الافتتاحية
[شارون والمرحلة الأخيرة]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
فلم يكن أحد يتوقع أن يصل شارون إلى سدة الحكم في دولة يهود في فلسطين
على الرغم من حضوره الدائم سواء كان آمراً لكتيبة أو قائداً لجيش أو وزيراً للدفاع
أو للمستعمرات؛ لأنه في كل ما سبق ينفذ سياسة محددة تتناسب مع شخصيته.
أما آراؤه السياسية حول طرد العرب وإقامة دولة لهم شرق الأردن فهي وإن
اتفقت مع الهدف الاستراتيجي للحركة الصهيونية فإن الوقت لم يحن لتنفيذها؛ ولذا
لم يكن يتصور أحد أن يصل لقمة الهرم حتى داخل حزب الليكود، ولكن سقوط
نتنياهو المبكر وخروجه الفضائحي من الحياة السياسية فتح له المجال داخل الحزب؛
وبقدر ما كان سقوط باراك سببه الإخفاق في إيقاف الانتفاضة فإن ادعاءه القدرة
على وقف الانتفاضة هو السبب الرئيس في اختياره رئيساً للوزراء، ولسان حال
الناس هو أن من تسبب في إشعال الانتفاضة هو الأقدر على وقفها، وهذا يذكِّر
برجل الإطفاء الأمريكي الذي قبض عليه بسبب أنه يشعل الحرائق في الغابات ثم
يشارك بحماسة في إطفائها حتى يحصل على المكافآت، وحيث إن حرائق أمريكا
خرجت عن السيطرة فكذلك يبدو أن الانتفاضة مؤهلة للاستمرار على الأقل حتى
سقوط شارون الذي يتوقع أن يكون مدوياً.
وحيث إن المرحلة الحالية من الصراع يتوقع أن تفرز أكثر من شارون بل
ويمكن أن يكون هناك تيار شاروني يحاول فيه بعض القادة الصغار تقمص شخصية
شارون والبروز مثله؛ فإننا نحتاج إلى معرفة كيف برز شارون وعلا نجمه بين
اليهود ليُستدعى عند كل ملحمة، وكيف تحول العسكري الأهوج إلى سياسي محنك
يدير مجلس الوزراء كما يدير مزرعة الأبقار التي يملكها؟
لقد بدأ حياته العسكرية وبرز في ارتكاب المجازر ضد سكان القرى الفلسطينية
ثم تطور إلى ارتكاب جرائم قتل الأسرى المصريين عامي ١٩٥٦، ١٩٦٧م،
وكان عذر قتل الأسرى هو عدم وجود وسائل لنقلهم!!
وبين الحربين ١٩٦٧ و ١٩٧٣م تولى تصفية العمل الفدائي في غزة بأساليب
عنيفة، وفي حرب ١٩٧٣م تولى قيادة القوة التي قامت باجتياز قناة السويس في
عملية ثغرة الدفرسوار التي لا شك في أن الضغط والتهديد الأمريكي كان له دور
كبير في الإبقاء على الثغرة واستعمالها في تقوية الجانب اليهودي في مفاوضات
الكيلو ١٠١، وإلا فإن هذه العملية تعتبر مصيدة نموذجية، ويكفي الجيش المصري
أن يقوم بتصفية هذه القوة ليضمن انهيار معنويات اليهود؛ ولكن بدلاً من ذلك فإنه
يبدو أن هناك قراراً سياسياً لخفض معنويات المصريين المرتفعة، وقد خفف
استبسال القوات الشعبية بقيادة الشيخ حافظ سلامة من آثار العملية وخرج شارون
بطلاً، ولكن لا ننسى الجنود المجهولين الذين حموه ومنعوا رئيس الأركان المصري
من تصفية الثغرة وخروجه من الجيش بسبب ذلك، وبعد سنوات معدودة وصل
الليكود إلى الحكم لأول مرة بعد حرب ١٩٧٣م، وتولى بيجن رئاسة الحكومة،
واختير شارون وزيراً للدفاع؛ وهنا كانت المغامرة الجديدة وهي غزو لبنان؛ حيث
تمكن شارون من إقناع بيجن بالموافقة على اجتياح لبنان، وكان بيجن يصرح فيما
بعد أن شارون خدعه.
وكما هي العادة فإن شارون بدأ الحرب ودمر بيروت ومخيمات الجنوب وسهل
للموارنة ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، ولكنه ترك لغيره التعامل مع آثار الحرب،
وتم إرسال قوات أمريكية وفرنسية لتثبيت الوضع كما تريد إسرائيل، واكتفت
إسرائيل باحتلال الجنوب، وسرعان ما خرج شارون من الوزارة لاتهامه بمجازر
صبرا وشاتيلا، وتعرضت القوات الأمريكية والفرنسية في بيروت، والإسرائيلية
في صبرا لعمليات تفجير ضخمة راح ضحيتها المئات من جنود النخبة، وخرجت
أمريكا وفرنسا من بيروت، وخرج اليهود من صيدا وصور وتمسكوا بما يسمى
الشريط الحدودي، واستمر جيش اليهود ينزف في هذه المنطقة لمدة حوالي عشرين
سنة حتى خرج أخيراً يجر أذيال الخيبة، ولكن بعد أن أدى وجود هذه القوات
لظهور حزب الله.
ويمكن اختصار آثار غزو لبنان بالآتي:
١ - تراجع سلطة الموارنة والسنة وارتباطهم بسورية.
٢ - خروج المنظمات الفلسطينية.
٣ - افتضاح التحالف الدرزي اليهودي حتى على حساب النصارى.
٤ - ظهور الشيعة؛ وكانت حرب الجنوب عاملاً في تثبيت نفوذهم في
بيروت، وكان بروز حزب الله يعني دخول إيران إلى الساحة.
٥ - تحول لبنان إلى منطقة نفوذ سوري إيراني، وخروج القوات اللبنانية
وجيش لحد الجنوبي المواليين لإسرائيل من الساحة السياسية والعسكرية.
ونستطيع أن نقول إنه أياً كان الرابحون من غزو لبنان الذي رفع لواءه
شارون فإن إسرائيل خرجت من لبنان وهي تحاول الآن تثبيت حدودها الشمالية.
* شارون رئيساً للوزراء:
إن شارون بسبب الخلفية العسكرية فإنه يملك عقلية تخطيطية قصيرة الأجل
منقطعة النظير فقد استطاع أن يستميل حزب العمل المهزوم ويشركه بالحكومة،
وكان نجاحه الأهم هو أنه قد نجح في تقديم طعم ابتلعه الحزب المنافس؛ فقد قدم لهم
وزارات السيادة وهي وزارتا الدفاع والخارجية، وأصبح رئيس حزب العمل
بنيامين إليعازر وزيراً للحرب ويداً يبطش بها شارون ويهدم بها السلطة الفلسطينية
التي بناها حزب العمل، أما رئيس الوزراء السابق بيريز فهو مجرد رسول
لشارون؛ فهو يقابل عرفات وليس له حق في التفاوض معه، بل ويصرح أحد
الوزراء في التلفزيون أن مشاركته في أحد الوفود التي يرأسها بيريز هو لأجل
التأكد من تنفيذ سياسة الحكومة، أو بمعنى آخر ضبط بيريز ولا شك أن شارون قد
أحرق البديل له؛ فهل يستطيع حزب العمل الاعتراض على سياسات يقوم هو
بتنفيذها؟
إنها معادلة صعبة ولكنها مطبقة بنجاح في مجالات أخرى؛ فمثلاً عندما تقبل
الدول الأوروبية استقبال ١٣ مبعداً من الخليل، ويتم بذكاء توزيعهم على مختلف
الدول لهدف وحيد هو لجم هذه الدول عن الاعتراض على أي عملية إبعاد مستقبلية،
ولم تقف سياسة التوريط عند هذا الحد، بل إن عملية تصفية السلطة القديمة
واستبدالها بأخرى جديدة بدعوى الإصلاح هي فكرة شارون ولكن عهد بتنفيذها
لأمريكا وبعض دول المنطقة.
إن شارون يدمر السلطة القائمة وعلى الآخرين إقامة سلطة جديدة وأجهزة
أمنية جديدة بمواصفات إسرائيلية، ولكن لنتذكر لبنان وأنه إذا احتاج اليهود إلى
عشرين سنة للخروج من ورطة لبنان فكم يحتاجون من الوقت للخروج من الورطة
الحالية؟ وما هو الثمن الذي ستدفعه أمريكا للانسحاب من القضية!!