مهام أهل البصيرة الاجتماعية عديدة ومتنوعة، ولعل من أجلِّها مراقبة توجهات المجتمع وفتح العين بقوة على الاختلالات الأخلاقية والسلوكية التي تحدث نتيجة التنمية السريعة والتغيرات المتلاحقة. والملاحظ اليوم تعرُّض شيء أساسي في حياتنا للنضوب؛ وهو السكينة والطمأنينة الاجتماعية، وهذه الطمأنينة تتولد في الأساس من الثقة التي يتبادلها الناس في تعاملاتهم. تشكل الثقة جزءاً مهماً من رأس المال الاجتماعي والذي إذا اضمحل فقد لا نستطيع استرجاعه إلا بعد أجيال عديدة. وتلعب (العولمة) دوراً جوهرياً في تراجع الطمأنينة والثقة الاجتماعية بما تشيعه من أخلاق (الصفقة) بما تنطوي عليه من المساومة والخديعة، وإبراز المحاسن، وإخفاء العيوب؛ والأداة التي تستخدم في ذلك هي فن (الدعاية والإعلان) ؛ حيث ينفق العالم اليوم على الدعاية ما يزيد على خمسمائة مليار دولار سنوياً. حين تثق بإنسان فإنك تعتقد أنه متين الخلق وصادق وناصح، وغير مخادع، وأعتقد أن من المسؤوليات الأساسية للخطاب الإسلامي اليوم تقديم نموذج يساعد على تدعيم الثقة الموجودة، واستعادة ما فُقد منها، وهذا النموذج يقوم على السعي إلى التزام الصدق بشكل مطلق، وخدمة الحقيقة والنصح الخالص للناس فيما يُصلح أمور دينهم ودنياهم. وأدنى درجات الصدق يتمثل في موافقة كلام المرء لمعتقده، فإذا كان صانع الخطاب يعتقد أن الأمة تمر بمرحلة حرجة جداً فعليه أن يجهد بذلك، ولو أنه بذلك قد يعرِّض نفسه لأن يوصم بأنه متشائم، وإذا كان يعتقد أن الجانب الروحي من حياة المسلمين يحتاج إلى عناية خاصة فعليه أن يعلن ذلك، ولو علم أنّه بهذا سوف يثير عليه من يرى أن الحديث في المسائل الروحية كثيراً يخفي وراءه نوعاً من الانحراف العقدي ... وهكذا.
هناك إلى جانب هذا درجات من الصدق أسمى وأرقى، وهي تساعد على نحو قوي في تقوية الثقة وإنعاش الطمأنينة الاجتماعية، ومنها:
١ ـ الحرص على أن يكون الكلام مطابقاً للواقع، حيث إنّ الناس حتى يثقوا بنا لا يحتاجون إلى الاطمئنان إلى أننا نتحرى الصدق في كلامنا فحسب، وإنما يحتاجون إلى شيء آخر؛ وهو الثقة بأننا حيث نتحدث في أمرٍ مَّا فإننا نعرف عن أي شيء نتحدث، ونعرف مسؤولية الكلمة، ونتحسس الآثار التي تترتب على الخطاب الجماهيري الواسع الانتشار. ويؤسفني القول في هذا السياق: إن كثيرين منّا يقرؤون الواقع قراءة متعجلة أو ناقصة أو سطحية، ولا يعرفون أنهم يفعلون ذلك، ومن ثم فإنهم لا يتهيبون إطلاق العبارات والكلمات الكبيرة! ومن الملاحظ اليوم أن كثيراً من الناس يهتمون بالاتساق الشكلي للتعبير بوصف ذلك جزءاً من (ثقافة الصورة) التي ترسخها الحضارة الحديثة على نحو واضح، وهذا كثيراً ما يكون على حساب عمق المضمون ودقة المعنى، وهذا يولِّد لدى الناس شعوراً بعدم الثقة بجدية ما يقال ومصداقيته.
٢ ـ حين يجد صانع الخطاب نفسه عاجزاً عن قول الحق والإعلان عن الحقيقة، فإن عليه حينئذ أن يسكت، حيث لا يُنسَب إلى ساكتٍ قول. وأعتقد أن الحالة المثالية في مثل هذه الوظيفة تكمن في الحرص على اختيار المجال الذي يستطيع فيه المرء أن يتحدث عن كلِّ أو جلِّ ما يريد. ولا ريب في وجود مشكلة في هذا؛ لكنه يظل أخف ضرراً من أن يقول المرء ما لا يعتقد، أو يشوّه الحقيقة، أو يولِّد لدى الناس انطباعات خاطئة.
٣ ـ يُبدي العقل البشري كثيراً من الارتباك أثناء التعامل مع العبارات والجمل والكلمات التي تتحدث عن الكيف أو الصفة؛ وذلك بسبب عدم تمكن الإنسان من صياغة مصطلحات وتعبيرات دقيقة وحاسمة في التعبير عن هذا الأمر، وعلى سبيل المثال فإننا حين نقول: إن فلاناً كريم جداً، أو جبان أو حسن التدبير. فإننا نتحدث في الحقيقة عن معان نائمة، وعن أشياء نسبية، ولهذا فإن درجة اطمئنان الناس لتوصيفاتنا تظل منخفضة، وقابلة للاهتزاز في أي وقت. والأمر معكوس تماماً في حالة استخدام (لغة كمية) حيث إن العقل يُبدي براعة نادرة في الفهم حين نتحدث عن الأعداد والمساحات والمكاييل والأحجام، ومن ثم فإن بلاغة الرقم هي بلاغة العصر الحديث، وإذا أردنا للناس أن يثقوا بما نقول فلنكثر من استخدام الأرقام الموثوق بها قدر الاستطاعة، مع الانتباه إلى ما يمكن أن نسمّيه (المتاجرة بالأرقام) ، بسبب قابليتها الشديدة للتزوير والتزيُّد والمبالغة.
شيء آخر يعزز الطمأنينة الاجتماعية ويدعم التلاحم الأهلي؛ وهو عمل الخير، حيث إن روح التطوع والعطاء المجاني حين تصبح سمة ظاهرة في المجتمع، فإنها تخفف من حدة الشعور بالمنافسة، وحدة الشعور بارتهان الناس للمصالح والمنافع الشخصية، والذي كثيراً ما يدفع إلى الكذب والخديعة والقطيعة، ومن هنا نجد النصوص الكثيرة التي تحث الإنسان المسلم على بذل المعروف، وقضاء حاجات إخوانه، ومساعدة ذوي الظروف الصعبة، والاحتياجات الخاصة. كما نجد النصوص التي توضِّح الثواب العظيم لفاعل الخير ومقدم الخدمة المجانية.
بناء الثقة الاجتماعية يتطلب حرصاً أقل على الأمور المادية، واهتماماً أشد بالمعنويات والاعتبارات الأخلاقية، وهذا يشكل تحدياً كبيراً لنا جميعاً.