الافتتاحية
[الحذر الحذر.. من ثقافة التسامح المغشوش!]
الحمد لله علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على البشير
النذير المرسل رحمة للناس كافة، كما قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: ١٠٧) ، وبعد:
فإن من تداعيات كارثة ١١/٩/٢٠٠١م انعكاساتها السلبية الخطيرة على
العلاقات الدولية بعامة، وعلى التعامل المتغطرس مع عالم الإسلام بخاصة،
والحرب المعلنة على الدعوة الإسلامية وعلى العمل الخيري الإسلامي بشكل أخص؛
بدعوى اتهام أفراد من المسلمين بتلك المأساة التي لم يُستشر فيها الإسلام، ولم
يؤخذ فيها حكمه إن صحت نسبتها إليه.
وبمناسبة مرور عامين على هذه المأساة ندعو للنظر والبحث بجدية في الدور
(الإسرائيلي) في هذه القضية والذي يُعتم عليه بالرغم من أنه أشير إليه من
شخصيات لها وزنها حتى في أمريكا، من مثل: عضو الكونجرس الديمقراطي:
(ليندون روش) ، والمحامي الأمريكي (مايكل وارن) وغيرهم كثير.. فهل
يفعلون؟! إننا نشك في ذلك!
تلك الواقعة التي أذلت الإدارة الأمريكية فأعلنت حربها المجنونة ضد
الإرهاب، والموجهة ضد الإسلام والمسلمين، ومن ذلك حربها الفكرية القائمة
على ما يسمونه نشر ثقافة التسامح وتقبُّل الآخر، ومحاربة التعصب للأديان
المخالفة، والدعوة لنشر الديمقراطية.
ونحن بادئ ذي بدء؛ نقرر بكل ثقة أن التسامح قيمة إسلامية محترمة لم
يعرفها الغرب والشرق، بل نحن الذين علَّمناهم إياها، وهذا ما سنوضحه بالتفصيل
إن شاء الله.
فالتسامح الذي يدعون إليه، ويردده بكل سذاجة بل بكل سفاهة الكثير من
الصحفيين العرب، هو بضاعة مشبوهة يسوِّغونها بأسباب واهية، ولذلك دائماً ما
ينادون:
- بالتدخل في خصوصياتنا الدينية والاجتماعية وضرورة تغييرها.
- الدعوة إلى تغيير المناهج الدراسية وتعديلها لتوافق الأديان المحرَّفة.
- محاربة العمل الخيري والتضييق عليه، ومصادرة أمواله بزعم مساعدته
للإرهاب.
- إثارة الشبهات ضد كل اتجاه إسلامي، ومصادرة حقه في الوجود، واتهامه
بكل ما يؤدي إلى تغييبه بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان.
وهذا توجّه أرعن يخالف كل القيم الديمقراطية التي يدعون لها ليل نهار؛
ويشكل ازدراءً للآخرين، وتسلطاً عليهم، واستهتاراً بمشاعرهم الدينية، ومما
ساعد على ذلك وجعله يستمر ويؤثر في الواقع ما يلي:
- ضعف الأمة، دولاً وجماعات وأفراداً، عن الاعتزاز بدينهم ورفضهم كل
ما يمسه.
- إن كثيراً من الدول الإسلامية ضعيفة، وتدين للغرب بمساعداته ودعمه،
فهي مرهونة له بالتبعية.
- تغييب الشعوب المسلمة عن أن تقول كلمتها ضد كل الوصايات والتبعية
العمياء لغيرها.
- نكوص الغرب بعامة وأمريكا بخاصة عن القيم الإنسانية الدولية؛ من مثل
(حق الشعوب في تقرير مصيرها) ، و (منع التغيير بالقوة) ، و (الاهتمام
بحقوق الإنسان) ، والتي أصبحت محصورة في الشعوب الغربية وربيبتها دولة
العدو الصهيوني فقط.
وهذا ما عكسته الحروب الظالمة على بعض الدول المسلمة وغيرها، والتدخل
في شؤونها دون مراعاة حتى للأنظمة الأممية المرعية والموقّع عليها من جميع
الدول، كما في حربي أفغانستان والعراق، ولا يُستبعد تكراره أمام الغطرسة
الأمريكية فضلاً عن ضعف المنظمة الأممية. وهذا ما يمكن أن نسميه بالحرب
الصليبية الجديدة، والتي يرفض أدعياء الليبرالية العرب تسميتها باسمها الحقيقي،
وهي نفسها الحرب الاستعمارية القديمة تعود بصورتها الكريهة من جديد، وكأن
التاريخ يعيد نفسه.
لقد واجه المسلمون المستعمرين القدماء بكل صور الجهاد والمقاومة، حتى
أخرجوا المستعمرين صاغرين، لكن بعضنا أمام هذه الحملة الصليبية الجديدة يشعر
بنوع من الانهزامية والخنوع، ووصل ببعضنا الهوان إلى دعوة المستعمر لاحتلال
بلداننا، وتآمر بعض بني جلدتنا مع الأعداء، ودخلوا بلدانهم على ظهور دبابات
المستعمرين؛ فأي هوان نعيشه، وأي سقوط نحياه؟! والعجيب أن يأتي هؤلاء
المستعمرون ليعلمونا التسامح واحترام الآخر، وكأنهم يدرّسون لنا فن الهوان وفن
التبعية لنبقيهم بين ظهرانينا، وهذا والله! من أعجب العجب، فهم الشعوب
المتوحشة التي دمرت شعوباً بأكملها، وقضوا عليها بأسلحة الدمار الشامل،
وبالأوبئة الفتاكة، واستعبدوا شعوباً من إفريقيا لتسهم في خدمتهم وزراعتهم
وصناعتهم؛ مما لم يعرفه تاريخ الإنسانية، هؤلاء يجيئون اليوم ليعلمونا ثقافة
التسامح واحترام الآخر، بينما تعلَّم علماؤهم ورهبانهم من الإسلام قيمه ومبادئه،
أمثال: (مارتن لوثر كينج) و (كالفن) في النصف الأول من القرن السادس
عشر، فبعدما وجدوا ولمسوا ما في ديانتهم من دخيل ومنحول ومكذوب، وأُعجبوا
بما جاء به الإسلام من سماحة في التعامل، ونزاهة في الخلق والإيمان، واحترام
الإنسان؛ ضمناه ومعاونوهم في (إصلاحهم الديني المعروف) .
ونحن في هذا المقام نرفض التسامح المشبوه الذي يعني التدخل في شؤوننا،
والدعوة لتغيير قيمنا وأخلاقنا، والسعي لتهجين مناهجنا، والعمل المتواصل
لتركيعنا؛ لأن ذلك وإن سمَّوه ثقافة التسامح فهو تسامح مغشوش نحسبه إذلالاً لنا،
بل هو استعمار لنا من جديد.
وندعو في الوقت نفسه إلى التسامح الصحيح الذي بشّر به الإسلام، والذي
أُعجب به كثير من المنصفين من الغربيين، وأشادوا به في كثير من مصنفاتهم، من
مثل (سير أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) ، و (جوستاف لوبون) في
(حضارة العرب) ، حيث أشادوا بديننا الحنيف، وبما جاء به من قيم إنسانية فاضلة
وسعت المسلمين وغيرهم.
ولمَّا كان الإسلام هو الرسالة الإلهية الأخيرة للإنسانية، وكان رحمة
للعالمين، فقد قرر قيماً إيمانية تحترم الإنسان مسلماً كان أو غيره، ومنها:
- أن اختلاف الناس في أديانهم أمر طبعي، ولذا يقول الله تعالى: [وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ] (هود: ١١٨-١١٩) .
- وعلى الرغم من أننا نؤمن أن الدين الحق هو دين الإسلام وأنه خاتم الأديان،
فإنه لا يجوز لنا أن نقسر الناس على اعتناق الدين حتى لو كان الإسلام، يقول
جل وعلا: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (يونس: ٩٩) .
- تشريع آداب الحوار ومجادلة الآخر بالحسنى، وبأسلوب يتسم بالعقلانية
والموضوعية، يقول جل شأنه: [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ] (العنكبوت: ٤٦) .
- وضّح الإسلام الطريقة التي يتعامل بها المسلمون مع مخالفيهم في الدين من
غير المحاربين، يقول جل وعلا: [لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ]
(الممتحنة: ٨) .
- أوجب الله العدل مع كل أحد، وحرَّم الظلم بكل حال، قال الله تعالى:
[وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: ٨) .
- أباح الإسلام طعام أهل الكتاب وذبائحهم، وأباح للمسلم أن يتزوج من
نسائهم، يقول الله تعالى: [وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ]
(المائدة: ٥) .
- ومن تسامح الإسلام تسميته أهل الكتاب بأهل الذمّة، ولفظ الذمّة معناه ذمّة
الله وعهده ورعايته، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم توصيته بهم بقوله:
«ألا مَنْ ظلم معاهداً، أو انتقصه حقاً، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير
طيب نفس منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة» [١] .
فهذه القيم الإيمانية والإنسانية الفاضلة هي التي جاء بها الإسلام، وعاش بها
المسلمون مع غيرهم من أهل الكتاب في القرون المفضلة وما بعدها، في وئام
وحسن تعامل وتجاور، بل حتى مصاهرة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم
وصحبه الكرام يتعاملون مع أهل الكتاب، بل إنه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه
مرهونة عند يهودي لم يخلصه إلا خلفاؤه بعد وفاته، وذلك ليس عجزاً من الصحابة
- رضوان الله عليهم - عن إقراضه عليه الصلاة والسلام، بل كان ذلك تعليماً
وإرشاداً للأمة في التعامل مع أهل الكتاب وإنصافهم، ولذلك كان من حق غير
المسلم بين المسلمين مقاضاة المسلم متى ما كان مظلوماً، كما كان في الحكم على
الخليفة الراشد علي بن أبي طالب أمام أحد الكتابيين، ولا يغيب عن البال القصة
الشهيرة التي حكم فيها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للقبطي
الذي اشتكى ابن عامل أمير المؤمنين على مصر عمرو بن العاص، واقتص
للكتابي، وقال الخليفة عمر - رضي الله عنه - مقولته الشهيرة: (متى استعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) .
هذه قيمنا الإسلامية التي علَّمَنَا إياها الإسلام، وعلَّمْنا بها العالم فن التعامل
الرفيع، علَّمْنا الآخرين حقيقة التسامح الحق بأجلى صوره، فدخل الناس في دين
الله أفواجاً حينما عرفوا كيف يحترم الإسلام الإنسان بوصفه إنساناً مكرماً، فلسنا
ولله الحمد متعصبين تعصباً أعمى، ولا عنصريين ندّعى أننا أبناء الله وأحباؤه،
كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم: [وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم] (المائدة: ١٨) ، [وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن
كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (البقرة:
١١١) .
من هنا نقول بكل ثقة: ليكفَّ الغربيون الحاقدون عن دعاويهم السمجة
والكاذبة في دعوتنا للتسامح المشبوه مع غيرنا، ولتكف الأقلام المأجورة التي
تعرض الإسلام عرضاً منفراً؛ حيث تحارب الإسلام ودعاته بزعم أنهم متعصبون
وطلاب حكم وأعداء للديمقراطية، ليكفوا عن نشر أكاذيبهم المكشوفة، وادعاءاتهم
الباطلة، فنحن المسلمين أولى الناس بالدعوة للتسامح الصحيح، ونحن أول من
نشر ذلك مع بزوغ شمس الإسلام، ولتنكفئ الأقلام المأجورة، ولتعمل إن كانت
صادقة على كشف أباطيل الغربيين الذين يزعمون الديمقراطية ويدعوننا للتسامح
وهم أعداؤه، فهم الذين يقفون من المسلمين مواقف معادية في مطاراتهم ومنافذهم،
ويطبقون ما يسمونه بالأدلة السرية ضد كل مسلم عند أي شبهة! فأي تسامح
يزعمون وها هم منذ نشوء دولة العدو الصهيوني على ثرى فلسطين عام ١٩٤٨م
يؤيدون الصهاينة المعتدين في عدوانهم المستمر على الشعب الفلسطيني المغلوب
على أمره، ويحاربونه بالأسلحة الفتاكة، ويخرقون المعاهدات، ويقترفون الجرائم
ضد الإنسانية، وما زالوا يحظون بتأييدهم، وحجب كل قرار دولي يدينهم، فأي
عدالة يزعمون، وأي تسامح يدّعون؟
إننا ندعو الناس عامة إلى الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه السمحة، والتي تضمن
التسامح الحق بأجلى صورة للناس كافة، أما التسامح المغشوش واختراع أيام باسم
الأمم المتحدة لإشاعة التسامح، فهذه أوهام يتبعها التعصب الأعمى الذي يقطع
وسائل الرزق عن ضحايا العدو الصهيوني من الأطفال والنساء والشيوخ والأرامل؛
بتجميد حسابات الجمعيات الخيرية بدعاوى فاسدة يقررها دهاقنة الصهيونية،
ويطالب بتنفيذها الحاكمون في واشنطن، وتملى على حكوماتنا، فإلى الله المشتكى
من جور أدعياء التسامح المزعوم!
لماذا لا نقف وقفة جامعة مُتَّحدين ضد إملاءاتهم الظالمة؟ وحتى متى نبقى
أسرى جبروتهم وتسلطهم؟ إلى متى إلى متى؟
(١) رواه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في الذمي يُسلم في بعض السنة هل عليه جزية؟ ، رقم ٣٠٥٢، والبيهقي في الكبرى، (٩/ ٢٠٥) ، وصححه الألباني.