الافتتاحية
[سر الغطرسة الأمريكية وواجبنا حيالها]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فلا شك أن أحداث ١١ أيلول (سبتمبر) وتداعياتها انعكست بالضرر ليس
على المسلمين في أمريكا وإنما على المسلمين في شتى ديار الإسلام، وهذا الموقف
الذي رأيناه في الحرب الهمجية التي جيشت له دول العالم ضد أفغانستان، وأطاحت
بدولة طالبان بدعوى أنها تحمي المشتبه الرئيس في هذه الأحداث، وما يتبعه من
تصرفات أمريكية هوجاء يحتاج إلى تأمل ومعرفة لأبعاده الواقعية والمنتظرة.
وبغض النظر عن الشكوك في هوية الفاعلين وعن الموقف من الحدث؛ فإن
الملاحظ أن ردة الفعل الأمريكية كانت أعظم من الفعل بمراحل لأهداف غير متعلقة
بالفعل نفسه؛ فالناظر المحايد كان يتوقع من أمريكا أن تعالج الموضوع بعقلانية ولا
تستخدم القوة بهذه الصورة التي أحدثت الدمار الشامل في البنى التحتية
والمستشفيات والمساجد والمدارس في أفغانستان، ولكن أمريكا عالجت مقتل بعض
(الأبرياء) حسب حضارتها وفلسفتها، فقتلت من الأبرياء ألوفاً ومن الجرحى
والمقعدين أمثالهم، وأسرت المئات وعاملتهم معاملة غير إنسانية بالرغم من أنهم
أسرى حرب، ثم عاملتهم بتصرفات لا تمت للسلوك الإنساني والحضاري بصلة؛
حيث وضعت الأصفاد في أرجلهم، وأُخِذوا مكتوفي الأيدي مكممي الأفواه مع ربط
عصابات على أعينهم، مع إذلالهم بحلق شعورهم بما في ذلك لحاهم، وتخدير
بعضهم وسوقهم في رحلات من قندهار إلى القاعدة الأمريكية في خليج (جوانتانامو)
بكوبا، وإدخالهم في أمكنة أشبه ما تكون بأقفاص الحيوانات، وحينما ضج العالم
ومنظمات حقوق الإنسان حتى الغربي منها بالاحتجاج على تلك المعاملة السيئة لهم،
وضرورة تطبيق الأنظمة الدولية عليهم صرح وزير الدفاع الأمريكي بكل
غطرسة (بأنهم) ليسوا أسرى حرب وإنما هم مقاتلون خارجون على القانون.
ويأبى الله إلا أن يفضح (الديمقراطية الأمريكية) ؛ حيث كان من بين
الأسرى أوروبيون أفراد من بريطانيا، بل أحدهم (أمريكي) ؛ فماذا كانت المعاملة
للغربيين؟ هل كانت هي المعاملة آنفة الذكر أم أنها معاملة أخرى؟ يؤسفنا القول
إن المعاملة كانت مختلفة تماماً؛ فالأمريكي أحيل للقضاء المدني، والبريطانيون لهم
معاملة خاصة ومختلفة تماماً؛ فلماذا كان لغير المنتمين إلى جنسيات العالم الإسلامي
معاملة (حضارية) ؛ بينما كان لمواطني العالم الإسلامي معاملة دون ذلك بكثير؟
لا شك أن لذلك أسباباً وهي:
* العداء للعالم الإسلامي؛ فهم أول من اتهم بأنهم وراء الأحداث المذكورة،
رغم أنه لم تتبين حينها أي أدلة، وبقوا لعدة أشهر حتى زوَّروا فيلماً مصطنعاً يشير
بالتهمة لأفراد من المسلمين كان محل السخرية من كثير من المتابعين له.
* استهتار الغرب واستهانتهم بالمسلمين؛ لأن جل حكوماتهم لم تحرص على
كرامتهم ولم تعطهم الحريات المسؤولة؛ فكيف يحترمهم الآخر؟
* العمل على إيقاف المد الإسلامي في العالم بعامة وفي الغرب بخاصة.
* يقينهم أن شعوب العالم الإسلامي وحكوماته لن تواجههم على جرأتهم، ولن
تحتج لتلك التصرفات الهمجية حيالهم.
هذه أسباب يعرفها الجميع، لكن ما يلزم تسليط الضوء عليه وفضحه أمام
العالم هو أن موجِّه العقلية الأمريكية يكمن في تشبُّعها بالفلسفة البراجماتية وتسمى
أحياناً (الذرائعية) أو (النفعية) ، حيث يورد مؤصلو هذه الفلسفة من الأمريكان
أن قيمة الشيء أو الفعل لا تكمن في ذاته، بل في مدى منفعته المحسوسة للفرد وما
يمثله من عائد على تحقيق غايته بغض النظر عن تعارض ذلك مع القيم الأخلاقية
ومع غايات الآخرين. ويقول (وليم جمس) في كتابه (إرادة الاعتقاد) : «إن
الحقيقة تقوم في مطابقتها للواقع الملموس؛ وهذه المطابقة تقاس بمدى نفعها» .
ويهمنا في هذا المقام مطابقة هذا الموقف الفلسفي بأمرين:
* نمط الثقافة الأمريكية، وهي ثقافة لا أساس حضارياً لها من حيث النشأة؛
وبذلك تعتبر ثقافة اللحظة والحاضر أكثر من اهتمامها بالماضي وقيمه وتأثيره؛ ولذا
فكثيراً ما تثير قضايا صراع الحضارات ودعوى (نهاية التاريخ) بها.
* نمط السياسة الأمريكية القائم على النفعية في التوجه العام والسلوك واتخاذ
القرار.
وإذا جمعنا الأمرين معاً فعلى ضوئهما نفهم مغزى التأييد المستمر للسياسة
الأمريكية لدولة عدوة لنا هي (إسرائيل) ؛ حيث النشأة واحدة؛ فكلهم من
المهاجرين الذين حطوا الرحال في أرض مغتصبة على حساب شعب آخر.
كما أن نفعية (إسرائيل) لأمريكا على المدى الزمني المنظور (ماضياً وحاضراً
ومستقبلاً قريباً) عن طريق اللوبي الصهيوني هو بالنسبة لها أفضل من نفعية
العرب (المضمونين) لها في المدى نفسه؛ ولذلك وجدنا أمريكا تقف مع عدونا
الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره، وتسكت عن الحرب الهمجية
ضدهم بما فيها الإبادة والظلم والاستهتار بحقوق الإنسان؛ ومع ذلك تناصر العدو،
بل تتبنى موقف حكومة العدو المتطرفة بينما الشعب اليهودي فيه اتجاهات أخرى
ترفض النهج الليكودي انطلاقاً من النظر إلى مصلحة اليهود في المدى
البعيد، وهكذا أصبحت أمريكا صهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم.
ولا يغيب عن البال عند النظر في السياسة الأمريكية أثر الفلسفة الغربية
المعروفة بـ (الميكيافيلية) والتي تعني أن الغاية تسوِّغ الوسيلة؛ فالموقف
الأمريكي من معاقبة من تتهمهم بأحداث ١١ سبتمبر مثلاً هو محاولة استئصالهم
والقضاء عليهم؛ فلا يهم بأي وسيلة يتم ذلك سواء بالقصف الجوي بشتى وسائل
الدمار أو بضرب المدنيين أو باستعمال الأسلحة المحرمة دولياً ما دام ذلك يحقق
شيئاً من الأهداف المرسومة سلفاً حتى ولو خالفت الأنظمة الدولية المرعية، بل
حتى لو ضربت بحقوق الإنسان عرض الحائط فحسبها أن تحقق أهدافها وكفى.
لكن الشيء الذي يحز في النفس أن كثيراً من حكومات دول العالم العربي والعالم
الإسلامي والتي أيدت ما يسمى بحرب الإرهاب خوفاً أو قهراً لم تطالب بتحديد
المعنى الحقيقي للإرهاب حتى لا يدخل فيه حق جهاد المحتل والغاصب وحق تقرير
المصير والدفاع عن الحرمات والأعراض، فهرولت هذه الحكومات وراء أمريكا
غير مدركة حقيقة العقلية البراجماتية الذرائعية الأمريكية التي حدودها في النفع
والنفع وحده؛ حتى لو كان على حساب القيم المرعية؛ بل تمادت في التهديد
بضرب دول إسلامية أخرى بدعوى أنها مأوى لمن تسميهم الإرهابيين بدعاوى
وأوهام لم توافقها عليها حتى كثير من الدول الغربية.
بل زادت على ذلك بأن دعت وبكل وقاحة إلى تجريم وجود بعض الجمعيات
الخيرية وأنشطتها ومصادرة حساباتها، ونفذت ذلك بالفعل، ودعت إلى تغيير
المناهج الإسلامية في الدول الإسلامية، ولا يُستبعد أن تطالب بإلغاء فريضة
الزكاة؛ لأن فيها دعماً للإرهاب المزعوم؛ وصدق الله العظيم: [وَلاَ يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: ٢١٧) .
إننا نطالب بتحديد المعنى الحقيقي للإرهاب الذي تتهرب منه أمريكا حتى لا
يتم تجريمها هي وربيبتها (إسرائيل) .
وبدون موقف موحد يراعي احترام ثوابتنا وتقدير مشاعرنا وإيقاف التحيز
الكبير لأعدائنا فلن تتوقف تلك المهازل التي سخر منها كثير من الغربيين حينما
قالوا بأن حرب الإرهاب الأمريكية تحولت إلى إرهاب حقيقي. وإلا أصبحنا لعبة
في يد أمريكا.
لقد افترضنا أن بعض حكومات العالم العربي والإسلامي قد (تضطر) إلى
توقيع معاهدات واتفاقيات مجحفة مع أمريكا، وأنها لن تجرؤ على الوقوف في
وجهها؛ لكننا نقول: لماذا لا تترك الشعوب تؤدي واجبها بالمقاطعة الاقتصادية؟ !
ثم حتى متى تجعل الدول الإسلامية الدولار الأمريكي غطاء عملتها؟ ! وحتى متى
نضع أموالنا في البنوك الأمريكية؟ ! وحتى متى تُستثمر أموالنا لحساب الاقتصاد
الأمريكي ما دام أنها تعلن العداء لأمتنا بكل وضوح مستغلة قوتها وهيمنتها؟ !
إن مثل هذه المواقف هي التي يمكن أن تلفت نظر أمريكا إلى وجود أخطار
عليها إذا ما ثأر المسلمون لحقوقهم المهدرة؛ وحينها تفهم أمريكا حقيقة الضرر
الماحق من جراء معاداة المسلمين؛ وهذا ما فطن له رجل له خبرة كبرى في
السياسة الخارجية هو (هنري كيسنجر) وحذر منه في كتابه: «مفهوم السياسة
الخارجية الأمريكية» حينما قال: «إن غطرسة القوة التي تفرض نفسها على
عمل مجمل السياسة الخارجية الأمريكية قد جعلت من أمريكا الشرطي الذي يحاول
خنق أصوات الاحتجاج التي تصدر حتى عن حلفائه وأصدقائه، وهي سياسة ضالة
لا بد أن تؤدي مع الأيام إلى صحوة هؤلاء الحلفاء والأصدقاء، ثم إلى نقمتهم
واعتراضهم بكل الوسائل وبجميع الأشكال؛ فتغدو قوة أمريكا سبب دمارها» .
وعبَّر وليم فولبرايت رئيس لجنة العلاقات الخارجية الأسبق بمجلس الشيوخ
الأمريكي وهو مؤلف كتاب «غطرسة القوة» معبراً عن هذا المعنى: «مما لا
يخطئه التقدير أن أمريكا قد أخذت تدريجياً في إظهار دلائل الغطرسة التي أذلت
وأضعفت أمماً عظيمة في الماضي؛ بل سحقت بعضاً منها، وعندما نمارس ذلك
نكون قد فقدنا قدرتنا وعهدنا في أن نضرب أمام العالم مثال الدولة المتحضرة،
وتصورنا هذا هو الذي يحفز (الرجل الوطني) إلى إبداء الاعتراض علينا؛ لأن
هذا ما يفرضه عليه الواجب» .
إن تعامل أمريكا معنا بعقليتها البراجماتية الذرائعية وسياستها المكيافيلية يجعلنا
ونحن الأمة الإسلامية التي لها عقيدتها ولها كرامتها المستمدة من دينها الذي تعتز به
نطالب بكل قوة أن تنظر أمريكا في عدالة مواقفها منا بالمعيار نفسه الذي تزن به
مواقفها مع حلفائها الأقربين ومع ربيبتها (إسرائيل) ، وإلا كنا أذلة وتابعين، وهذا
ما لا يقبله أي مسلم شريف. ويجب على أمريكا الموضوعية في مواقفها بعيداً عن
الانحياز الأعمى والكيل بمكيالين وعليها أن تدرك الأسباب الحقيقية للأحداث
الأخيرة، فهل تعي ذلك وتتفهم ما قاله بعض مفكريها ممن سبق الإشارة إليهم؟
قال تعالى: [أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ
فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَن
يَمْشِي مُكِباًّ عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياًّ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (الملك:
٢٠-٢٢) .