلامي.
ومن الفوائد الأخرى ملاحظة خطورة إهمال البيوت والمجتمعات مما يجلبه
الاختلاط والسفور والتبرج من فتن يمكن أن تعصف بالمجتمعات المسلمة، فإنه من
باب تشابه الميول والطبع بين النساء كما فطرهن الخالق كذلك، فإن ترك باب
الاختلاط والفتنة مفتوحاً على مصراعيه وإهمال الضوابط الشرعية في ذلك سيكون
له - كما كان الحال مع امرأة العزيز - ردود فعل قد لا يسلم منها كثير من نساء
ورجال المجتمع المسلم مما يودي إلى انتشار ما لا يحمد عقباه من أمور تضيع الدين
وتخل ببنيان وحدات بناء المجتمع.
وكطباع الصالحين الذين وقاهم الله السيئات، فإن يوسف - عليه السلام -
عندما تعرض للفتنة، فإنه اندفع ليهجر مكان الفتنة لينجو بدينه وعفته. ونستفيد من
ذلك درساً عظيماً هو أن هجر المكان الذي يشاع ويظهر فيه الفساد - خصوصاً عند
عدم القدرة على ردها أو اصلاحها أو إنكارها عملياً - قد يكون واجباً بحق الكثير
منا. على أن هجر المنكر وداره ليس دائماً مستطاعاً للجميع؛ فإن الطواغيت غالباً
ما تلجأ إلى سد المنافذ [قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ] [٢٥] .
أليس هذا ما يعمله طواغيت اليوم بالصالحين من سد منافذ الهجرة وفتح أبواب
السجون وسد الأفواه والعيون بالأموال والآمال. وأما مَن لم يستبق الباب - وهو
قادر على ذلك ورضي أن يكون في مكان السوء والفحشاء واطمئن من غير أن
يحرك ساكناً وهو قادر على ذلك - فأخشى أن يكون ممن قال فيهم خالقهم [إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ
مَصِيرًا] [النساء: ٩٧] . ولكن حسبنا الله، فحتى من يملك القوة على الهجرة قد سد الطغاة في الأماكن الأخرى أبواب أرض الله الواسعة فسُقط في أيدي الكثير من الصالحين وإلله المستعان.
ثم إن أساليب الطغاة تتجدد ولا تتبدل. فإن نبي الله يوسف - عليه السلام -
لما أنجاه الله من الفتنة الأولى وأظهر طهره وبراءته نصبوا له فخاً آخر أشد قوة
ومعه التهديد بأن يكون من الصاغرين، فما كان منه -عليه السلام - إلا أن قدم
نفسه للسجن [رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ] [٣٣] . وكانت له المكافأة
هناك في السجن حيث قيض الله - تعالى - له جواً مناسباً للدعوة وإيصال دين الله
لمن لم يمكن له - لولا السجن - طريقاً للوصول إليه. ذلك ليعلم طواغيت اليوم أن
تكميم أفواه الدعاة أمر مستحيل حتى داخل الزنزانات والحديد. ولنا في أئمة
الإسلام - بعد رسل الله - أسوة حسنة.
وعودة إلى نبي الله يوسف نلاحظ أنه - عليه الصلاة والسلام - قد حقق كل
مراحل الهجرة، فقد هجر الكفر [إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وهُم بِالآخِرَةِ
هُمْ كَافِرُونَ] [٣٧] وهجر الكبائر [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ] [٢٣] وهجر الصغائر [قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] [٩٢] .
وفائدة عظيمة أخرى أن وعد الله متحقق بأن يجعل لمن يتقيه رزقاً من حيث
لا يحتسب؛ فهذه براءة يوسف - عليه السلام - تأتي من عدة وجوه وطرق:
فيشهد له خالقه أولاً أنه من عباده المخلَصين وأنه صرف عنه السوء، ويشهد شاهد
من أهلها، وتشهد نسوة المدينة، ويشهد الملك فيما بعد وفيما قبل، ثم هي تشهد
ببراءة ونزاهة نبي الله. فقد سخر الله هذه الجنود لتقدم دليلاً تلو الآخر على حفظ
الله لنبيه وعباده الصالحين عموماً [ومَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ] [المدثر: ٣١] ،
ذلك إذا علم الله منهم صدق القلوب ثم كان التمكين في الأرض لدين الله وعباده وهي
الجائزة التي يرجوها كل مَن يشري مرضاة الله.