للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

أفلا يتدبرون

رئيس التحرير

ليس من أمر هذا الدين أن يكون فيه غلو وتنطع أو يكون فيه جمود وعنت،

وهو دين الله ليس بأهواء البشر ولا بأمانيهم، وهو رحمة للعالمين، وبه يصلح

حالهم الذي لا يصلح إلا بالطريق الوسط الأعدل، طريق الذين أنعم الله عليهم،

ولكن من طبيعة البشر نشوء من يميل إلى أحد الطرفين مجانباً سواء السبيل، مما

يوجب على العلماء التصدي لهم بغية إصلاح الاعوجاج. ونفي الزغل والشطط عن

هذا الدين الحنيف.

وبسبب غياب العلم الصحيح في بعض المواطن والأماكن في هذه الأيام،

ظهرت آراء شاذة وتجمعات صغيرة تلتف حول شاب متحمس لم يرسخ في العلم بعد، أو حول شيخ سوء يجمع الناس حوله بزخرف من القول، أو بمداهنة في التشدد

حيناً، وفي الترخص أحايين، قد باع دينه بدنياه!

وهذا الذي يبدو على السطح من منكرات الأقوال والأفعال ما هو إلا عَرَض

للمشكلة، وليس أساسها وإنما تتلخص المشكلة بالسؤال المطروح: ما هو المناخ

الذي هُيِّئَ لخروج مثل هذه التجمعات؟ وما هي الأرضية التي تنبت أمثال هذه

الأفكار؟ وكيف يقبل الناس اتباع رجل يقول بالمتناقضات ويجمع أسس البلايا؟

وكيف يقبل شباب متعلمون، وفيهم أصحاب الدراسات العليا وأصحاب الاختصاص

العلمي، كيف يقبلون أن يكونوا أصفاراً مغمضي الأعين يأخذهم شيخهم تارة هنا

وتارة هناك؟ !

وهذه الظاهرة لا تقتصر على بلد دون آخر بل تكاد تلف العالم الإسلامي؛

حيث انتشر الجهل وقلَّ العلماء، وفي هذه العجالة محاولة مبدئية لتشخيص الواقع

الذي يُفرز هذه الأسئلة:

أولاً: لابد أن نعترف أن المناخ العام الذي عاشه المسلمون في عصور

الانحدار العلمي ويعيشون بعضه الآن لا يساعد ولا يدعو إلى التفكير المستقل،

التفكير الذي يدعو الإنسان إلى التبصر ومعرفة مواقع القول، ويميز بين الخالص

والمزيف. وقد أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نستخدم هذه الطاقات التي وهبنا

إياها، فإنه كما وهبنا السمع والبصر، فقد دعانا إلى ممارسة التعقل، الذي يمنع

التدابر والشقاق: [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ] [الحشر

: ١٤] ، والتي تزع عن الشر: [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ

السَّعِيرِ] [الملك: ١٠] ، والتي تدعو إلى الاتعاظ بالذكرى: [يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن

يَشَاءُ ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]

[البقرة: ٢٦٩] ، [وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ والنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ] [يونس:

١٠١] ، كما دعانا - سبحانه وتعالى - إلى ممارسة التذكر والتبصر والتدبر في

آيات كثيرة: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى والْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ] [الأنعام: ٥٠] ،

[انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ] [الأنعام: ٦٥] ، [أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ

القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] [محمد: ٢٤] ، ولا شك أن الذي يجري على الساحة

الإسلامية من الآراء الفجة المستهجنة ما هو إلا لأنهم لا يتدبرون القرآن.

إن المناخ السائد هو الانغلاق والجمود والعنت والتقوقع حول من يتلقون عنه، فلا يتكلم بكلمة إلا تلقفوها، ولا يتحرك حركة إلا وحفظوها! ! والمناخ السائد هو

التقليد الأعمى، العريق في التقليد، ولا نتكلم عن اتباع عالِم على بصيرة واحترامه

والتأدب معه والاستفادة منه، فهذا شيء وذاك شيء آخر.

إن هذا المرض العضال ليس مقصوراً على اتباع شيخ يستغل الدين لزعامته

ويربي الشباب على الخضوع له، بل طال حتى الذين ينادون بالضد من هذا، بل

وحتى الذين يحاربون ما سمّوه (الآبائية) [١] ، وهي كلمة حق يراد بها باطل أحياناً،

فقد يحاربون بها التراث الصحيح للأمة، حتى هؤلاء قد شملهم هذا المرض فرددوا

آراء مَن سبقهم، ووقعوا فريسة أسماء مشهورة من الكفرة والملحدين، ولا يقولون

هذا صحيح وهذا خطأ بل يأخذون أقوالهم مأخذ التسليم والقبول.

ثانياً: المناخ الاستبدادي الذى تعيشه الأمة يجعل الفرد يشعر بالضآلة والمهانة، فيلجأ إلى شيخ هنا وزاوية هناك، أو يهرب من واقعه، والضغوط التي تُمارَس

عليه، إلى اللامعقول. ومن طبيعة الاستبداد - سواء أكان في البيت أو المدرسة أو

المجتمع - أن يشل الفرد عن الاستقلال في التفكير، فينشأ نشأة لا يثق فيها بنفسه

ولابد أن يلتصق بمن يفكر عنه ويأمره وينهاه. وقد تعوَّد هذا المسكين على حياة

الذل، فما المانع أن يكون تابعاً مقوداً لمن يحب أن يتصدر للرئاسة الدينية.

ثالثاً: غياب العلماء الفقهاء الذين يعلّمون الناس أمر دينهم، ولا يريدون علواً

في الأرض ولا فساداً، بل يقولون بالحق وبه يعدلون، ولا يرهبون الكثرة أو القلة، فهم كالطبيب النطاسي الذي يعرف الداء فيعالجه من جميع جوانبه، وإن أحد

أسباب هذا الغياب قد يكون راجعاً للسبب السابق، فقد تفرق هؤلاء وبعدوا عن

أوطانهم، وذهبوا كل مذهب بسبب الظلم والإرهاب الذي يمارس على كل داعية

صادق، وعندما غاب هؤلاء تسلق هذا الركن الركين، وتصدَّر للمجالس الأصاغر

أصحاب الأهواء والذين في قلوبهم مرض، ووجدوها فرصة للزعامة وجمع الأتباع.

وللسبب نفسه غابت المؤسسات العلمية القوية التي يتخرج منها من يعلّم الناس

الإسلام الصحيح ويتصدى لمشكلات الأمة.

رابعاً: القلق النفسي الذي يعيشه بعض المسلمين نتيجة البيئة الثقافية

والاجتماعية، ونتيجة القهر والتشرد والبعد عن الأوطان، فيصبح الرجل من هؤلاء

متشنج الأعصاب سوداوي المِزاج، فيفتي ويتكلم من منطلق هذه المعاناة، وتأتي

أحكامه وفتاويه عجيبة غريبة، والذين يعانون أمثالهم يعجبهم هذا التشنج فيؤيدون

أقوالهم، ولا يلتفتون إلى أقوال العلماء الذين هم على دراية بالشريعة ومقاصدها

وعلى دراية بواقع المسلمين. خامساً: يُستغل ضعاف النفوس وأصحاب الآراء

الشاذة لمحاربة أهل المنهج الصحيح، والذي يريد استغلالهم يقدم لهم العون المادي

والمعنوي مما يجعل بعض الانتهازيين يلتفون حولهم طمعاً بالدنيا، وحتى يظهر

هؤلاء بالمظهر العلمي أمام الناس فلابد أن يخوضوا في الفقه والدين ويخوضوا في

التبديع والتفسيق للآخرين ويدَّعوا أنهم أصحاب اتجاه ديني، فيقع التشويش في

الساحة الإسلامية.

هذه هي بعض الأسباب التي نراها مهيِّئة للمناخ الذي يتخرج به من ذكرناهم، والذي يستطيع المسلمون فعله هو إشاعة المناخ العلمي الذي يدعو إلى التدبر

والتبصر، والدعوة للارتباط بالمنهج السليم وبذل الأخوة، والتقدير لكل من يرتبط

بهذا المنهج، كما يجب أن نعلم أن الكلام على الغلاة وأصحاب الأهواء ليس من

باب تفريق صف المسلمين بل هو من صميم الوحدة الإسلامية.


(١) أخْذاً من قوله - تعالى -[قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا] [البقرة: ١٧٠] .