للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[منازعة أمريكا لفرنسا على دول المغرب العربي]

يحيى أبو زكريا

لم تصبح منطقة المغرب العربي تحت المجهر اليهودي ـ الموسادي على وجه التحديد ـ بسبب التواجد الكبير للفلسطينيين الذين أُجبروا على مغادرة بيروت متوجهين إلى دول المغرب العربي، بل إن منطقة المغرب العربي كانت مرصودة بسبب مواقف بعض دولها من الدولة العبرية ومشاركتها بقوة في الحروب العربية ـ الإسرائيلية. وقد استطاعت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وبفضل الوجود اليهودي الغزير في منطقة المغرب العربي من إقامة شبكات

وعندما استقرت منظمة التحرير الفلسطينية في تونس ازداد نشاط الأجهزة الأمنية في منطقة المغرب العربي، وما لم يكونوا يتمكنون منه عبر شبكتهم كانوا يحصلون على ما يريدونه من معلومات من خلال المخابرات الفرنسية التي اخترقت المخابرات المغاربية وتحديداً في الجزائر وتونس والمغرب. ففي تونس كلف الموساد الإسرائيلي سيدة مجتمع تونسية بعد أن تم توظيفها في (عاصمة النور والملائكة) باريس بفتح محل للحلاقة النسوية، وتحول هذا المحل مع مرور الأيام إلى محط رحال زوجات المسؤولين التونسيين والفلسطينيين الموجودين في تونس، وكانت هذه السيدة تقوم بتسجيل ما يتلفظن به من أسرار تتعلق بالوجود الفلسطيني في تونس أو بعض القرارات السياسية المزمع اتخاذها.

ولم يكتف الموساد بالسيدة التونسية المذكورة، بل عمل على شراء ذمم بعض الشخصيات السياسية في الخارجية التونسية للحصول على معلومات تتعلق بنشاط كافة التنظيمات الفلسطينية في تونس.

وقد أعلنت الخارجية التونسية ذات يوم أنها سلمت للقضاء التونسي مديراً رفيع المستوى في الخارجية التونسية لتورطه في التعامل مع جهة أجنبية ـ الموساد الإسرائيلي ـ. واستغل الموساد الوجود المكثف لليهود التونسيين الذين يتمتعون بحقوق المواطنة التونسية، فورّط بعضهم في جمع معلومات عن منظمة التحرير الفلسطينية ونشاطها العسكري والسياسي، وقد اعتقلت السلطات التونسية ذات يوم اثنين من هؤلاء، وأطلقت سراحهما بعد تدخل حاخام اليهود الأكبر في تونس لدى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي. ومن الشخصيات الفلسطينية المهمة التي جرى اعتقالها في تونس الرجل الثاني في سفارة فلسطين في تونس عدنان ياسين الذي كلف من قِبَل الموساد الإسرائيلي بجمع معلومات عن مسودات محمود عباس ـ أبو مازن ـ وذلك قبل لقاء جرى بين محمود عباس - أبو مازن وشمعون بيريز في القاهرة. وقد تفاجأ أبو مازن لكون شمعون بيريز كان على اطلاع كامل على تفاصيل الطروحات الفلسطينية المتعلقة باتفاق غزة ـ أريحا أولاً. وقد طلب أبو مازن بإجراء مسح على مكتبه، فتمّ اكتشاف أن المصباح الموضوع على مكتب أبو مازن هو في حقيقته جهاز تصوير دقيق للغاية وعندما تمّ اعتقال عدنان ياسين عُثر في بيته على حبر سري وأربعة أقلام تحتوي على أجهزة تنصت، وأفادت المعلومات الأولية عندها أن عدنان ياسين جرى توظيفه في دولة غربية أثناء عرض زوجته التي كانت مصابة بسرطان المعدة على مستشفيات غربية، وجرى هذا التوظيف في بون، وكانت الدفعة الأولى التي استلمها هي ١٠,٠٠٠ دولار. كما جرى اعتقال العديد من الأمنيين بتهمة التجسس لصالح الموساد الإسرائيلي. وفي الجزائر نجحت فرقة كوماندوس إسرائيلية في تفجير سفن حربية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت راسية في ميناء مدينة عنابة الواقعة في الشرق الجزائري.

وكان الموساد الإسرائيلي يوظف اليهود الجزائريين الذين منحتهم فرنسا جنسيتها عقب انتهاء حربها مع الجزائر، وغادروا الجزائر مع القوات الفرنسية في ٥/٧/١٩٦٢م، وكان هؤلاء على علاقة بمسؤولين جزائريين كانوا يقيمون في فرنسا وكانوا محسوبين على حزب فرنسا في الجزائر. وتركيز الموساد في الجزائر كان على أمور منها المعسكرات الفلسطينية في الجزائر، التسلح الجزائري ـ مفاعل عين وسارة الجزائري النووي. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الشخصيات السياسية الجزائرية المحسوبة على التيار البربري واليساري والفرانكوفوني نسجت علاقات مع ضباط في الموساد؛ وذلك في العاصمة الفرنسية باريس، وقد ضبطت السلطات الجزائرية حمولة أسلحة إسرائيلية موجهة من ميناء مارسيليا في جنوب فرنسا إلى ميناء بجاية الجزائري، والتيار السياسي المسيطر على بجاية هو التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري، ومن الشخصيات السياسية الجزائرية التي قتلت برشاش عوزي الإسرائيلي مدير المخابرات العسكرية الأسبق ورئيس الوزراء الجزائري الأسبق قاصدي مرباح.

كما أن السلطات الجزائرية اعتقلت بعض الطلبة العرب الذين جرى توظيفهم لحساب الموساد، وكان عملهم أن يجمعوا كافة المعلومات المتوفرة عن مفاعل عين وسارة النووي.

وفي المغرب وجد اليهود الساحة مفتوحة والمجال أرحب، وكانت علاقتهم بدوائر البلاط مباشرة، وكان أرباب الشركات الكبرى من اليهود عندما يشاركون في المعارض الاقتصادية الدولية في الرباط يحظون بمآدب يقيمها لهم الراحل الملك الحسن الثاني الذي كان يحاول على الدوام الجمع بين هؤلاء وشخصيات مالية من إحدى دول الخليج، وكانت الشخصيات اليهودية من أصل مغربي كديفيد ليفي وإيلي درعي وغيرهما دائماً تجد كل الأجوبة عن كل التساؤلات العبرية.

ويعتبر أندريه أزولاي مستشار الملك الراحل الحسن الثاني ومستشار الملك الحالي محمد السادس يهودي مغربي سبق له العمل في مصرف فرنسي كبير قبل أن يتحول إلى القصر الملكي في الرباط كمستشار سياسي، وكان أحد أبرز الدافعين إلى العلاقات العبرية ـ المغربية والحوار العربي ـ الإسرائيلي.

وكانت مقررات القمم العربية والمداولات السرية تصل تباعاً إلى تل أبيب عبر الرباط، وربما هذا ما جعل مراسل التايمز اللندنية في الرباط. يقول: إن يهود المغرب أفضل حالاً من السكان الأصليين.

- المغرب العربي بين فرنسا وأمريكا:

تدور في المغرب العربي حرب خفيّة وباردة إلى حدّ ما بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت تنعكس على العلاقات الفرنسية ـ المغاربية بشكل عام مؤشرة إلى أن اللاعب الأمريكي استطاع بجدارة التسلل إلى الملعب المغاربي، والذي ما فتئت فرنسا تؤكد أنه من صلاحياتها دون غيرها، وفرنسا الرسمية التي تشن تصريحات يفهم منها عدم رضاها على وضعية حقوق الإنسان في تونس وموريتانيا والجزائر والمغرب وليبيا، ترفض الجهر بامتعاضها من التسهيلات التي بدأت تعطيها بعض هذه الدول المغاربية لأمريكا وموضوع حقوق الإنسان في المغرب العربي الذي تثيره فرنسا هو مجرّد لهو حديث؛ ومخاوف فرنسا من فقدها للمغرب العربي متشعبة: منها السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وحتى الجيوسياسية.

إلى وقت قريب كانت فرنسا هي المحتكر الوحيد للأسواق المغاربية تمدها بكل صغيرة وكبيرة، وحتى تبقى على هذا الاحتكار كانت تقدم مساعدات لبعض الدول المغاربية لإبقائها دوماً في الدائرة الفرنسية؛ فعلى سبيل المثال قدمت فرنسا منذ ١٩٩٤م مساعدات كمنح لموريتانيا قدرت بمبلغ ٩٠٠ مليون فرنك، لكنّ هذه المساعدات تقلصت بعد بداية التقارب الموريتاني ـ الأمريكي وفتح واشنطن أبوابها لنواكشوط عقب استئناف علاقاتها مع الدولة العبرية. صحيح أن واشنطن تبحث عن المواقع التي فيها موارد أولية، لكن موريتانيا تتمتع بموقع استراتيجي مهم للغاية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

وفي تقرير سابق كان قد كتبه أحد المستشارين للرئيس الفرنسي الراحل (فرانسوا ميتران) جاء فيه أن كل فرنك تدفعه فرنسا لأفريقيا ـ والمقصود هنا شمال أفريقيا أيضاً أي المغرب العربي ـ تسترجع مقابله فرنسا عشر فرنكات؛ وذلك في إشارة إلى حجم الأرباح التي تجنيها فرنسا من إفريقيا. وحتى الموارد الطبيعية كالنفط والغاز؛ فإن الشركات الفرنسية هي التي كانت مسيطرة عليها تنقيباً وتسويقاً واحتكاراً. أما الآن فالشركات الأمريكية باتت الأكثر حضوراً في مواقع النفط والغاز وعلى الأخص في الجزائر.

وعلى الصعيد الثقافي فإن اللغة الإنجليزية باتت تنافس اللغة الفرنسية التي كانت سيدة الموقف وبلا منازع؛ ولأجل هذا تحركت الدوائر الفرنسية ومنها منظمة الفرانكفونية العالمية لإعادة الاعتبار للغة الفرنسية ووقف الزحف اللغوي الإنجليزي للمغرب العربي.

وفرنسا التي حظرت اللغة العربية في المدارس الفرنسية تطالب دول المغرب العربي بضرورة إعطاء تسهيلات للغة الفرنسية في المغرب العربي، وجاءها الرد هذه المرة من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي قال إن على فرنسا أن تتصالح مع اللغة العربية في مدارسها وبعد ذلك تطالبنا بتسهيلات للغة الفرنسية.

وعلى الصعيد الجيوسياسي فإن فرنسا تعتبر المغرب العربي هو بوابتها على أفريقيا التي فقدت فيها فرنسا كل أو بالأحرى جل مواقعها، وإخراجها من هذا الحزام هو بمثابة إنهاء وجودها التاريخي العريق في أفريقيا.

وتخشى الدوائر الفرنسية أن يؤدي تدفق الشركات الأمريكية على المغرب العربي إلى نكسة للاقتصاد الفرنسي الذي يعوّل كثيراً على الأسواق المغاربية. ومعروف أن هذه الأسواق تستورد كل صغيرة وكبيرة من المواد الغذائية والزراعية والأدوات الكهربائية والسيارات وغيرها من فرنسا. وقد بات مألوفاً بين المغاربيين النكتة التي تقول إن البواخر الفرنسية المحملة بالحنطة لو تأخرت يوماً واحداً في الوصول إلى الموانئ المغاربية فإن الشعوب المغاربية لن تجد ما تخبزه، ومن ثمَّ ما تأكله، وهذا التداخل بين فرنسا واقتصاديات الدول المغاربية. أفرز طبقة رسمية متنفذة تقتات من السمسرة والعمولات المقدمة من الشركات الفرنسية إلى درجة أن بعض المسؤولين في بعض الدول المغاربية يرفضون شراء بضائع معروضة عليهم من دول غير فرنسا بأثمان زهيدة، لكن العروض تهمل نظراً لأنّ المعنيين بالاستيراد لا يرجون عمولة مزجاة من الدول العارضة، وهؤلاء تربطهم بالدوائر الفرنسية أوشج العلاقات، ولديهم في باريس حسابات يسهل الضخ فيها بعيداً عن أعين المواطنين المسحوقين في المغرب العربي.

وفي الوقت الذي تسعى فيه باريس لتجذير مصالحها الاقتصادية والثقافية في المغرب العربي؛ فانّ لواشنطن بعداً آخر غير هذين البعدين ـ وإن كانت عينها جاحظة على الموارد الطبيعية الغنية في الشمال الأفريقي ـ وهو البعد الاستراتييجي؛ حيث تشير بعض الدراسات الأمريكية ومجلة فرين أفرز الأمريكية المتخصصة في القضايا الدولية أن منطقة المغرب العربي حساسة لدوائر القرار الأمريكية التي وضعت دراسة برمتها في كيفية زحزحة فرنسا عنها، ويرى بعض المراقبين في المغرب العربي أن الفترة المغاربية المقبلة ستكون أمريكية، وخصوصاً أن الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي علاقته بالأمريكان أقوى منه بالفرنسيين؛ فهو أكمل تكوينه العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية، ولدى عودته من هناك بدأ نجمه السياسي يسطع، وبدأ نجم بورقيبة الفرانكفوني ـ الفرنسي ـ يخفت، والملك محمد السادس علاقته بالأمريكان أمتن ـ كما كانت علاقة أبيه ـ إلى درجة أن الكونغرس الأمريكي اعتبر المغرب بلداً نموذجياً في الوقت الذي تتهم فيه وسائل الإعلام الفرنسية الرباط بأنها تنحر حقوق الإنسان جهاراً نهاراً، وعبد العزيز بوتفليقة يحظى بدعم أمريكي مباشر إلى درجة أن المناورات العسكرية البحرية بين القوات الأمريكية والجزائرية على السواحل الجزائرية قد تكثّفت بشكل ملحوظ في المدة الأخيرة، والتطبيع بين واشنطن ونواكشوط يضطرد بسرعة، وهو الأمر الذي أغاظ باريس وجعلها تعتقل بعض المسؤولين الموريتانيين على أراضيها بدعوى انتهاك حقوق الإنسان في موريتانيا، أما ليبيا فهي وجدانياً أقرب إلى واشنطن منها إلى باريس. وقد بدأت دوائر أمريكية تكشف عن محطات تعاون بين الأجهزة الأمنية في تل أبيب وطرابلس الغرب وتقديم هذه الأخيرة لمعلومات تتعلق بتنظيمات فلسطينية كانت تحظى بالدعم الليبي في يوم من الأيام. والزحف الأمريكي باتجاه المغرب العربي يتم بسرية مغلقة وتامة إلى درجة أن باريس كلما تستيقظ صباحاً تجد أن ضفتها الجنوبية ـ المغرب العربي ـ تنزاح بهدوء باتجاه الهوى والهواء الأمريكيين، وهذا ما يجعل فرنسا متحمسة لفكرة الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والدول المغاربية. لكن ما لم تحققه باريس في مواقع أخرى من العالم لا يمكن أن تحققه في المغرب العربي.


(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.