للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[الحرب القذرة في الشيشان والمتواطئون]

د. يوسف الصغير

يعيش العالم الإسلامي اليوم مرحلة مخاض صعبة تبشر بقرب ظهور الأمة

الإسلامية على السطح من جديد مع مقاومة شديدة من قوى البغي المختلفة لظاهرة

الانبعاث الجديدة؛ فأعداء الحق حريصون على بقاء العالم الإسلامي غائباً عن

التأثير على مجريات الأحداث العالمية؛ بل والغياب حتى عن قضاياه الخاصة.

لقد كانت الأمة غائبة تقريباً عن أحداث البوسنة وكوسوفا وكشمير وجنوب

الفلبين وجنوب السودان والصومال وغيرها. ونقصد بالغياب: هو عدم القدرة على

توجيه الأحداث والتأثير على مواقف الدول. ولنضرب مثالاً بسيطاً: في حالة

البوسنة أجري استفتاء وأعلن على أساسه استقلال البوسنة عن الاتحاد اليوغسلافي، وقام الصرب بحرب إبادة ضد المسلمين، وكان دور الاتحاد الأوروبي والأمم

المتحدة التغطية على عملية الإبادة ومحاصرة المسلمين ومنع السلاح عنهم؛ ومع

تطاول الحرب واستقتال المسلمين في البوسنة تكوَّن رأي عام ضاغط في العالم

الإسلامي، وعقدت مؤتمرات إسلامية حرص الغرب على أن يرسل مندوباً سامياً

يؤثر في مجريات الأحداث، ويمنع اتخاذ مواقف مؤثرة في رفع الظلم والحصار

عن المسلمين.

وكان غياب جنود من العالم الإسلامي عن تركيبة القوات الدولية العاملة في

البوسنة في بداية الأحداث مقصوداً، وفي المقابل فبمجرد إجراء استفتاء فيما بعد في

تيمور الشرقية على الاستقلال عن إندونيسيا تدخلت قوات تستظل بعلم الأمم المتحدة، واحتلت الإقليم، وفرضت استقلاله وانفصاله بدعوى تحقيق رغبة شعب تيمور

الشرقية بالانفصال.

إن نفاق من يسيِّر الأمم المتحدة ليس له حد ولا مثيل؛ فأين هذه القوات عما

يحدث في بقاع كثيرة من بلاد المسلمين؟ وهل هناك شك في رغبة المسلمين في

كشمير في الانفصال عن الهند؟ وهل هناك أدنى ريبة في تضحيات المسلمين

الجسيمة في جنوب الفلبين وفطاني؟ ولكن السيد مشغول عن صيحات المسلمين

بالإنصات إلى (جون قرنق) ومحاولة إقناعه بالتواضع في مطالبه ليمكن تحقيقها؛

فهو يريد حكم السودان بأجمعه، وهم يحاولون إقناعه بما يمكن تحقيقه بسهولة

حسب ظنهم وهو الاقتصار على جنوب السودان.

ولسائل أن يسأل: فما بال الشيشان؟ والجواب: أنه لا يختلف كثيراً؛ فهناك

حضور قوي وتداعٍ من الأمم: إما للحفاظ على مصالحها، وإما للحصول على مغانم

مستقبلية. ونقصد بالأمم ما يمكن أن يدعى (بالأَكَلَة) كما في حديث الرسول صلى

الله عليه وسلم: (تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها) [١] فالأكلة

حريصون على الحضور وتسجيل المواقف مع حرصهم في المقابل على منع أي

حضور إسلامي قدر الإمكان إلا في حالة الاضطرار. ويمكن أن نقول: إن هناك

تواطؤاً في حضور الأكلة على المائدة الشيشانية، وتواطؤاً في غياب الأقارب من

المسلمين.

لقد دخل الإسلام إلى بلاد القوقاز في صدر الإسلام، وعم في هذه المنطقة

وتجذر فيها.

وبدأت الاحتكاكات مع الروس عندما بدأت الإمبراطورية الروسية القيصرية

في التوسع جنوباً؛ حيث بدأت جحافل الروس في الدخول إلى المنطقة بهدف

احتلالها منذ القرن الثامن عشر الميلادي، ولم يستسلم المسلمون لهذه الغزوات بل

واجهوها بكل قوة؛ حتى إن شجاعة الشيشان أصبحت مضرب المثل في روسيا

ودخلت في أدبيات الروس، لقد كان ضعف الدولة العثمانية عاملاً مهماً في تمكُّن

الروس من احتلال القوقاز وآسيا الوسطى، وكانت سياسة الروس القياصرة ومن

بعدهم الشيوعيون تتلخص في تجويع الشعوب ومحاولة توطين الروس في هذه

المناطق لضمان استقرارها، ولا ننسى أن جروزني كانت في الأساس قلعة أقامها

الروس لترابط فيها قوات الاحتلال الروسي، وكانت علاقات الروس مع الشيشان

سيئة على الدوام، وكان انعدام الثقة هو الأساس في التعامل بين الجانبين؛ ولهذا

فقد قام (ستالين) باتهام الشيشان بالتعامل مع الألمان عند احتلالهم للقوقاز أثناء

الحرب العالمية الثانية، وأمر بنفي الشعب الشيشاني. نعم! لقد تم نفي شعب

بأكمله بتهمة أن بعض أفراده تعاون مع الألمان، وفي هذا الوقت فإن الشعب

الشيشاني تدمر مدنه وقراه، ويجبر تحت التهديد بالإبادة على مغادرة أرضه؛

والحجة هي محاربة الإرهابيين، وهذه الحجة هي التي استخدمت منذ بداية الأحداث؛ فقد ركزت عليها الدعاية الروسية ورددها السياسيون والعسكريون الروس ولم

يجدوا غيرها، ومع ذلك فقد كانت مؤثرة في مواقف الدول والشعوب التي يمكن

تلخيصها فيما يلي:

١ - لقد تم تخويف الصين من أن ما يجري في الشيشان سيتكرر تماماً في

تركستان الشرقية المسلمة التي تحتلها الصين؛ ولهذا فإن الصين تقف بقوة مع

روسيا.

٢ - لقد سارعت (إسرائيل) إلى تأييد روسيا، وعرضت عليها المساعدة

وتقديم الخبرة المكتسبة في التعامل مع الإرهاب في فلسطين وجنوب لبنان، وبدأ

تسويق مقولات: إن روسيا ستقيم حزاماً أمنياً حول الشيشان يماثل الحزام الأمني

في جنوب لبنان؛ وعلى الرغم من سقوط هذا الخيار وتجاوزه فإن (إسرائيل) تكرر

مساندتها لروسيا فيما يسمى بحرب الإرهاب الإسلامي!

٣ - لقد ردد الروس أن لأسامة بن لادن دوراً في أحداث الشيشان والداغستان؛ وذلك من أجل استغلال حساسية أمريكا الشديدة، ولكن يبدو أن أمريكا تعرف أن

ابن لادن بعيد عن أحداث الشيشان، إلا أنها في المقابل ترحب في تورط روسيا في

الشيشان؛ وذلك لأن إضعاف الإسلاميين يصبُّ في مصلحة أمريكا، وإخفاق

الروس المتوقع سيفتح المجال للنفوذ الأمريكي في هذه المنطقة الحيوية. والذي أراه

أن أمريكا كانت ترغب في تورط الروس في هذه المنطقة، وكانت تردد أنه ليس

فقتط من حق روسيا محاربة الإرهاب بل هذا من واجبها كما حصل في مؤتمر

إستانبول الأخير.

إن موقف أمريكا من الأحداث يتوقع له أن يتطور من أجل كسب شعوب

المنطقة وتقبلها للحضور الأمريكي بعد طرد الروس.

٤ - لقد نجح الروس في البداية ولفترة مؤقتة في إبعاد الدول الإسلامية التي

يتوقع أن يكون لها دور في الأحداث؛ وذلك باتهامها ابتداءاً بتأييد الإرهاب في

القوقاز؛ وبالطبع سيسارع المتَّهم إلى نفي التهمة والتعامل بحذر حتى لا يعطي أي

فرصة للروس لتأكيد هذه التهمة.

٥ - لقد سببت أحداث الشيشان الكثير من الحرج لإيران نظراً لعلاقاتها

الوثيقة مع روسيا في جميع المجالات؛ ولهذا فقد سارعت لإرسال وزير خارجيتها

على رأس وفد منظمة المؤتمر الإسلامي إلى موسكو.

إن تصرفات الروس تشبه بتصرُّف من يقوم بتحطيم الكرسي الذي يريد

الجلوس عليه؛ فقد ابتلع الروس الطعم الغربي بالتبشير بأسلوب الحرب الجديد الذي

يناسب الجبناء والغرباء؛ حيث قام الروس بتقليد الأسلوب الأمريكي في الحرب

الجوية والاستعمال الفائق للقوة، وفاتهم أن أمريكا استعملت هذا الأسلوب ضد

أراضٍ تعتبرها عدوة مثل العراق وصربيا وكوسوفا؛ حيث تم تدمير البنى التحتية

والمباني والجسور من أجل تحطيم قدرات الخصم على المقاومة ودفعه للخضوع.

إن مشكلة الروس في الشيشان أنهم لا يواجهون زعيماً أو حكومة متمردة

ولكنهم يواجهون شعباً يكرههم، ومجموعات مجاهدين تسعى لطردهم. إن تدمير

المدن والبنى التحتية من مصانع وطرق وخدمات سيضعف قدرة الروس على

الصمود أمام حرب عصابات طويلة الأمد؛ فأين يقيم الجنود الذين بلغ عددهم مائتي

ألف حتى الآن، وكيف يتم تموينهم؟

إن خروج الروس قضية محسومة وليست بعيدة المنال؛ ولكن الذي يهمنا أن

يقوم المسلمون بتبني هذه القضية واستغلالها وأن يزاحموا الأكلة ويطردوهم، وعلى

المسلمين أن يفهموا أن حرب الشيشان بدأت مشروعاً قومياً شيشانياً خالصاً ولكنها

تحولت إلى مشروع إسلامي؛ فقد استلم الإسلاميون بجدارة قيادة الشيشان أثناء

الحرب الأولى، وبعد خروج الروس بدأ المشروع الإسلامي يقوى ويتجر في

الشيشان، ولكن المشكلة الأساس هي حالة الحصار الذي تعيشه الشيشان، من قِبَلِ

الروس وهاجس المستقبل؛ حيث نجح الروس في التملص من الاعتراف باستقلال

الشيشان وأقنعوا الشيشان المرهقين من الحرب بتأجيل البت في هذا الموضوع لمدة

خمس سنوات من عام ١٩٩٦م، وهذا يعني تأجيل الموضوع حتى تستقر الحكومة

الروسية ويتعافى الاقتصاد الروسي ومن ثَمَّ يكون وضع الشيشان أصعب بكثير.

والذي يبدو أن أحداث الداغستان أجبرت الروس على تطبيق مخطط كان مقرراً أن

ينفذ بعد عام ٢٠٠١م؛ إذ لم تنجح المخابرات الروسية في اغتيال قيادات المجاهدين

وترتيب حكومة عميلة أو على الأقل خاضعة للروس.

إن حرب الشيشان الحالية ووضع الروس الصعب فيها فرصة لكل دولة

إسلامية تريد أن تخرج من طوق العزلة والوصاية، وأن يكون لها ريادة العالم

الإسلامي الجديد المشرِق والذي أراه أمامي من خلال الأحداث رغم قسوتها؛ فإنه

المخاض.


(١) رواه احمد، ح/٢١٣٦٢، وأبو داود، ح/٣٧٤٥.