متابعات
تعقيب على مشاركة د. عبد الكريم بكار
تجديد البعد العقلي
أُسَيد بن عبد الرحمن الأثري
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فلقد طالعت ما نشرته مجلتكم الرائدة الماتعة في العدد (١٣٦) للأخ الدكتور
عبد الكريم بكار تحت عنوان: (تجديد البعد العقلي) .
فأحببت أن أعقب عليه بهذا التعقيب، راجياً من الله التوفيق والسداد للجميع.
فإنني لا أبخس الدكتور الفاضل حقه، ولا أنقص فضله؛ فإنه معروف لدى
الجميع بجودة الطرح وسلامة الفكر وعلمية الإصلاح، لكن ثمة تنبيهات
واستدراكات أحببت أن أناقش أخي الفاضل فيها وأعرضها عليه.
أولاً: عدم التوافق بين العنوان الموسوم والمضمون المرقوم؛ فإن البعد
العقلي لا يملكه كثير من الناس، حتى ممن علم وشاد وساد وتفقه وتأدب؛ إذ إن
البعد العقلي يعني تملّك أصول التفكير السليم، وحيازة النفسية الصابرة البارعة التي
تشق الآفاق وتتجاوز حدود الحس والزمان والمكان، وهذا قد لا يكتسب بمفاهيم
الأهلية العلمية، وقد لا يتأتى بطول الخبرة الزمانية إلا لنفوس قليلة، إما أنها نالته
هبةً وفضلاً من الباري - جل وعلا - أو أنها حصلت لها من الصفات الجسمانية
والنفسانية التي تشبثت بأنوار العلم والهدى ما توّجها الفقهية الواعية، والعقلية
المتناهية، وهذا قليل.
لذا فإن الوصول للبعد العقلي لم يحصل إلا لفئات معدودة، ولعل أبرز هذه
الفئات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وسرُّ ذلك ما أودعه الله فيهم من مكنونات
العلم والنور والحكمة التي سارت مسار الإعجاز والتحدي لسائر الأمم والشعوب،
فسقطت أمامهم كل القوى العقلية وتلاشت جميع الجهود المفكرة.
وهنا أقرر أن الأنبياء امتلكوا النهاية العقلية، بل حدتها ونضجها وسموها
وعلياءها، لا سيما في المجالات الشرعية والدعوية التي من خلالها يحرِّرون
البشرية ويبثون النور، ويدحضون الباطل والخرافة.
ومما يدل على أن التفوق العلمي قد لا يحقق البعد العقلي على كل حال ما نراه
في الأوساط العلمية من غياب (العقلية الموضوعية المعتدلة) ، وتجاهل لأدبيات
الردود والحوار، وانسياق وراء حظوظ النفس ومراميها، ولذا لا يُجهل صراع
الأقران وتناطح العلماء من القرون الأولى، وما جرى للبخاري من أقرانه وابن
تيمية من خصومه أبينُ برهان على ذلك، ولو تأملنا التاريخ الممتد السحيق لأدركنا
أمثلة غزيرة وفيرة تُجمع في مجلدات.
وهذا ما نراه في العصر الراهن ولعله صورة مبينة جلية للغثائية الفكرية
والسطحية العقلية التي تعيشها الأمة وتتذوق ضرها ووهجها وأوجاعها.
حتى بين المنتسبين للدعوة والإصلاح تجدهم يشتطون كثيراً في علومهم
وآرائهم وتصوراتهم. وفشوُّ الردود والنزاعات الجائرة التي تزعمها الهوى مما لا
يخفى، وطمسُ النبلاء والعقول الثاقبة مما لا يغيب عن جماهير الأمة في هذا
العصر المتلبد بتيارات الظلم والتقهقر والاستبداد.
بل حتى المنابر الدعوية والدروس العلمية لا تزال ضاربة في أعماق التقليد
والتبعية، وتفتقر إلى كثير من النهضة الفكرية والإصلاحية، وكذلك المرونة
الذهنية والممارسات النقدية، ولا زالت تتشبث بكثير من التقوقع والجمود وعدم
الانفتاح. ولعلي أقرر ذلك (بمنبر الجمعة) الذي تأوي إليه أفئدة الأمة المسلمة جمعاء
للتعلم والتبصر والتبين؛ فهو مع تقصيره في ترسيخ تعاليم الإسلام وتأسيس الأزلية
الحقة له، لم يمتلك إلى الآن (النضج الفكري الصحيح) للرقي بعقول الأمة
وتطويرها، في حين أفلحت مصادر مثقفة في بلورة عقولهم وتحويلها لمقاصد ذميمة
ذات مساس بأصول الإسلام وشرائعه المحكمة، لما تحلّت به من حسن عرض،
وتنوع، وجاذبية، ولطافة.
ولذا ينبغي للداعية والخطيب أن يمتلك القسط الوافر من الوعي، والقدر البالغ
من الفكر الذي يصيّره للرقي والتجديد بالمنبر، فيطور العقول، ويصحح المفاهيم،
ويلامس حياة الناس في عقلية أخاذة تحتشد بالنصوص والأمثلة والشواهد، وتسير
في هدوء وحكمة وأناة، ولست بهذا المقال أقلل من شأن أفذاذ فضلاء أدركوا أهمية
ذلك، ولكن أشير لخطأ كثيرين في هذا الباب - والله الموفق.
حتى دعاة تعظيم العقل بل تحكيمه من (العقلانيين العصريين) استبانت لنا
مزالقهم وعثراتهم الشديدة، التي لا تنبئ عن بُعد عقلي متميز، بل عن تهافت عقلي
سار على غير هدي من الله.
فمع ابتغائهم التجديد والتطوير لم يفلحوا في قضايا كثيرة؛ بل إن الأضرار
التي أورثوها والمآثم التي حملوها أبلغ من أن يُذكر لهم فضل ومحاسن، فتشويههم
للدين وانحدارهم بمفاهيمه لمواكبة العصر مما لا يرتاب فيه أحد، وموقفهم السيئ
الفاسد من السنة النبوية أصبح حديث القاصي والداني؛ بل لم يتردد رموزهم -
تقليداً لأسلافهم - بأن يصرحوا بتقديم العقل ورجحانه على النقل، وذلك كافٍ في
بلوغ ذروة التردي والانحراف.
وأسلافهم من المعتزلة وغيرهم (رواد المنهج العقلي) جعلوا العقل حاكماً
وسلطانًا على النصوص، فهووا في مهاوي التيه والضلال، وانحرفوا عن الصراط
المستقيم؛ بل إنهم مع تعظيمهم للعقل فقدوا ذلك في كثير من أحوالهم وممارساتهم،
ومحنة خلق القرآن شاهد متين على ذلك، ففيها تُوّج القبيح، وأُسقِط النبيل،
وأصبح الباطل البغيض ممدوحاً محموداً - والعياذ بالله.
فالمهم أن هؤلاء كان منهم من نبغ في العلوم وامتطى العقل رائداً له؛ لكن لم
يظفروا ولو باتزان عقلي صحيح، فضلاً عن تحقيق البعد العقلي أو تجديده
وتطويره وتنويره.
فهذا - يا دكتور! مثالٌ لأنبل الفئات عند الناس، ومع ذلك لم يلتزموا الاتزان
العقلي ولو في صورته البدهية المتواضعة، مع دعواهم التعلم والتعقل والسلامة؛
فكيف يتم لهم تحقيق البعد العقلي؟ !
لذا فإن هذا المصطلح (البعد العقلي) أكبر من أن يُصاغ بتلك المفاهيم المذكورة، وأبعد من أن يصوّر بتلك الصفات المنثورة، وقد لا نبالغ عندما نقول: إن الظفر
بالبعد العقلي في هذا الزمن قد يصبح من المثالية البعيدة والأمور المستحيلة؛ فكيف
يتأتى لنا إدراكه وتجديده وتحسينه؟
إن البعد العقلي قدرة فكرية تكشف حقائق الأمور وأبعادها ومقاصدها، وتبين
مرامي الأشياء وبواطنها وأسرارها بعقلية حاذقة جبارة، وهذا أوفق ما يكون بهذا
المصطلح.
أما تلك الأفكار المطروحة، فلا أرى أنه من اللائق نعتها (بتجديد البعد
العقلي) إلا أن يكون هذا من باب التفاؤل والمبالغة، ومع هذا فليس مقبولاً ومرضياً
لما تم تقريره، وقد عرفنا الدكتور في كتاباته بالوضوح والصفاء وحسن تمييز
الأشياء ودلالاتها، ولذلك أحسن ما يُعبَّر به ذلك المبحث الجيد، - في رأيي - هو
(الأساس العقلي) من جهة أنه بناء قاعدة تهدي العقل مجراه الطبيعي الصحيح، ومن
ثم ذلك التأسيس ذريعة للنماء والتطوير والتحسين، أو يعبر عنه (بالنضج العقلي
المتزن) لأنه علامات تكوّنٍ صحيح لعقلية سوية بعيدة عن التعصب والتخبط
والتخلف؛ إذ نحن في عصرٍ داءُ التخلف والسذاجة مُستشرٍ فيه ولا يزال كثير منا
في غيبوبة فكرية محتفَّة بالجمود والسطحية؛ إذ قد سلبت عقول كثيرين، ووُظفت
على خلاف ما ينبغي أن تكون، واستعمرت لأغراض مخصوصة، أفقدتها
الإنتاجية الفكرية والعلمية والبنائية، والناجي من ذلك محاصر بفوارس البتر
والتعطيل والإبادة.
ولذا فنحن في زمن، نود الحصول على أسهل معاني التفكير السليم ودلائله؛
لأن الأمة تعيش إشكاليات عديدة، لعل من أبرزها غياب الفكرية السليمة، التي
تهديها وتحقق إرادتها الصحيحة، ووجهتها المستقيمة، ولا أدلَّ على فقدانها ذلك من
الانحراف الفكري الذي تعيشه في كثير من التصورات ليست الدنيوية فحسب بل
الدينية؛ فإنها تعيش تغييباً خطيراً عن حقيقة دينها ومقومات مجدها، وهذا التغيب
يسلك نمطية التلهية والتعمية والتجهيل والتخدير. والفكرية المنشودة هي التي
ستحل وتعالج شيئاً من ذلك، إذا رشدت بالعلم الشرعي، وحصَّلت التصور
الصحيح، وظفرت بالوعي المنشود.
وللدلالة على الانحراف الفكري الموجود الانفجار الإعلامي والثقافي المتدفق
الذي لم يعالج أسقام الأمة ولم يحل إشكالاتها، ولم يهدها أقوم الطرق؛ بل على
العكس من ذلك؛ فإن مساهماته في التغييب المذكور آنفاً أعظم من أن توصف أو
يحاط بها - والله المستعان.
ومحصل الكلام أننا إلى الآن لم نحُز (العقلية الراشدة المنضبطة) في أكثر
أحوالها، وبما أن الأمة لا زالت مفتقرة إلى ذلك، فمن الصعوبة بمكان حيازتها
للبعد العقلي أو التجديد فيه! وكيف تملك الأمة بُعداً عقلياً وهي لا زالت تعاني من
سطحية التفكير وتبعية التصور؟ ولا زالت تعاني بعدها عن دينها، ولا زالت
تعاني سوء الفهم للقضايا الشرعية! ولا زالت جامدة لا تعرف الإنكار والتغيير
والتجديد والمشاركة؟
إن ثمة أموراً كثيرة حائلة من تمتعها بالبعد العقلي - إن صح لها نيله والفوز
به - بل هي محتاجة الآن (لمفاتيح العقلية الصحيحة) التي تستطيع من خلالها فهم
الحياة الدنيا ودورها تجاه دينها وحالها من أعدائها.
أليس من المؤسف يا دكتور! أن كثيراً من المسلمين يسير في تفكيره من غير
منطلق شرعي كأنه لا يعرف كتاباً ولا سنة، ولا يؤمن بأصول ومسلَّمات راسخة لا
يجوز بحال من الأحوال تقليبها أو النظر فيها؟ أليس ذلك عقبة كؤوداً تحول دون
التفكير الناضج؟ !
والأعجب: مَنْ يحلِّل قضايا شرعية، ويفتي في مسائل علمية، بمحض
الرأي والاجتهاد دون الرجوع للنصوص والأدلة الشرعية! !
عجباً لقد جاء شيئاً فرياً!
إن أمتنا بالصورة الواقعية بحاجة لترشيدها طرق التفكير المعتدل الذي يديم
تميزها واستقلاليتها واستقامتها؛ فإن أسباب تخلفها وسطحيتها راجع إلى بعدها عن
منهج الكتاب والسنة وطريقة السلف الصالح - رضي الله عنهم - وعدم صفاء منابع
التلقي والتعليم؛ فلقد أصبحت تأخذ عن كل من هب ودب، دون تفهم وتبصر
وتمييز، بل إنها تُصنع على طرق معينة ومقاصد معروفة - والله المستعان.
إن فضلاء الأمة في العلم والفهم لا يزالون يمارسون السياسة القمعية التي
تضيق مسارات البعد العقلي في طروحاتهم ولقاءاتهم ومصنفاتهم؛ بل لا يحاولون
وضع الأسس النامية المنضبطة التي تقود العقول لبر الفسحة والأمان والازدهار.
فإذا كان هذا المسلك متلبساً به فئة كبيرة من البارعين، فما بالك بمن دونهم أو
من ينطلق في تفكيره من دوافع شخصية، أو نوازع انتمائية لا تخدم الحق المقصود
ولا الصواب المحمود؟ ! لا تزال تلك (الفئة المرموقة) تعيش مضايق التفكير، ولم
تتحرر بعدُ من البدائية العقلية ولا الصناعة الفكرية. حتى المسائل الشرعية
والقضايا الدعوية لم نمنحها بعد الأفق الواسع الذي يتيح لها أن تُبحث وتُناقش
بطريقة علمية رفيعة، وعقلية متزنة، وفقهية متأدبة تمنع كل معكرات الهوى،
وأدوار التعصب، وألوان الضحالة، وتصدها.
إن كثيرين من هؤلاء يرفضون البتة مناقشة آرائهم وبحوثهم والنظر فيها،
ولا يرتضون سماع النقاد الناصحين الذين غايتهم الإصلاح والبناء والتقدم، بل
يرون (مبدأ النقد الصحيح) افتئاتاً عليهم، وانتقاصاً لأقدارهم. لذا فقد منحوا أنفسهم
طوقاً متيناً من الحماية والقداسة، يمنع كل محاولة لتحريك الفكر ونشر الحق وتبادل
الحوار.
فأمة لا يزال أرقى مثقفيها ذوي حساسية شديدة من سماع النقد المثمر الصحيح؛ كيف لها أن تدرك العقلانية السامية الرشيدة؟ ! إن هذا الشيء محال!
ومن هؤلاء فئام - وإن حاولوا ارتسام العقلانية - إلا أنهم غالوا في حبها
واستحسانها وتطبيق كل معاييرها، ويُخشى من انجرافهم إلى هوة الجهل والتطاول
كأسلافهم.
قال الإمام ابن الجوزي في كتابه (صيد الخاطر) : (ولقد أنس ببديهة العقل
خلق من الأكابر أولهم إبليس؛ فإنه رأى تفضيل النار على الطين فاعترض) .
ورأينا خلقاً ممن نُسب إلى العلم قد زلوا في هذا واعترضوا، ورأوا أن كثيراً
من الأفعال لا حكمة تحتها! والسبب هو الأنس بنظر العقل في البديهة والعادات،
والقياس على أفعال المخلوقين.
ثانياً: أما بالنسبة للشروط التي ذكرها الدكتور الفاضل للتجديد فهي صحيحة
في الجملة؛ لكن أرى أنه ينبغي أن يزاد عليها شروط أخرى مهمة منها:
١ - سير التفكير من وجهة شرعية مستضيئة بعلم شرعي صحيح تعظم الحق
وتنشده: لأنه حتى مع إيماننا بالثوابت وعدم المجادلة فيها، وامتلاكنا للخيال الفسيح، وإيقاننا بالتغيير نخطئ في جوانب من التفكير، مع أن الخطأ حينئذٍ أهون مما لو
فُقدت الشروط المذكورة.
وثمة أخطاء في تفكير كثيرين من مُدعي العقلانية والوعي والحذاقة؛ فثمة
أناس يفكر أحدهم - مثلاً - في جوانب سلوكية من واقع تذوقه أو ميوله أو مجتمعه، مما يجعله يفقد صواب الرأي ويضطرب في مسألة التحسين والتقبيح.
فنحن نعلم جميعاً سعة الشريعة الإسلامية، في مخاطبتها أكثر طبقات المجتمع، ونعلم شموليتها في تقييم شؤون الحياة، وضبط مناحيها وأدوارها. فالنصوص مع
وفرتها في جانب الاعتقاد تجدها لا تقل في جوانب التربية والسلوك والاجتماع
والاقتصاد والإدارة. ولذلك تكلم كثيرون في هذه المجالات دون دلالات النصوص
ونصاعة الأدلة، فجاءت تصوراتهم وتحليلاتهم مجانبة للدلائل الشرعية. فأورث
ذلك عدم الدقة في التفكير واستخلاص النتائج؛ فبعض هؤلاء أطلق أحكاماً بناءاً
على تصور صحيح في الجملة، دون الالتفات للنصوص فأخطأ، وآخرون
تصوروا اعتماداً على نظريات وأبحاث ودراسات غربية لا مساس لها بالشريعة،
فجانبت الصواب وخالفت العلم الصحيح.
٢ - الوسطية العقلية: فمع حصول التفكير ينبغي ألا يُغالى في العقل ويُعتمد
عليه ويُعطى صلاحيات فوق قدرته وأكبر من إمكاناته، وأن يكون في جميع
محاوره خاضعاً للنقل والنص، فلا يُفتأت على النصوص برجاحة العقول وروائع
الأفكار وصحيح الفهوم.
وهذا قيد أراه في غاية الأهمية لتحقيق العمق العقلي والتجديد فيه، وما وقع
الزلل والانحراف لكثير من الفرق والأفراد إلا بتخلف هذا الشرط عن مناهجهم.
فهذا العصر قد تلاطمت فيه الثقافات وتزاحمت المعارف والاكتشافات وأصبحت
السيادة للعلم دون الاهتمام بسلامة منابعه ومصادره، أو موافقته لمنهج الله - تعالى- فتلقف من تلقف من المسلمين ذلك، دون تمحيص ومعارضة، فوقع الغلط
والشطط واللغط.
فلا بد هنا من الانضباط العقلي، بأن تُسلك العقلانية بتعقل وتنتهج بتمهل،
وتصبح في سائر أحوالها تابعة وعائدة للنقل. والعقول السليمة تعلم وتدرك حاجتها
للنصوص الصحيحة، وأنها تهتدي بهديها وتستضيء بنورها، ولا يمكنها التسيد
والترفع عليها؛ بل إنها تكون مجاورة للنصوص، تأييداً، وتبييناً، وتأكيداً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - (العقل الصحيح دائماً موافق
للرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالفه قط؛ فإن الميزان مع الكتاب، والله أنزل
الكتاب بالحق والميزان؛ لكن قد تقصر عقول الناس عن معرفة تفصيل ما جاء به،
فيأتيهم الرسول بما عجزوا عن معرفته وحاروا فيه، لا بما يعلمون بطلانه؛
فالرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - تخبر بمحارات العقول، لا تخبر بمحالات
العقول) ا. هـ.
وما أحسن ما قاله بعضهم:
علمُ العليمِ وعقلُ العاقل اختلفا ... مَنِ الذي فيهما قد أحرز الشرفا؟
فالعلم قال: أنا أحرزت غايته ... والعقل قال: أنا الرحمن بي عُرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له: ... بأيِّنا الله في قرآنه اتصفا
فأيقن العقل أن العلم سيّدُه ... فقبَّلَ العقلُ رأسَ العلم وانصرفا
وأما دعوى تعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح فهي باطلة مردودة
فنَّدها الأئمة الأعلام طولاً وعرضاً، كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في
(درء تعارض العقل والنقل) ، والإمام ابن القيم - رحمه الله - في (الصواعق
المرسلة على الجهمية والمعطلة) . فليراجعها من أراد ذلك.
والمقصد هنا ضبط العقل على مساراته الصحيحة المعتدلة، دون غلو أو
إجحاف؛ فمع تحذيرنا من رفعه فوق قدره، ننهى كذلك عن إزرائه وإقصائه عن
دوره المطلوب.
٣ - نشدان الحق والفائدة: فلا بد أن يكون التجديد وسيلة لغاية نبيلة، وأن
يتمحض فيها طلب الحق والبحث عنه، وأن لا يُتراخى في المؤثرات التي تحاول
التقليل من شأنه أو إهداره بالكلية. وأن لا يُخضع الحق لنظريات الواقع ومعالمه
التي أكثرها منابذ لروح الشريعة الحقة، فلا تطغى سياسة الأمر الواقع عن تبيين
الحق ونشره، وإبرازه للناس، مهما عظم الباطل وانتفخ، وتكاثرت أجناده؛
فتحليل قضية مَّا الحقُّ فيها نيّر مبين والواقع أن ٩٩% على خلافها لا يعني التسامح
والإغضاء والتنازل والإخفاء، قال تعالى: [قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو
أعجبك كثرة الخبيث] [المائدة: ١٠٠] ، وقال تعالى: [وإن تطع أكثر من في
الأرض يضلوك عن سبيل الله] [الأنعام: ١١٦] .
فإهمال هذا الشرط تجنٍّ على الحق، وانهزام عن حمل معانيه وأهدافه، وإثم
ما أعظم خطره! ولو غٌلِّف ذلك بأنماط الحضارة والتقدم أو أشكال المصلحة المهنية؛ فقد رأينا زلل أولئك في قضايا خطيرة: كالربا والموسيقى والتصوير والعهود
والمواثيق وأشباهها، ولم يظفروا بشيء مما أرادوا، بل تضاعف الشر شرين،
وكِيلَ لهم بمكيالين، وانغرَّ العوام والسذج، وفقد أولئك منازلهم وصلاحياتهم. والله
المستعان.
٤- النضوج الفكري: وهو بمثابة القاعدة الأساسية، والطريق الموصلة
لحركة التجديد؛ فإن التجديد معنى زائد على مسألة النضج، والنضج هنا لا بد أن
يتجاوز فيه الناس حواجز الضحالة والجمود والأخطاء، ويمتلكوا منهجاً فكرياً
صحيحاً مركَّزاً يتسم بالسعة والسمو والفهم مدركاً آليات التجديد ومقوماته، دون
تعثر وانحسار وتخبط.
٥- الصفاء: إن عملية التجديد لا تسوغ في جوٍ ملبَّد بعجاج السقم والدخن
والهوى، فلا بد من تصفية النهج، وتنقيته من غوائل التفكير وشوائب النفس،
حتى تُمارَس التجديدية في أفق رحب خال من المكدرات والموانع التي تحول دون
حصوله ونجاحه وتمامه، والصفاء داعٍ مؤثر للإنجاز والإبداع والإفادة.
٦- الشمولية والتكامل: امتلاك النظرة الشاملة والعميقة المتقصية المتكاملة
ضرورية لازمة للتجديد؛ إذ بالتصور الشامل تُكشف الأبعاد والغايات وتُدرك
الأخطاء والانحرافات، ويتم استخلاص النتائج الواضحة الصحيحة، وإبراز
جوانب النقد والتصحيح في ذلك، لكي تُباشر العملية على أتم وجه وأحسنه، بعيداً
عن الضيق والانغلاق والجزئية.
ولذلك حتى تتحقق مسألة التجديد - إذا تأتى لها زمنها الخصب - فلا بد من
توافر جميع هذه الشروط، حتى تخدم الوجود الإسلامي المتميز.
وأما الشروط المقررة من الدكتور فهي لا تعدو أن تكون أوليات لازمة لتفكير
المسلم، فلا بد من وجودها في كل مرحلة تمهيدية للتفكير، بل نرى فرضيتها حتى
في بدهيات التفكير وأشكال الحياة المختلفة.
وأخيراً
فإن هذا المقال المتواضع مشاركة في الرأي والفكر غايته التبني
والتصحيح، ولا يعني التقليل والتنقص والتشاؤم، وإنما الإيقاظ والتنبّه والمسارعة، واستنفار جميع القوى العلمية النابهة، والقوى الفكرية السامية للسباق بكل أوجه
التغيير، والتخلي عن كل وسائل التخدير، والتضحية البالغة لنشر مراكب الإنقاذ،
وتقريب أدوات الإسعاف للنهضة والرقي والسلامة، حتى تعود الأمة لرشدها،
وتعي وجودها وأهميتها.
وليعلم الإخوة القراء الكرام أن ما رقمه الدكتور البكار الموفق في هذا الباب
من أحسن ما قرأت وطالعت، والموضوع يعتبر من القضايا الشائكة الخطيرة التي
يخوض فيها كثيرون، وهو من أخطر ما يكون في هذه الحياة على أمتنا الإسلامية،
والتداعي لبحثه وتناوله باستفاضة وموضوعية على نطاق واسع مطلب لكل
المصلحين ذوي الفكر والنباهة.
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.