للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

جهود علماء الدعوة السلفية بنجد

تجاه النوازل والأحداث

د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]

مقدمة:

التعامل مع النوازل والمستجدات يحتاج إلى رسوخ في العلم، وبصيرة بالأدلة

الشرعية، واستيعاب لمقاصد الشريعة وقواعد المصالح والمفاسد، كما يحتاج إلى

توصيف صحيح، وفقه دقيق لتلك الواقعة، ليتسنى تنزيل الحكم الشرعي الملائم

لتلك النازلة.

ولم يكن علماء نجد بعيدين عن قضايا واقعهم ومستجدات عصرهم، بل كان

لهم تأثير بارز ودور رئيس في حل النوازل والحوادث، فكانوا أصحاب المواقف

الشجاعة إزاء تلك القضايا، وأرباب القرار الصحيح تجاه النوازل والمستجدات؛

ولا غرو في ذلك؛ فقد أنعم الله - تعالى - عليهم بالفقه في دين الله، وفهم تلك

الوقائع والأحداث، ونعرض جملة من تلك الجهود في هذا المقام:

١ - لما هجمت جيوش إبراهيم باشا على نجد في أواخر الدولة السعودية

الأولى وقصدوا استئصال الدعوة السلفية وأتباعها، ساعدهم جماعة من أهل نجد من

البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم وانتصارهم، فعندئذ ألَّف الشيخ سليمان بن

عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رسالته القيّمة: «الدلائل في حكم موالاة

أهل الإشراك» [١] .

ففي هذه الأوضاع المضطربة والفتن المتقلبة يبرز دور العلماء الربانيين،

العالمين بالله - تعالى - وبأمره؛ فقد صنف الشيخ سليمان رسالته في زمن فتنة،

وفي أحوال مشوبة بالخوف والهلع من جيوش إبراهيم باشا، ولا يخفى ما يؤول

إليه حال بعض الخاصة فضلاً عن العامة زمن الفتن والهلع من الذهول والحيرة

والانتكاس. وصنَّف الشيخ سليمان هذه الرسالة في وقت زاغت فيه قلوب،

وانساقت إلى مظاهرة المشركين وموافقتهم، فقرر الشيخ وبالأدلة الكثيرة أن مَنْ

ظاهَرَ الكفار وتولاهم فهو منهم، كما قد وقع فيه أولئك الخونة، يقول الشيخ سليمان

بن عبد الله في هذه الرسالة:

«الدليل السادس عشر [٢] : قوله - تعالى -: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ

عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ

الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ] (الحج: ١١) . فهذه الآية مطابقة

لحال المنقلبين عن دينهم في هذه الفتنة سواء بسواء؛ فإنهم قبل هذه الفتنة يعبدون

الله على حرف، أي على طرف، ليسوا ممّن يعبُد الله على يقين وثبات، فلما

أصابتهم هذه الفتنة، انقلبوا عن دينهم وأظهروا موافقة المشركين، وأعطوهم

الطاعة، وخرجوا عن جماعة المسلمين إلى جماعة المشركين.

هذا مع أن كثيراً منهم في عافية، ما أتاهم عدو، وإنما ساء ظنهم بالله فظنوا

أنه يديل [٣] الباطل وأهله على الحق وأهله، فأرداهم سوء ظنهم بالله [٤] » .

٢ - ويعيد التاريخ نفسه؛ حيث هجمت العساكر التركية على بلاد نجد -

سنة ١٢٥٣ هـ - وساعدهم من ساعدهم حتى استولوا على كثير من نجد، فصنّف

الشيخ حمد بن عتيق - رحمه الله - رسالة قوية سماها: «سبيل النجاة والفكاك من

موالاة المرتدين وأهل الإشراك» [٥] .

فكانت هذه الرسالة سبباً في تحقيق عقيدة الولاء والبراء واستقرارها بعدما

كادت عواصف الفتن أن تزحزحها.

ونقتطف من تلك الرسالة السطور الآتية:

«أخبر - تعالى - أن الذين في قلوبهم مرض أي شك في الدين وشبهة

يسارعون في الكفر قائلين: [نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] (المائدة: ٥٢) ، أي:

إذا أنكرت عليهم موالاة الكافرين قالوا: نخشى أن تكون الدولة لهم في المستقبل،

فيتسلطوا علينا، فيأخذوا أموالنا ويشردونا من بلداننا، وهذا هو ظن السوء بالله

الذي قال الله فيه: [الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ

وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (الفتح: ٦) » [٦] .

٣ - وفي سنة ١٢٦٥هـ وقعت معركة «اليتيمة» بين جيوش فيصل بن

تركي وبين أهل القصيم بقيادة أمير بريدة عبد العزيز بن محمد آل أبي عليان،

واشتد القتال بين الفريقين، وانهزم أهل القصيم وقتل الكثير منهم، وفرّ أميرهم إلى

عنيزة، ولم يدرِ ما يفعل. فأتى إليه الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين [٧]-

وكان قاضي بلدان القصيم - فقال له: يا هذا اتق الله، واربأ بنفسك؛ فإن البلاد

ليست لك ولا بيدك، وأمرها بيد أهلها، وليس لك فيها أمر ولا نهي، وهم يريدون

إصلاح أنفسهم مع الإمام فيصل، فإن أردت أن تكون كذلك فافعل.

ثم إن رؤساء بلد عنيزة أتوا إلى الشيخ عبد الله أبي بطين وقالوا: إن هذه

الأمور التي منا وقعت، والحوادث التي منا صدرت لا يصلحها إلا أنت، ولا يزيل

غضب الإمام فيصل غيرك.

فقال لهم: إنكم تعلمون أني لست من أهل بلدكم ولا من عشيرتكم، ولا يحسن

مني الدخول في هذا الشأن الذي أوله إلى آخره من تسويل الشيطان؛ فأعفوني

ودعوني، وأرسِلوا في هذا الأمر غيري.

فقالوا: إن هذا الأمر تعيّن عليك والصلح لا يصلح إلا على يديك، فركب

الشيخ عبد الله إلى الإمام فيصل - وهو في بلد المذنب - فأكرمه وأجابه إلى كل ما

طلب من العفو والصفح عنهم، وأعطاهم الأمان [٨] .

٤ - لما توفي فيصل بن تركي سنة ١٢٨٢هـ، وتولى الحكم من بعده ابنه

عبد الله، حصل شقاق واختلاف بين عبد الله وأخيه سعود، فوقعت حروب طاحنة،

وفتن متلاطمة بين عبد الله، وأخيه سعود.

وكان للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن - رحمهم الله - دور

ظاهر في الإصلاح، وجمع الكلمة وحفظ الدماء، ودرء الفتنة، ودفع الشر والفساد

بحسب الطاقة.

لقد أوتي الشيخ عبد اللطيف قوة وبصيرة، وحكمة وعلماً، ونصحاً وإشفاقاً

على الراعي والرعية.

وقد سطّر الشيخ عبد اللطيف رسائل كثيرة [٩]- أثناء تلك الفتنة الطويلة [١٠]

تضمنت عرضاً شاملاً، وتحليلاً وافياً لتلك الأحداث الجسام، وموقفه من تلك

النوازل.

ونختار إحدى هذه الرسائل:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخوين المكرمين: زيد بن محمد،

وصالح بن محمد الشثري [١١] ، سلمهما الله - تعالى -.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فأحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو على نعمه، والخط وصل أوصلكم

الله إلى ما يرضيه، وما ذكرتموه كان معلومًا، وموجب تحرير هذا ما بلغني بعد

قدوم عبد الله [١٢] وغزوه من أهل الفرع، وما جرى لديكم من تفاصيل الخوض في

أمرنا والمراء والغيبة، وإن كان قد بلغني أولا كثير من ذلك، لكن بلغني مع من

ذكر تفاصيل ما ظننتها، فأما ما صدر في حقي من الغيبة والقدح والاعتراض

ونسبتي إلى الهوى والعصبية، فتلك أعراض انتهكت وهتكت في ذات الله أعدُّها

لديه - جل وعلا - ليوم فقري وفاقتي، وليس الكلام فيها، والقصد بيان ما أشكل

على الخواص والمنتسبين من طريقتي في هذه الفتنة العمياء الصماء، فأول ذلك

مفارقة سعود لجماعة المسلمين وخروجه على أخيه، وقد صدر منا الرد عليه

وتسفيه رأيه ونصيحة ولد عائض [١٣] وأمثاله من الرؤساء عن متابعته والإصغاء

إليه ونصرته، وذكرناه بما ورد من الآثار النبوية والآيات القرآنية بتحريم ما فعل

والتغليظ على من نصره، ولم نزل على ذلك إلى أن وقعت وقعة جودة [١٤] ، فثل

عرش الولاية وانتثر نظامها، وحبس محمد بن فيصل، وخرج الإمام عبد الله

شاردًا وفارقه أقاربه وأنصاره، وعند وداعه وصيته بالاعتصام بالله وطلب النصر

منه وحده، وعدم الركون إلى الدولة الخاسرة [١٥] .

ثم قدم علينا سعود بمن معه من العجمان والدواسر وأهل الفرع وأهل الحريق

وأهل الأفلاج وأهل الوادي ونحن في قلة وضعف وليس في بلدنا [١٦] من يبلغ

الأربعين مقاتلاً، فخرجت إليه وبذلت جهدي، ودافعت عن المسلمين ما استطعت

خشية استباحة البلدة، ومعه من الأشرار وفجار القرى من يحثه على ذلك ويتفوه

بتكفير بعض رؤساء أهل بلدتنا، فوقى الله شر تلك الفتنة ولطف بنا، ودخلها بعد

صلح وعقد، وما جرى من المظالم والنكث دون ما كنا نتوقع [١٧] ، وليس الكلام

بصدده وإنما الكلام في بيان ما نراه ونعتقده، وصارت له ولاية بالغلبة والقهر تنفذ

بها أحكامه، وتجب طاعته في المعروف كما عليه كافة أهل العلم على تقادم

الأعصار ومر الدهور، وما قيل من تكفيره لم يثبت لديّ، فسرت على آثار أهل

العلم، واقتديت بهم في الطاعة في المعروف وترك الفتنة وما توجب من الفساد على

الدين والدنيا، والله يعلم أني بار راشد في ذلك، ومن أشكل عليه شيء من ذلك

فليراجع كتب الإجماع كمصنف ابن حزم ومصنف ابن هبيرة وما ذكره الحنابلة

وغيرهم، وما ظننت أن هذا يخفى على من له أدنى تحصيل وممارسة، وقد قيل:

سلطان ظلوم خير من فتنة تدوم.

وأما الإمام عبد الله فقد نصحت له كما تقدم أشد النصح، وبعد مجيئه لما

أخرج شيعة عبد الله سعودًا وقدم من الإحساء ذاكرته في النصيحة وتذكيره بآيات الله

وحقه، وإيثار مرضاته والتباعد عن أعدائه وأعداء دينه أهل التعطيل والشرك

والكفر البواح، وأظهر التوبة والندم، وأضمحل أمر سعود وصار مع شرذمة من

البادية حول المرة والعجمان، وصار لعبد الله غلبة ثبتت بها ولايته على ما قرره

الحنابلة وغيرهم كما تقدم أن عليه عمل الناس من أعصار متطاولة.

ثم ابتلينا بسعود وقدم إلينا مرة ثانية، وجرى ما بلغكم من الهزيمة على عبد

الله وجنوده، ومر بالبلدة منهزمًا لا يلوي على أحد، وخشيت من البادية، وعجلت

إلى سعود كتاباً في طلب الأمان لأهل البلدة وكف البادية عنهم، وباشرت بنفسي

مدافعة الأعراب مع شرذمة قليلة من أهل البلدة ابتغاء ثواب الله ومرضاته، فدخل

البلدة وتوجه عبد الله إلى الشمال، وصارت الغلبة لسعود والحكم يدور مع علته،

وأما بعد وفاة سعود [١٨] فقدم الغزاة ومن معهم من الأعراب العتاة والحضر الطغاة،

فخشينا الاختلاف وسفك الدماء وقطعية الأرحام بين حمولة آل مقرن [١٩] مع غيبة

عبد الله وتعذر مبايعته بل ومكاتبته، ومن ذكره يخشى على نفسه وماله أفيحسن أن

يترك المسلمون وضعفاؤهم نهباً وسبياً للأعراب والفجار؟ وقد تحدثوا بنهب

الرياض قبل البيعة، وقد رامها من هو أشر من عبد الرحمن وأطغى ولا يمكن

ممانعتهم ومراجعتهم، ومن توهم أنى وأمثالي أستطيع دفع ذلك مع ضعفي وعدم

سلطاني وناصري فهو من أسفه الناس وأضعفهم عقلاً وتصوراً، ومن عرف قواعد

الدين وأصول الفقه وما يتطلب من تحصيل المصالح ودفع المفاسد لم يُشكِل عليه

شيء من هذا، وليس الخطاب مع الجهلة والغوغاء، إنما الخطاب معكم معاشر

القضاة والمفاتي والمتصدرين لإفادة الناس وحماية الشريعة المحمدية، وبهذا ثبتت

بيعته وانعقدت وصار من ينتظر غائبًا لا تحصل به المصالح فيه شبه ممن يقول

بوجوب طاعة المنتظر وأنه لا إمامة إلا به.

ثم إن حمولة آل سعود صارت بينهم شحناء وعداوة والكل يرى له الأولوية

بالولاية، وصرنا نتوقع كل يوم فتنة وكل ساعة محنة، فلطف الله بنا وخرج ابن

جلوي من البلدة، وقتل ابن صنيتان، وصار لي إقدام على محاولة عبد الرحمن في

الصلح وترك الولاية لأخيه عبد الله، فلم آلُ جهدًا في تحصيل ذلك والمشورة عليه

مع أني قد أكثرت في ذلك حين ولايته ن ولكن رأيته ضعيف العزم لا يستبد برأيه،

فيسر الله قبل قدوم عبد الله بنحو أربعة أيام أنه وافق على تقديم عبد الله وعزل نفسه

بشروط اشترطها بعضها غير سائغ شرعًا، فلما نزل الإمام عبد الله ساحتنا اجتهدت

إلى أن محمد بن فيصل يظهر إلى أخيه، ويأتي بأمان لعبد الرحمن وذويه وأهل

البلد، وسعيت في فتح الباب واجتهدت في ذلك، ومع ذلك كله فلما خرجت للسلام

عليه وإذا أهل الفرع وجهلة البوادي ومن معهم من المنافقين يستأذنونه في نهب

تخيلنا وأموالنا، ورأيت معه بعض التغير والعبوس، ومن عامل الله ما فقد شيئاً،

ومن ضيع الله ما وجد شيئاً، ومن ضيع الله ما وجد شيئاً، ولكنه بعد ذلك أظهر

الكرامة ولين الجانب، وزعم أن الناس قالوا ونقلوا، وبئس مطية الرجل زعموا،

وتحقق عندي دعواه التوبة وأظهر لدي الاستغفار والتوبة والندم، وبايعته على

كتاب الله وسنة رسوله.

هذا مختصر القضية، ولولا أنكلم من طلبة العلم والممارسين الذين يكتفون

بالإشارة وأصول المسائل لكتبت رسالة مبسوطة ونقلت من نصوص أهل العلم

وإجماعهم ما يكشف الغمة ويزيل اللبس، ومن بقى عليه إشكال فليرشدنا رحمه الله،

ولو أنكم أرسلتم بما عندكم مما يقرر هذا أو يخالفه وصارت المذاكرة لانكشف

الأمر من أول وهلة، ولكنكم صممتم على رأيكم، وترك النصيحة من كان عنده

علم، واغتر الجاهل ولم يعرف ما يدين الله به في هذه القضية وتكلم بغير علم،

ووقع اللبس والخلط والمراء والاعتداء في دماء المسلمين وأعراضهم، وهذا بسبب

سكوت الفقيه وعدم البحث، واستغناء الجاهل بجهله واستقلاله بنفسه، وبالجملة

فهذا الذي نعتقد وندين الله به، والمسترشد يذاكر ويبحث، والظالم المعتدي حِسابنا

وحسابه إلى الله الذي تنكشف عنده السرائر، وتظهر مخبآت الصدور والضمائر يوم

يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.

وأما ما ذكرتم من التنصل والبراءة مما نسب في حقي إليكم فالأمر سهل

والجروح جبار، ولا حرج ولا عار، وأوصيكم بالصدق مع الله واستدراك ما

فرطتهم فيه من الغلظة على المنافقين الذين فتحوا للشرك كل باب، وركن إليهم كل

منافق كذاب، وتأمل قوله بعد نهية عن موالاة الكافرين: [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا

عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً

وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] (آل عمران: ٣٠) [٢٠] .

يظهر من إيراد هذه الرسالة ما كان عليه العلامة عبد اللطيف من رسوخ في

العلم الشرعي، وفهم للوقائع وتحقيق مناطها؛ حيث بيّن - زمن الفتنة العمياء -

مشروعية ولاية المتغلب وأن الإمامة تثبت بالغلبة والقهر، لذا أمضى ولاية سعود

بن فيصل، ثم أمضى ولاية عبد الله بن فيصل - بعد تغلبهما -.

كما نلحظ انهماك الشيخ عبد اللطيف بالإصلاح ودرء الفساد ما استطاع إلى

ذلك سبيلا، فكان يباشر بنفسه مدافعة المفسدين مع ضعفه وقلة حيلته، وكثرة

المحن والأخطار.

ويتجلى فقهه للمصالح والمفاسد وتقديرها (فسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم)

فإن ثوبت ولاية المتغلب الظالم أحسن حالا من الفتنة. كما نلمس ما عليه الشيخ

عبد اللطيف من الوصية بالصدق مع الله والتذكير بالبعث والنشور، (يوم يبعثر ما

في القبور ويحصل ما في الصدور) فإن خير ما يعصم العبد من الفتن هو اللجوء

إلى الله - تعالى - والاستعداد للقائه.

٥ - وفي سنة ١٣٠٨هـ انهزم أهل القصيم أمام محمد بن رشيد في واقعة

المليداء، وقتل منهم ألف رجل، ولما ظفر ابن رشيد ذلك الظفر انتقل من معسكره،

ونزل بالقرب من بريدة، وكان قد غضب على أهل القصيم وحلف بالطلاق أن

يبيحها، وهابه أهل القصيم مهابة شديدة، فجعلوا يتوقعون ماذا يحله بهم من

العقوبات، فخرج إليه الشيخ العلاَّمة محمد بن عبد الله بن سليم [٢١]- رحمه الله -

وذكَّره بآيات العفو، وحضَّه على المسامحة والصفح، وقال له: يا ابن رشيد!

اذكر قدرة الله عليك، واعلم أنه من فوق الجميع، فبكى محمد بن رشيد وقام مستوياً

على قدميه يقول: اللهم إني قد عفوت، يشير بيده إلى بريدة ويكررها، ثم جلس

وقد سكن غيظه، وانكسرت حدته، فأكرم الشيخ وسأله عن يمينه بالطلاق فأفتاه

الشيخ [٢٢] .

٦ - وفي عصرنا الحاضر عصفت رياح التغريب ببلاد المسلمين، فظهر

تيار جارف من الأفكار المستوردة، وكمٌّ هائل من النوازل والمستجدات، ولقد كانت

القوانين الوضعية بمختلف صورها وأنواعها من أشنعها جرماً وإثماً، وأخطرها

ضرراً.

وقد تصدى علماء نجد لتك القوانين، فكتب بعضهم [٢٣] لولي الأمر - آنذاك -

نصيحة جاء فيها:

(ثم آلت بك الحال - هداك الله - وأخذ بناصيتك إلى الوقوع في أمور كثيرة

هي من أسباب زوال تلك النعمة، ومن موجبات التغيير وحلول النقمة،: [إِنَّ اللَّهَ

لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: ١١) , منها إلزام الناس أن

يظلم بعضهم بعضاً، وأن ترفض الطريقة النبوية الجارية في أسواق المسلمين

وبياعاتهم، وأن يقام فيها القانون المضارع لقوانين الكفار الجارية في أسواقهم؛

فإن لله وإنا إليه راجعون، ولك هو إلزامكم بحجر الناس على مقدار

من السعر في الصرف لا يزيد ولا ينقص، وهذا من أعظم الفساد في

الأرض والتعاون على الإثم والعدوان، وأكل الناس بعضهم أموال بعض

بالباطل) [٢٤] .

وحذر الشيخ سليمان بن سحمان - رحمه الله - من التحاكم إلى الطواغيت،

فكان مما قاله: «إن كثيراً من الطوائف المنتسبين إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون

إلى عادات آبائهم، ويسمون ذلك الحق بشرع الرفاقة كقولهم: شرع عجمان،

وشرع قحطان، وغير ذلك، وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمر الله باجتنابه.

فمن فعله فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه

في قليل ولا كثير» [٢٥] .

وأما الشيخ العلاَّمة محمد بن إبراهيم - رحمه الله - فقد كان بصيراً بخطر

تلك المؤسسات الوضعية، ومن ثم اتخذ موقفاً حازماً تجاه أي هيئة أو مؤسسة ذات

حكم وضعي [٢٦] .

وألَّف رسالة عظيمة بعنوان: «تحكيم القوانين» قرر فيها - بالأدلة

الشرعية - وجوب إفراد الله تعالى بالحكم، وذكر الحالات التي يكون فيها الحكم

بغير ما أنزل الله - تعالى - كفراً أكبر أو كفراً أصغر.

وكتب الشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمه الله - مؤلفاً في ثلاثة أجزاء

بعنوان: «الحق أحق أن يتبع» في الرد على القوانين الوضعية [٢٧] .

٧ - وأما العلاَّمة عبد الرحمن الناصر السعدي (ت ١٣٧٦هـ) فهو أبرز

علماء نجد في علاج القضايا والنوازل، حيث كان أنموذجاً متميزاً في هذا الباب،

فكان مدركاً لمستجدات عصره ومتغيراته، ويتجلى ذلك فيما يلي:

أ - مناداته بأهمية التعرف على السياسة الدولية ومقاصدها؛ حيث يقول:

«قد عُلِمَ من قواعد الدين أنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الوسائل

لها أحكام المقاصد، ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية

والتوقي لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم ودرس أحوالهم وسياساتهم،

وخصوصاً السياسة الموجهة منهم للمسلمين؛ فإن السياسة الدولية قد أسست على

المكر والخداع وعدم الوفاء، واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد؛ فجهل

المسلمين بها نقص كبير وضرر خطير، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها

التي ترمي إليه نفعه عظيم، وفيه دفع للشر أو تخفيفه، وبه يعرف المسلمون كيف

يقاتلون كل خطر» [٢٨] .

ب - وكتب العلامة السعدي رسالة رائعة إلى الشيخ محمد رشيد رضا سنة

١٣٤٦هـ[٢٩] يقترح عليه أن تُعنى مجلة المنار بالردّ على الملاحدة والزنادقة.

ويظهر من خلال هذه الرسالة ما كان عليه السعدي من سعة الاطلاع، وبُعد

الأفق، ورحابة الصدر؛ حيث طالع مجلة المنار، وأثنى عليها خيراً، وأبدى شيئاً

من مآثرها في نصرة الإسلام والمسلمين، مع أن المجلة تكاد تكون مفقودة في نجد

آنذاك، بدليل أن محمد رشيد رضا - في جوابه على رسالة السعدي - يقول:

«كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار، ويفتح بيني

وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقداً لينجلي وجه الصواب

فيها، وقد كنت كتبت إلى إمامهم [٣٠] بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من

كل جزء ليوزعها على أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين، ولكن لم يأتني منه

جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سنيّ

الحرب وما بعدها» ، بل إن الشيخ السعدي كما في هذه الرسالة قد طالع تفسير

«الجواهر في تفسير القرآن» لطنطاوي جوهري، وكشف عن مزالقه، مع

أن السعودية قد منعت هذا الكتاب ولم تسمح بدخوله إلى بلادها؛ لما تضمنه من

انحرافات [٣١] .

كما ألمح السعدي إلى ما نسب إلى مجلة المنار من تأويلات فاسدة فقال بكل

تؤدة وأدب: «وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك، وإلى

الآن ما تيسر لي مطالعته، ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل [هذه] الأمور

إلا [من] وجه الردّ لها والإبطال، كما هي عادتكم في ردّ ما هو دونها بكثير» .

ج - ومن جهود العلامة السعدي في علاج النوازل الحادثة أنه حرر مسألة

«زراعة الأعضاء» تحريراً بليغاً [٣٢] ، فكان مما قاله في مطلع هذه المسألة:

«جميع المسائل التي تحدث في كل وقت سواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب

أن تُتَصور قبل كل شيء؛ فإذا عُرِفت حقيقتها وشُخِّصت صفاتها، وتصورها

الإنسان تصوراً تاماً بذاتها ومقدماتها ونتائجها، طُبِّقت على نصوص الشرع وأصوله

الكلية؛ فإن الشرع يحل جميع المشكلات، مشكلات الجماعات والأفراد» .

وأخيراً: فإن جهود هؤلاء الأعلام تجاه النوازل كثيرة سواء كانت جهوداً

علمية أو عملية، ولعل هذه الأمثلة المذكورة تكون حافزاً لطلاب العلم وأهله في

السعي إلى بيان المسلك الشرعي تجاه المستجدات؛ فما أكثر الأحداث والنوازل في

هذا العصر التي لم تحرر علماً وتحقيقاً، وما أكثر المستجدات التي تحتاج إلى

مواقف عملية واضحة؛ فالتنصل والانزواء ليس حلاً ولا تبرأ به الذمة، والله

المستعان.


(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة بكلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الرياض.
(١) انظر الدرر السنية، ٧/٣١٠.
(٢) من الأدلة الشرعية على تحريم موالاة الكفار.
(٣) من الإدالة وهي الغلبة.
(٤) الدلائل، ص ٤٧، ٤٨، باختصار.
(٥) الدرر السنية، ٧/٣١٠.
(٦) سبيل النجاة والفكاك، ص ١٧، ١٨.
(٧) ولد الشيخ أبو بطين في روضة سدير سنة ١١٩٤هـ، ودرس على كبار علماء نجد، وجلس للتدريس، تولى القضاء في عدة مناطق، ولقب بمفتي الديار النجدية، له مؤلفات توفي في شقراء سنة ١٢٨٢هـ، انظر: مشاهير علماء نجد، ص ٢٣٥، وعلماء نجد، ٢/٥٦٧.
(٨) انظر تفصيل ذلك في عنوان المجد، ٢/٢٦٢ ٢٦٩، وتذكرة أولي النهى والعرفان، ١/١٢٦، ١٢٧.
(٩) انظر الدرر السنية: ٧/١٨٣، ٢٤٥، ٢٤٧، ٢٥٠.
(١٠) عاش الشيخ عبد اللطيف إحدى عشرة سنة بعد وفاة الإمام فيصل بن تركي.
(١١) الشيخ زيد بن محمد آل سليمان والشيخ صالح بن محمد الشثري من تلاميذ الشيخ عبد اللطيف، وكانا في الحريق جنوب الرياض، انظر: ترجمة للشيخ صالح الشتري في كتاب: إتحاف اللبيب في سيرة الشيخ عبد العزيز أبو حبيب، ص ٤٩.
(١٢) عبد الله بن فيصل بن تركي.
(١٣) يقصد: محمد بن عائض رئيس قبائل عسير وأميرًا بها.
(١٤) كانت وقعة (جودة) بين عبد الله بن فيصل وأخيه سعود، عام ١٢٨٧هـ، قد هزمت جيوش عبد الله بن فيصل، وقتل الكثير من رجاله، وسجن أخوه وقائد جيشه محمد بن فيصل في القطيف.
(١٥) الدولة التركية.
(١٦) الرياض.
(١٧) دخل سعود الرياض دون مقاومة، واستولى عليها، ونهبت جنوده الرياض، وعاثت فيها فساداً.
(١٨) توفي سعود سنة ١٢٩١هـ.
(١٩) آل مقرن هم آل سعود.
(٢٠) الدرر السنية، ٧ / ٢٥٢ - ٢٥٣.
(٢١) ولد الشيخ محمد بن سليم في بريدة عام ١٢٤٠هـ، وطلب العلم على كبار علماء نجد، وجلس للتدريس وتولى القضاء، وكان صاحب وقار وسمت، توفي في بريدة عام ١٣٢٣هـ , انظر: علماء آل سليم، ١/٢٠، وعلماء نجد، ٣/٨٧٢.
(٢٢) انظر: تذكرة أولي النهى والعرفان، ١/٢٨٦، وعلماء آل سليم، ١/١٩.
(٢٣) كتب هذه الرسالة مجموعة من علماء آل الشيخ وهم: محمد بن عبد اللطيف، وصالح بن عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف،
ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الله بن عبد اللطيف - رحمهم الله -.
(٢٤) الدرر السنية، ٧/ ٣٨٦.
(٢٥) الدرر السنية، ٨/٢٧٢، ٢٧٣، باختصار.
(٢٦) انظر: فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ١٢/٢٥٠، ٢٥٢، ٢٥٤، ٢٥٥، ٢٦٤، ٢٦٥، ٢٦٧، ٢٦٨، ٢٦٩، ٢٧٠، ٤٦٨.
(٢٧) انظر: موقف الشيخ الدوسري من القوانين الوضعية ودفاعه عن الشريعة في رسالة (حياة الداعية الدوسري) ، للطيار رسالة ماجستير غير مطبوعة، ص ٣٢٦ - ٣٢٩.
(٢٨) رسالة وجوب التعاون بين المسلمين، ص ١٣.
(٢٩) مجلة المنار، مجلد ٢٩، ج٢، ص ٤٧.
(٣٠) الملك عبد العزيز آل سعود.
(٣١) انظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري، لفهد الرومي، ٢/٦٣٨ ٦٧٨.
(٣٢) انظر: الفتاوى السعدية , ص١٩٠ , ومجموع الفوائد للسعدي، ص٨٩ -٩٧.