للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

هواة التقويم ... وهواة جمع الطوابع

عبد العزيز السعدي

تكثر سهام الانتقاد والتأنيب من الباحثين والتربويين تجاه العديد من

الاهتمامات الوضيعة من جهة، وتجاه أصحابها ومحترفيها على مختلف ميولهم

وأعمارهم من جهة أخرى، كهواية جمع الطوابع، وتربية الكلاب، والمراسلة،

وغيرها من تلك الهوايات والاهتمامات التي تشترك في غير ما هدف مع ضيق

النظر وسطحية التفكير.

وهذه الاهتمامات بطبيعة الحال لا تحتاج إلى شاهد من غير أهلها يشهد عليها

بالسفافة والتفاهة.. بل كفى بها شهيداً على حالها، والحق كل الحق مع من تعرض

لها في نقده وبين تفاهة مقاصدها، بالإضافة إلى وضوح أن احترافها والانكباب

عليها عديم الجدوى؛ فهذه الهوايات لا تنفع ولا تفيد الأمة بشيء.. ولا تتكفل

بتوجيه طاقات أبنائها توجيهاً صحيحاً نافعاً يكفل العطاء والنتاج المنتظر، إنما هي

قتل للإبداع، وبعثرة للجهود، وكبكبة لقوالب التفكير، ودناءة ووضاعة في

اتجاهات النظر لدى أبناء الأمة.

ومما يجدر النظر إليه أن هناك هوايات أخرى وأؤكد على أنها هوايات لا

تتعدى ذلك المسمى بأي حال من الأحوال قد بدأت بالانتشار والذيوع بين عدد من

الشباب الذين يظهر عليهم طابع الخير والاستقامة، وأصبحت تشغل مجالسهم

وأوقاتهم كثيراً، وتدير دفة الحديث بين أفرادهم على مستويات مختلفة.. وهي في

الحقيقة لا تختلف كثيراً في منطلقاتها وأهدافها وركائزها عن هواية جمع الطوابع

والمراسلة. ولتلمح أخي القارئ عنوان المقالة مرة أخرى!

نعم.. لعلّي لا أبالغ حين أصفها بأنها هواية ... وكم من هواية قد جرّت إلى

غواية.. وكم من هادٍ احترف هوايته فأصبح غاوياً لا هادياً.. ومن هذه الهوايات

المفخخة التي لا تكلف صاحبها جهداً إلا تقليب اللسان في حنكه: هواية التقويم ...

تقويم الأشخاص والعلماء والمناهج وكل ما من شأنه أن يُقَوّم.

لا جدال أبداً على أن التقويم رادف مهم.. بل وسندٌ رئيس لتسير عجلة

الصحوة على بصيرة في الوجه المطلوب وعلى المسار الصحيح ... ولكن أي تقويم

نعني؟ وأي تقييم نريد؟ إنه التقويم العلمي المنضبط المدروس ... لا تقويم الهواية.. وهذا النوع من التقويم أعني المنضبط يعتمد على ضوابط كثيرة ليس مجال

عرضها مثل هذا المقال، بل ولا ينبغي أن يعرضها من هو مثلي، قال الإمام

الذهبي: الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتامّ المعرفة تام الورع، (ميزان الاعتدال ٣

/٤٦) وإن كان من أهمها الإخلاص لله في النقد والتقويم، ومن ثم وجود عدة النقد

عند المقوّم، ووجود مسوغ التقويم، بل وصياغته بعبارات منضبطه لا تزيد شيئاً

في حق المقوّم أو تنقصه.. إلى غيرها من الضوابط التي لا تجد رائحتها في تقويم

الهواية فضلاً على أن تلاحظ أسسها وركائزها فيه.

إنه حين تنعدم تلك الضوابط عند المقوّم فإنه يتحول إلى هاوٍ.. وأي هاوٍ ...

يكيل المدح لفلان بمكاييله، ويكيل الذم لفلان بمكاييله، ويطري فلاناً وينتقد فلاناً..

وربما لا يكون ذلك المقوم الهاوي قد بلغ قيد أنملة من فضل فلان المقوّم، فليته قد

جمع الطوابع أو انشغل بتربية الطيور فأراحنا وأراح نفسه من ذلك العناء.

مهلاً هواة التقويم وغواته؛ فأنتم لستم ببعيدين عمن جمع الطوابع إن لم

تكونوا أهدر منهم للوقت! فمن جمع الطوابع فإنما وزره على نفسه ... وأنتم قد

انتقلت آثار أوزاركم إلى غيركم ممن جرحت كبرياءَه وعطاءَه وطهارتَه ألسنتُكم ...

[وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (١) الَذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإذَا كَالُوهُمْ أَو

وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ

النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] [المطففين: ١-٦] .