للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قراءة في كتاب

أسباب التحيز الأمريكي والبريطاني لـ (إسرائيل)

قراءة في كتاب: (الصليبيون الجدد)

حسن الرشيدي

سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة عادت على اليهود بالمذابح؛ فهل

ستؤدي الحملة الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟ وإذا كانت صليبية

حقة فإن تلك الحقيقة بالذات تأتي بمقام البرهان على ولادة نظام جديد لعالم تسوده

المحبة والعدالة) . هذا جزء من خطاب ألقاه الزعيم اليهودي (إسرائيل زانجويل)

يصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض

فلسطين، وذلك في ٢ ديسمبر ١٩١٧م، أي بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد،

هذا الخطاب وغيره يلقي الضوء على السؤال الذي يحير الناس في منطقتنا عن سر

التحيز الأنجلو أمريكي لصالح (إسرائيل) ، هذا التحيز الذي جعل الحلم اليهودي في

أرض فلسطين حقيقة واقعة بل ومستقرة. إن كثيراً من الباحثين لدينا يغفلون عن

لب هذه القضية وجوهر هذا الصراع؛ وهو البعد العقائدي.

ويجيء كتاب: (الصليبيون الجدد) ليتبنى التفسير العقائدي في تحليله لأسباب

الصراع وخلفياته، ومؤلف الكتاب يوسف العاصي الطويل، يقول في مقدمة الكتاب: (لقد عرف تاريخ هذه القضية تصورات متباينة ومتصارعة على المستوى العالمي

والعربي والإسلامي وحتى الفلسطيني. وامتد هذا التباين حتى برز في داخل الأطر

السياسية نفسها؛ حيث تناقضت الشعارات حتى في الميدان الواحد، ونما التباين

حتى أصبح صراعاً مكشوفاً أو تنافساً مدمراً.

فعلى المستويين العربي والفلسطيني لم تخرج معظم التحليلات والكتابات عن

اعتبار (إسرائيل) حاملة طائرات أمريكية في قلب الشرق الأوسط، وأن مهمتها

الإمبريالية تكمن في عزل الشرق العربي عن المغرب العربي للحيلولة دون تحقيق

الوحدة العربية، وركز الفكر الثوري العربي على حقيقة (إسرائيل) الإمبريالية وأن

هدفها هو ضرب الأنظمة الثورية المعادية للإمبريالية في المنطقة العربية وقد تناسى

هذا التيار عدة حقائق:

١- أن قضية فلسطين بدأت قبل وجود أي نظام عربي ثوري، وحتى قبل

استقلال الدول العربية نفسها.

٢-أن الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي كانت من أوائل الدول

التي اعترفت بـ (إسرائيل) عند نشأتها.

ومن هنا فلا بد من البحث مجدداً عن سبب آخر يمكن أن يوضح لنا حقيقة

وجود (إسرائيل) في المنطقة العربية، والقوى التي تقف وراء هذا الوجود،

ودوافعها لذلك.

في تمهيد الكتاب: يناقش المؤلف الأسباب السائدة في الساحة السياسية عن

التحيز الأنجلو أمريكي لـ (إسرائيل) .

أولاً: إن انحياز أمريكا ومن قبلها بريطانيا لـ (إسرائيل) يحقق لهما مصالح

كثيرة، ويُبْقِي على أطماعهما في المنطقة، ولكن في الوقت نفسه يضع مصالح هذه

الدول في خطر كبير؛ لأنه يزيد من حجم العداء لهذه الدول. ومن أجل هذه

المصالح نجد دولاً مثل فرنسا وإيطاليا تغير موقفها من الصراع وتصبح أكثراً توازناً

من ذي قبل. فأي مصلحة اقتصادية أو عسكرية أو سياسية ستعود على أمريكا من

نقل سفارتها إلى القدس؛ على الرغم من إدراك صانعي القرار في أمريكا بالمكانة

الخاصة للقدس في قلوب ملايين العرب والمسلمين والنصارى؟ بالطبع لا توجد أي

مصلحة؛ حيث إن هذا القرار كغيره من القرارات الأمريكية السابقة سيلحق ضرراً

كبيراً بالمصالح الأمريكية، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي

أيضاً عاجلاً أم آجلاً.

ثانياً: أما العنصر الثاني الذي يسوّغ به بعضهم الانحياز الأنجلو أمريكي فهو

نفوذ اللوبي اليهودي في صناعة القرار السياسي في أمريكا وبريطانيا، من خلال

السيطرة على وسائل الإعلام والاقتصاد؛ بالإضافة إلى ما يقال عما يتميز به

الزعماء الصهاينة من عبقرية ودهاء في استغلال الفرص. ولكن المؤلف ينتقد هذا

العامل ويقول: (إن البيئة السياسية والثقافية هي التي تجعله فاعلاً، كما أن تضخيم

دور الزعماء اليهود أمثال (هرتزل) و (ترومان) وجعلهم كأنهم بذلوا جهوداً خارقة

للحصول على مطالبهم أمر عارٍ من الصحة، فالأفكار الصهيونية تبنّاها أشخاص

أوربيون وأمريكان في وقت كان فيه اليهود يرفضون ويحاربون من يفكر في هذه

الأمور. وبالمثل فإن تضخيم الصوت الانتخابي اليهودي في الانتخابات الأمريكية

أمر مبالغ فيه. نعم إن الجالية اليهودية نشطة ولها تأثير، ولكن القول بأنها تحكم

أمريكا ليس صحيحاً؛ فلم يحدث أبداً أن كان الرئيس أو نائبه يهودياً، ونسبة اليهود

في الكونجرس لا تزيد إلا قليلاً عن نسبة اليهود في أمريكا أي (٢- ٣%) حيث يبلغ

تعدادهم حوالي (٦) ملايين نسمة تقريباً، أي أن أصواتهم الانتخابية لا تتعدى

(٢- ٣ %) من نسبة الأصوات الانتخابية في أمريكا، وهذه النسبة ليست بالنسبة الكبيرة التي تمكن اليهود من التأثير على الانتخابات، ولو كان لهذه النسبة أي تأثير لكان للمسلمين والعرب في أمريكا أثر في تشكيل السياسة الأمريكية؛ لأن تعدادهم يزيد على تعداد اليهود هناك. كما أن السود يشكلون نسبة كبيرة من السكان بالإضافة إلى أقليات أخرى؛ وبالرغم من ذلك لم نسمع عن أي أثر لأصواتهم الانتخابية، ولم نسمع عن أي رئيس أمريكي سعى لاسترضائهم كما يفعل مع اليهود. إذاً فالقضية ليست قضية صوت انتخابي فحسب.

الفصل الأول: اليهود في التراث الديني النصراني:

في هذا الفصل يحاول المؤلف إبراز العلاقة بين المذهب البروتستانتي

واليهودية فيقول: (يستمد التراث الديني في كل من إنجلترا وأمريكا أصوله من

المذهب البروتستانتي في هاتين الدولتين؛ والذي نشأ مع حركة الإصلاح الديني

التي قادها (مارتن لوثر) في القرن السادس عشر ضد الكنيسة الكاثوليكية في روما) .

ويستطرد قائلاً: (لقد أحدثت حركة الإصلاح الديني تغييراً جوهرياً؛

بالمقارنة مع موقف الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى في موقفها من اليهود؛

وبذلك أسهمت هذه الحركة في بعث اليهود من جديد. ولكن ما هو موقف الكنيسة

الكاثوليكية من اليهود؟

لقد كان هذا الموقف قبل تغييرات حدثت أخيراً موقفاً متشدداً، وينظر إلى

اليهود نظرة عدائية بسبب رفضهم الإيمان بدعوة المسيح عليه السلام وكفرهم بها،

كما أنهم يَعتبِرون اليهود مارقين وكفرة وبأنهم قتلة (المسيح) على حد زعم الكنيسة) .

وكذلك لم يكن للكنيسة الكاثوليكية أدنى فكرة أو احتمال لعودة اليهود إلى

فلسطين، أو بعث الأمة اليهودية من جديد؛ لأن هذه الأمة حسب رأيهم انتهى

وجودها بظهور (دعوة المسيح) ، وأن أي فقرات واردة في العهد القديم تشير إلى

اليهود لا تنطبق عليهم وإنما على الكنيسة فقط. كذلك لم يعترف الكاثوليك بأن

اليهود هم (شعب الله المختار) ؛ لأن المسيح عليه السلام حارب هذه النزعة

العنصرية، ودعا اليهود وغيرهم إلى الدخول في ملكوت الله المفتوح أمام جميع

الصالحين.

وبالنسبة للعهد القديم (التوراة) فقد كان مهمَلاً قبل حركة الإصلاح الديني؛

حيث كان الاعتماد على العهد الجديد (الإنجيل) المحرّف ورسائل البابوات في

تفسيره، وكانت اللغة العبرية لغة ميتة يرى الكاثوليك أن تعلمها بدعة.

ثم جاء البروتستانت في القرن السادس عشر، ودعا (مارتن لوثر) إلى

وجوب إقامة الحقيقة الدينية على أساس الفهم الشخصي دون الخضوع لفهم (رجال

الدين) لها، فأصبح كل بروتستانتي حراً في دراسة الكتاب المقدس وتفسيره؛ وهذا

أدى إلى فتح الباب على مصراعيه أمام أصحاب البدع والضلالة؛ وأدى هذا إلى

تعدد الفرق البروتستانتية التي وصلت إلى أكثر من (٢٠٠) فرقة في فترة أربعة

قرون فقط. في ظل هذا المذهب ازداد الاهتمام بالعهد القديم (التوراة) تحت شعار:

(العودة إلى (الكتاب المقدس (؛ باعتباره مصدر العقيدة النقية، مع عدم الاعتراف

بالإلهامات والتعاليم غير المكتوبة التي يتناقلها الباباوات.

وإذا كان العهد القديم يتكون من (٣٩) سِفْراً؛ فإن أغلب الباحثين يذهبون إلى

أنه لا يمكن نسبة إلا خمسة أسفار تجاوزاً إلى موسى عليه السلام. أما البقية فهي

عبارة عن سجل لتاريخ (بني إسرائيل) في فلسطين، بالإضافة إلى بعض التنبؤات

التي كتبها أحبار اليهود على فترات متفاوتة. وفي ظل هذا الوضع رسخ لدى

البروتستانت تاريخ فلسطين مستمداً فقط من العهد القديم، لا يبدو فيه وجود للشعوب

الأخرى في فلسطين، وأن لا بد من عودة اليهود إلى وطنهم الذي أُخْرِجوا منه طبقاً

لتنبؤات العهد القديم.

وهذا أدى إلى إحياء اللغة العبرية لفهم العهد القديم؛ ولذلك كانت الكنيسة

الكاثوليكية تصف (مارتن لوثر) بأنه يهودي أو نصف يهودي. وكثير من الباحثين

في التاريخ يذهبون إلى القول بأن المذهب البروتستانتي من صنع اليهود والماسون.

إن أهمية الأفكار التي جاءت بها حركة الإصلاح الديني على يد (لوثر) تعود

إلى أنها مهدت الطريق أمام الأفكار التي نادت بها الحركة الصهيونية في القرن

التاسع عشر، فهذه الأفكار التي أكدتها البروتستانتية لا تختلف كثيراً عن اليهودية؛

التي تنطوي في جوهرها على دعوة اليهود للعودة إلى صهيون أي: إلى أرض

(إسرائيل) بحدودها التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة لدى اليهود.

وهكذا تحولت فلسطين في الضمير البروتستانتي من الأرض المقدسة

للنصارى إلى أرض (الشعب المختار) ! ومن الملاحظ أن بعض البروتستانت قد

آمن بضرورة اعتناق اليهود للنصرانية تمهيداً لقدوم المسيح، وآمن بعضهم بإمكان

تحولهم هذا بعد قدومه.

الفصل الثاني: بريطانيا والمشروع الصهيوني:

ظهر في بريطانيا بين عدد من النصارى البروتستانت ما يسمى بـ (حركة

العودة) ويعتقد رواد هذه الحركة أن على العالم أن يساعد اليهود في استعادة فلسطين. وقد أسس هذه الحركة عالم اللاهوت: (توماس بريتمان) واستجاب لها القاضي

وعضو البرلمان: (هنري فنسن) ، الذي أصدر أول كتاب عن الصهيونية في لندن

عام ١٦٢٨م. وقد كان فنسن من المؤمنين بفكرة (العصر الألفي السعيد) ، التي

تعني: عودة المسيح المنتظر الذي سيقيم (مملكة الله) في الأرض، التي تدوم ألف

عام، ولا بد من عودة اليهود إلى أرض فلسطين مقدمةً لذلك.

وانتشرت في القرن السابع عشر الحركة البوريتانية: (حركة التطهير) ، التي

حولت الأفكار الدينية المتعلقة باليهود إلى عقيدة سياسية تتلخص في ثلاث نقاط:

١- وجود الشعب اليهودي.

٢- عودة هذا الشعب إلى فلسطين.

٣- استيطانه وسيادته على هذه الأرض.

والواقع أن (البوريتانيين) قد تعلقوا بهذه الفكرة نتيجة لتعلقهم بالعهد القديم؛

حتى إنهم استبدلوا عاداتهم وأخلاقهم ولغاتهم بأخلاق وعادات ولغة اليهود، بل ذهب

بعضهم إلى اعتناق اليهودية، وكان نشاط هذه الحركة نواة الاهتمام البريطاني

بالمسألة اليهودية.

ومع اقتراب القرن الثامن عشر من منتصفه بدأت تتغير الأفكار المتعلقة بعودة

اليهود إلى فلسطين؛ حيث بدأت تتسرب إليها أعداد منهم بتسهيل من بريطانيا

المنتدبة آنذاك وقد كان هذا المبدأ مرفوضاً حتى من قِبَلِ اليهود أنفسهم؛ الذين كانوا

يرون أن عودتهم إلى أرض فلسطين لا بد أن تتم بتدخل قوة إلهية. وحتى الآن لا

تزال طائفة من اليهود تسمى (حراس المعبد) تحافظ على هذه العقيدة؛ حيث ترى

أن دولة (إسرائيل) هي ثمرة الغطرسة الآثمة للكافرين العلمانيين من أتباع الحركة

الصهيونية الذين تحدّوا مشيئة الرب بإنشاء الدولة دون انتظار تدخّل على شكل

معجزة، وظهور المسيح المخلص الذي يعتبر في نظرهم الوحيد القادر على إقامة

دولة (إسرائيل) لتكون مملكة للكهنة والقديسين.

كذلك حدث تغيير في فكرة تحول اليهود إلى المسيحية باعتباره أمراً لازماً

لعودتهم إلى فلسطين.

ففي عام ١٨٠٠م نشر (جيمس بيشنو) كتابه: (عودة اليهود أزمة جميع الأمم)

حيث كان الاعتقاد السائد فيه أن اليهود سيدخلون المسيحية بظهور المسيح المنتظر

الذي سينقذهم من أعدائهم.

وفي القرن التاسع عشر حدث تطور في حركة العودة، فقد ظهر اللورد

شافتسبري ودفاعه المستميت في الصحافة والكتب عن فكرة عودة اليهود إلى ...

فلسطين، وأنشأ صندوق استكشاف فلسطين، حيث دعا الرحالة إلى الذهاب إلى

أرض الميعاد واستكشافها وإجراء البحوث والدراسات حولها تمهيداً لوصول اليهود

إليها.

ومن أجل هذه الغاية قام عدد من البحّاثة بزيارة فلسطين، كان أبرزهم الكاتب

(كلود كوندر) ويعود ذلك إلى حماسته الصهيونية التي لا حد لها، وقد قام برسم

خريطة تفصيلية لفلسطين كلها، ووضع عليها الأماكن التوراتية، وأماكن قبائل بني

إسرائيل الاثنتي عشرة، لقد بلغ حماس هؤلاء النصارى البروتستانت حداً هائلاً،

الأمر الذي دفع الكولونيل تشارلز هنري قنصل بريطانيا في دمشق إلى كتابة رسالة

إلى أحد أقطاب اليهود الأثرياء يناشده فيها بأن يأخذ قضية اليهود على عاتقه

واعتبارها أمراً لا بد منه.

وأواخر هذا القرن التاسع عشر تم ربط الأفكار الدينية مع المتطلبات السياسية

للإمبراطورية البريطانية، ومنذ ذلك الوقت بدأ ما وصفه (قيد بولك) (بالاتحاد

العجيب بين سياسة الإمبراطورية ونوع من الصهيونية النصرانية الأبوية التي

تتجلى في السياسة البريطانية فيما بعد) .

وفي عام ١٨٣٠م عندما تولى اللورد (بالمستون) وزارة الخارجية كان أهم

نصير سياسي لمشروع اللورد شافتسبري الخاص بإعادة اليهود إلى فلسطين؛ حيث

افتتح قنصلية لبريطانيا في القدس، وبعث برسالة إلى السفير الإنجليزي في

القسطنطينية يحثه فيها على متابعة نصيحته لـ (الباب العالي) بضرورة توطين

اليهود في فلسطين؛ حيث يقول له بالحرف الواحد: (إنك لا تدري مدى ما سيثيره

مثل هذا الإجراء من اهتمام المتدينين في هذا البلد) .

وفي هذا الاتجاه أيضاً كانت دعوة القس (هشلر) فقد قام في عام ١٨٨٢م بعقد

مؤتمر نصراني في لندن دعا إليه كبار النصارى للنظر في توطين اليهود المهاجرين

من رومانيا وروسيا في فلسطين، كما قال في أحد مقالاته الصحفية: (أفيقوا يا أبناء

إبراهيم؛ فالله ذاته يدعوكم إلى الرجوع لوطنكم القديم) .

وقد امتد تأثير العهد القديم وأساطيره إلى الأدب والفن في انجلترا وغيرها من

بلدان أوروبا التي اعتنقت البروتستانتية كهولندا والدول الإسكندنافية.

وتضم اليوم متاحف أوروبا بل الدنيا اللوحات الزيتية التي رسمها النصارى

البروتستانت لحكايات التوراة وأنبيائها عوضاً عن القديسين الكاثوليك.

أما في مجال الأدب فقد بات اليهود يُصوّرون بشخصيات متميزة، ويحتلون

مكانة أبطال اليونان الكلاسيكيين في عالم الأدب الغربي، فحتى بداية القرن التاسع

عشر كان اليهودي يصور في القصص الإنجليزية إما على صورة (شايلوك) أو

اليهودي التائه؛ غير أن روايتي (هارنجتون) ١٨١٧م و (ايفانهو) ١٨١١م قدمتا

مفهوماً جديداً لليهودي بإبرازه على أنه شخصية طيبة، وقد ساهم في هذا التغيير

عدد من الشعراء الكبار أمثال جون ميلتون وكوليريدج وغيرهم، وجاء في قصيدة

(براونينج) (يوم الصليب المقدس) ! عام ١٨٥٥م قوله:

سيرحم الله يعقوب ...

وسيرى (إسرائيل) في حِماه

عندما ترى يهودا القدس

سينضم الغرباء

وسيتشبث النصارى ببيت يعقوب

هكذا قال الأنبياء، وهكذا يعتقدون

أما جورج إليوت فقد كتبت في عام ١٨٧٤م رواية (دانيال دروندا) وتعتبر

هذه الرواية أول رواية صهيونية في الأدب الإنجليزي. فالكاتبة جعلت من دانيال

بطلاً صهيونياً يكتشف بنفسه قوميته وإرثه اليهودي. يقول البطل اليهودي في

الرواية: (إن الفكرة التي تتمكن مني هي استعادة وجود سياسي لشعبي، وجعلهم

أمة واحدة، وإعطائهم مركزاً قومياً مثلما للإنجليز. إنها مهمة تتقدم إلي باعتبارها

واجباً وأنا مصمم على تكريس حياتي لها. على الأقل قد أتمكن من إيقاظ حركة في

العقول الأخرى مثلما أُوقِظت في عقلي) .

الفصل الثالث: ظهور الحركة الصهيونية:

في هذا الفصل يتتبع الكاتب الأدوار التي مرت بها الحركة الصهيونية في

بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويُفرّق الكاتب في

البداية بين الصهيونية واليهودية، فالصهيونية تقوم على فكرة عودة اليهود إلى

وطنهم فلسطين وتخطط وتعمل في سبيل ذلك، أما اليهودية بالنسبة إلى هذه العودة

فإنها في نظرها لا تتحقق إلا بمعجزة إلهية؛ ولذلك نجد أن معظم من تبنّوا هذه

الفكرة أي الصهيونية هم النصارى البروتستانت، بينما كان موقف اليهود في بادئ

الأمر سلبياً إن لم يقف بعضهم ضدها.

ولكن مع تنامي التيار النصراني البروتستانتي المطالب بعودة اليهود إلى

فلسطين شكل هذا عاملاً ضاغطاً على اليهود، فضلاً عن ازدياد الاضطهاد لليهود

في أوروبا.

كل هذا أدى إلى ظهور عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد من

الكتابات التي هاجمت الأفكار التقليدية التي ترى بأن الخلاص لن يتم إلا من خلال

معجزة إلهية على يد (المسيح المخلص) ، وكان أبرزهم (يهود الكعي) : الذي بدأ

حياته غارقاً في أساطير اليهود المنتظرة للمسيح المخلص، وقد سرت في أيامه

شائعة تقول إن العام ١٨٤٠م سيكون عام الخلاص، ولما انقضت السنة من غير

شيء تحول (الكعي) إلى الطريق العملي؛ فكرس ما تبقى من حياته داعياً إلى

تخليص اليهود وعودتهم بالصلاة والعمل.

وقد نشر سنة ١٨٤٣م سلسلة من الكتيبات والمقالات في هذا الأمر، وطالب

اليهود بدفع العشر من أجل العودة. ومن المفكرين الآخرين برز (تسفي هوسن)

الذي نشر أفكاره عام ١٨٤٣م في كتاب من جزأين بعنوان: (عقيدة صافية) ، أتبعه

بكتابه: (البحث عن صهيون) عام ١٨٦٢م. ومن أهم أفكاره:

-أن خلاص اليهود كما تنبأ الأنبياء يمكن أن يتم بوسائل طبيعية: أي بمجهود

اليهود أنفسهم من دون أن يتطلب ذلك مجيء المسيح.

-أن الاستيطان في فلسطين يجب أن يتم دون تأخير.

وكان مما قاله في كتابه: (إن خلاص (إسرائيل) لن يكون بمعجزة فجائية،

والمسيح لن يُرسل من السماء نافخاً في بوقه الكبير وجاعلاً جميع الناس يرتجفون؛

فالناس البلهاء فقط يمكن أن يصدقوا هراءً كهذا؛ أما العقلاء فيعرفون أن الخلاص

لا يكون إلا بالتدرج، وهو فوق كل شيء لن يكون إلا نتيجة جهود اليهود أنفسهم.

مع انتشار كتابات وأفكار المفكرين اليهود السابق ذكرهم وغيرهم أصبح الجو

مهيأً لتوحيد جهود المؤمنين بهذا النهج الجديد من خلال حركة يهودية عامة؛ حيث

ابتدأ التحضير الجدي لعقد مؤتمر صهيوني مع مطلع سنة ١٨٩٧م، وأعلنت

الحركة الصهيونية فيه عن برنامجها السياسي الذي يهدف إلى إقامة وطن قومي

للشعب اليهودي في فلسطين.

لقد كان أهم إنجاز لذلك المؤتمر هو انعقاده، الذي يُعتبر رفضاً لتصور اليهود

التقليدي حول المسيح المنتظر وبدءاً في البحث عن طرق عملية من أجل تحقيق

الحلم القديم للشعب اليهودي؛ بحيث تكون هذه الطرق متكيفة مع عوامل الزمن

الملائمة لحركتها.

وهنا تلقّف الساسة البريطانيون نتائج هذا المؤتمر حتى صدر وعد بلفور عام

١٩١٧م، الذي ينص على إعطاء اليهود وطناً قومياً في فلسطين. وبالرغم من أن

اللورد بلفور كانت له دوافعه السياسية والعسكرية التي سعى لتحقيقها من وراء

إعطاء هذا الوعد للحركة الصهيونية؛ فإننا يجب ألا نغفل أثر ثقافته الدينية التي

لعبت دوراً حاسماً لصالح صدور هذا الوعد. فبلفور كان بروتستانتياً ملتزماً،

ترعرع في أحضان التقاليد البروتستانتية الإسكوتلاندية بكل ما تحمله من حب للعهد

القديم، وإيمان شديد بضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، وعن ثقافته تقول ابنته

ومؤرخة حياته (بلانسن) : (لقد تأثر منذ نعومة أظفاره بدراسة التوراة في الكنائس،

وكلما اشتد عوده ازداد إعجاباً بالفلسفة اليهودية، كان دائماً يتحدث باهتمام عن ذلك، وما زلت أذكر أنني في طفولتي اقتبست منه الفكرة القائلة بأن الدين النصراني

والحضارة النصرانية مدينة بالشيء الكثير لليهودية) .

الفصل الرابع: أمريكا والمشروع الصهيوني:

أمريكا مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية، تغلغلت في تفكير مواطنيها

الأفكار والتنبؤات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين، ومما قوّى هذه

الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من أوروبا إلى أمريكا حينما

قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون

إلى أرض فلسطين.

فكثير من البروتستانت فر من الاضطهاد الديني الذي ساد حكم (آل ستيوارت) ، لذلك عندما واجه المهاجرون مقاومة أهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر؛ فإنهم

تذكروا اليهود ومقاومة أهل فلسطين القدماء لهم. كذلك عانى الأمريكيون من

الحرب الأهلية المريرة كما حدث مع اليهود عندما انقسمت مملكتهم إلى مملكتين:

إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب. لقد كان هؤلاء المستوطنون بحاجة إلى

شيء يسوّغ أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية، فلم يجدوا

هذا التسويغ إلا في العهد القديم. بل إنهم ادعوا أن الله اختار العنصر الأنجلو

سكسوني البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم، كما جعل الله اليهود شعبه المختار.

بل وصل تطرفهم أن زعم أحد الكتاب ويدعى (ريتشارد بروتزر) في كتابه:

(المعرفة المنزلية للنبوءات والأزمنة) بأن الإنجليز من أصل يهودي؛ على أساس

أنهم ينحدرون من سلالات الأسباط؛ التي ادّعى اليهود أن أفرادها فُقدوا بعد اجتياح

الآشوريين لمملكة إسرائيل عام ٧٢١ قبل الميلاد. وفي نهاية النصف الأول من

القرن التاسع عشر بدأ التعاطف الأمريكي مع اليهود يتحول إلى عمل ملموس من

خلال جماعات وأفراد؛ فعلى صعيد الأفراد في عام ١٩٨٥م قام (وارد كريون)

القنصل الأمريكي في القدس بتأسيس مستوطنة زراعية في منطقة القدس وخطط

لتأسيس مستوطنات أخرى ولكن لم يجد الدعم المطلوب من اليهود.

كما ظهر القس (وليم بلاكستون) الذي طالب بعمل شعبي لإعادة اليهود إلى

فلسطين، وألف كتاب: (عيسى قادم) الذي بيع منه عام ١٨٧٨م أكثر من مليون

نسخة، وتُرجم إلى ٤٨ لغة ويتحدث فيه عن عودة اليهود لفلسطين باعتبارها

المقدمة لعودة المسيح.

وعلى صعيد الجماعات ظهرت جماعة (أخوة المسيح) وجماعة (بناي بريث)

أي: (أبناء العهد) و (شهود يهوه) ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في دعم الحركة

الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز الثقل في النظام

العالمي إلى الولايات المتحدة. فالرئيس (روزفلت) اتخذ نجمة داود شعاراً رسمياً

للبريد، والخوذات التي يلبسها الجنود، وعلى أختام البحرية وجاء بعده (ترومان)

الذي أصدر بياناً طالب فيه بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين، وكان له

دور مشهود بجانب اليهود في حرب ١٩٤٨م، لقد عارض ترومان في سياساته

الصهيونية كثيرٌ من المستشارين الحكوميين، الذين كانوا يرسمون سياسة بلادهم

الخارجية بناءً على مصالح بلادهم القومية؛ ولكن (ترومان) كان ينظر بمنظار

مختلف قائم على أساس الدين؛ فعندما قدّمه زعماء اليهود الحاضرون في إحدى

الاحتفالات ووصفوه بأنه الرجل الذي ساعد على خلق دولة (إسرائيل) رد (ترومان)

قائلاً: (وماذا تعني بقولك: (ساعد على خلق) (إنني قورش ... إنني قورش) ،

حيث شبه نفسه بـ (قورش) ملك فارس الذي أعاد اليهود من منفاهم في بابل إلى

فلسطين. ولتوضيح أثر العقيدة البروتستانتية في دفع رؤساء أمريكا إلى الانحياز

لإسرائيل نسوق موقف الرئيس الأمريكي (جون كنيدي) الذي كان الرئيس

الكاثوليكي الوحيد في تاريخ أمريكا، حيث قال: (إن الانحياز الأمريكي في النزاع

العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب بل يهدد العالم بأسره) فالأفكار

والتنبؤات التوراتية لم تكن في وجدانه أو عقله مثل سابقيه ولاحقيه.

فالرئيس جونسون الذي قدم الدعم لـ (إسرائيل) أثناء حرب ٦٧ صرح بعدها

قائلاً في إحدى الاحتفالات للحاضرين: (إن بعضكم إن لم يكن كلكم لديه روابط

عميقة بأرض (إسرائيل) مثلي تماماً لأن إيماني النصراني ينبع منكم، وقصص

التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث

من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد) .

يقول الرئيس كارتر أمام (الكنيست الإسرائيلي) : (إن علاقة أمريكا

(بإسرائيل) أكثر من علاقة خاصة؛ لأنها علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة

ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه) ، وفي حفل أقامته على شرفه جامعة تل أبيب

وضح كارتر الأمر أكثر؛ حيث ذكر أنه باعتباره نصرانياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً أن

هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة (إسرائيل) . لقد كان (كارتر) مثالاً للرئيس الملتزم

بالصلاة في الكنيسة كل أحد، وكان عضواً في أكبر كنائس بلدته، وشماساً في

مدرسة الأحد.

أما (ريجان) فقد قال في أحد خطبه موجهاً كلامه إلى بعض اليهود الأمريكيين:

(حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة

بمعركة (هرمجدّون) أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك

لاحقاً) ، لقد عبّر الكاتب اليهودي الأمريكي (جون بيتر) عن واقع أمريكا عندما قال: (إن الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام

قبر مقدّس) ! هكذا وصل إيمانهم! ! ومن هنا لا نستغرب تحيز الرؤساء الأمريكان

لدولة صهيون [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ] . [يوسف: ٢١]