للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

متابعات

[نقد مقال قراءة في الذهنية السلفية]

د. عبد الله بن صالح العلي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد:

فقد نشرت مجلة البيان في عددها (١٥٦) قضية للمناقشة بعنوان: «قراءة

في الذهنية السلفية» للكاتب الأستاذ نواف الجديمي، وقد أحسن الكاتب في اهتمامه

بالنقد الذاتي لمناشط السلفيين، فهذا النقد ومحاسبة النفس أمر متقرر شرعاً،

والحوار العلمي الجاد وسيلة من وسائل البناء والتصحيح، كما أحسنت مجلة البيان

في قبولها لهذا النقد الذي يتوجه إليها ابتداءاً.

وثمة تعقيبات على بعض ما نشره الأخ الكاتب نواف - وفقه الله للصالحات-

أسوقها على النحو الآتي:

أولاً: ذكر الكاتب أن هذه المآخذ والإشكاليات تسود غالب الاتجاهات السلفية

المعاصرة، وهذا تعميم خاطئ؛ فالكاتب لم يحدد هذه المعاصرة لا زمناً ولا مكاناً

ولا حالاً، ولا سيما أن الكاتب أشار إلى قصور استقرائه ومحدودية تجربته.

ثانياً: ذكر الكاتب الفاضل ثلاث ملحوظات رئيسة في قراءته للذهنية السلفية،

وأحسب أن هذه الملحوظات توجد بنسب متفاوتة في التيارات الإسلامية الأخرى،

وتخصيص السلفيين بها لا يخلو من نقد ومراجعة، وخاصة أنه قد يشعر القارئ بأن

الكاتب يرى بأن هذا ممَّا تفرّد به السلفيون دون غيرهم..!

ثالثاً: قرر الكاتب أن التيار السلفي دائماً ما يركز على دائرة المعلومات

ويهمل دائرة الأفكار، وأن السلفيين يهتمون بالحفظ ويهملون الفكر، وأن من حفظ

الكتب الستة فله شأن عندهم دون من تضلع في أصول الفقه.

وأحسب أنه لا يخفى على الكاتب الفاضل أهمية حفظ نصوص الوحيين، وأن

ذلك مطلوب شرعاً؛ فقد تواتر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:

«نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها؛ فرب حامل فقه إلى من هو

أفقه منه» [١] وهذا لفظ الترمذي من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، لا

سيما أن العرب قد خُصوا بالحفظ، وهذه الأمة موصوفة بأن إنجيلها في صدورها.

وكما قال الخليل بن أحمد - رحمه الله -:

ليس بعلم ما حوى القِمَطْرُ ... ما العلم إلا ما حواه الصدر

ولماذا يفترض الكاتب أن حفظ السلفيين للمعلومات كحفظ الحاسب؟ وهذا

قياس مع الفارق لمن له أدنى فكر وتأمل!

وها هو ابن عباس - رضي الله - عنهما وقد طُبع على الحفظ كان يكره

كتابة العلم، ومع ذلك فقد كان له من الإشراقات والفتوحات في التفسير ما لا

يحصى، كما كان صاحب مناظرات قوية مع الخوارج ونحوهم من أهل الأهواء،

فما كان هذا الحفظ إلا سبيلاً لنشر العلم و «المعلومات» الأصيلة، وإفحام

المخالفين، وحل المعضلات.

فلا إشكال في حفظ النصوص الشرعية، لكن الإشكالية أن يقتصر على الحفظ

مجرداً عن الفهم والفقه، ولو أن الكاتب عني بهذه الإشكالية، وطالب بإيجاد برامج

عملية لاستنهاض الفهم وتنمية ملكات التفكير والتجديد والإبداع لكان أليق وأنسب.

ولما هوّن الكاتب من شأن المعلومات هوّل من شأن الأفكار، وأقول للكاتب:

لماذا هذه التفرقة والانفصام بين المعلومات والأفكار؟ وهل يمكن أن تتأتى

الأفكار إلا بمعلومات، ولا سيما أن كل إنسان حارث ومفكر، كما قال صلى

الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء حارث وهمام» ؟ [٢] . ثم ألا ترى معي

أن الأفكار المجردة عن المعلومات الراسخة تؤدي إلى الخلط والاضطراب؟!

فالمعلومات والأفكار متلازمة لا ينبغي الفصل بينها. فالمعلومات أساس

الأفكار، والأفكار ثمرة المعلومات.

ولعل مقصود الكاتب أن بعض السلفيين أهملوا كتب الفكر واشتغلوا بالكتب

الشرعية، وأحسب أن العناية بكتب الفكر كانت في مرحلة سابقة، عندما كانت

الاشتراكية والقومية ونحوها من المذاهب المادية التي تشكك في الإسلام وتطعن في

الغيبيات رائجة في حقبة زمنية ماضية حيث ظهر - ولله الحمد - من كتابات

المفكرين الإسلاميين من يذبّ عن دين الإسلام ويفنّد شبهات الخصوم، كما هو

ظاهر في كتب سيد قطب والمودودي - رحمهما الله تعالى - ومحمد قطب

ونحوهم.

فكانت كتب الفكر الإسلامي الأصيل ضرورية تجاه تلك الأفكار المنحرفة،

وكما فعل من قبل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما واجه تلك الأفكار

الفلسفية والكلامية والصوفية باللغة والأسلوب الذي يفهمه أولئك، فأظهر الحجة

عليهم وكشف ضلالاتهم، ومن المناسب أن نورد ما يقرر ذلك من كلامه - رحمه

الله -: «ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات، كالسلاح في

المحاربات، فإذا كان عدو المسلمين في تحصنهم وتسلحهم على صفة غير الصفة

التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي

مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا

والآخرة ... إلخ» [٣] .

وأحسب أن هذه الصحوة المباركة قد ارتقت - نضجاً وعلماً - بدءاً من الكتب

الفكرية الأصيلة في تقرير الثقة بالإسلام والرد على أعداء الإسلام إلى الاشتغال

بالعلوم الشرعية في تقرير منهج السلف الصالح والرد على المبتدعة إلى غير ذلك؛

فما كان للسلفيين أن يحقروا الكتب الفكرية الإسلامية الأصيلة وهم يقررون قبول

الحق من كل شخص ولو كان كافراً، وها هو العلاَّمة ابن باز - رحمه الله - يقرأ

كتاب (النظرية السياسية) للمودودي رحمه الله مقرراً له [٤] ، وها هو العلاَّمة

الألباني - رحمه الله - يورد كلاماً طويلاً لسيد قطب - رحمه الله - في مقدمة كتابه

(مختصر العلو) للذهبي.

رابعاً: ادعى الكاتب أن السلفيين لا يعرفون جملة من المذاهب الفكرية

كالقومية العربية والماركسية والبعث العربي.. وأما آخر النظريات الفكرية فإن

غالب النخب السلفية لم يسمعوا بأسمائها فضلاً عن دراستها، هكذا قال الكاتب -

هداه الله -.

ويبدو أن الكاتب كان يتحدث عن هذا المأخذ وقد انقدح في ذهنه نمط محدد

من السلفيين، وليس من العدل أن يُحكم على جميع السلفيين أو غالبهم من خلال

الحكم على طائفة منسوبة إليهم، وإلا فكيف غاب عن الكاتب جهود الأستاذ محمد

رشيد رضا الإصلاحية ضد الأفكار المنحرفة؟ وأين جهود العلاَّمة عبد الرحمن

السعدي تجاه الملاحدة كما في رسالتيه: «انتصار الحق في الرد على الملاحدة»

و «الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين» ؟ بل كتبَ الشيخ

السعدي لمحمد رشيد رضا رسالة يؤكد عليه أن تُعنى مجلة المنار بالردّ على

الملحدين.

وأين إنجازات سيد ومحمد قطب في مواجهة التغريب والمذاهب المادية ومشكلات

الحضارة؟ وأين مؤلفات الدكتور محمد محمد حسين - رحمه الله - في الرد على

المذاهب الأدبية والفكرية كما في مؤلفاته أمثال: (الاتجاهات الوطنية في الأدب

المعاصر) ، و (حصوننا مهددة من الداخل) ، و (الإسلام والحضارة الغربية) ؟

وأين مواقف العلماء تجاه الغزو التشريعي والتشكيك في تحكيم الشريعة مثل ما كتبه

الشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والعلاَّمة محمد بن إبراهيم آل

الشيخ، والشيخ عبد الرحمن الدوسري - رحمهم الله -؟ [٥] .

وتأمل ما سطره العلاَّمة السعدي (ت ١٣٧٦هـ) في الرد على تلك الدعوى:

«قد عُلِمَ من قواعد الدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الوسائل

لها أحكام المقاصد ولا يخفى أنه لا يتم التحرز من أضرار الأمم الأجنبية والتوقي

لشرورها إلا بالوقوف على مقاصدهم ودرس أحوالهم وسياساتهم، وخصوصاً

السياسة الموجهة منهم للمسلمين؛ فإن السياسة الدولية قد أسست على المكر والخداع

وعدم الوفاء واستعباد الأمم الضعيفة بكل وسائل الاستعباد؛ فجهل المسلمين بها

نقص كبير وضرر خطير، ومعرفتها والوقوف على مقاصدها وغاياتها التي ترمي

إليها نفع عظيم، وفيه دفع للشر أو تخفيفه، وبه يعرف المسلمون كيف يقابلون كل

خطر» [٦] .

ولا يزال باحثو أهل السنة وعلماؤها - في هذه السنوات الأخيرة - يسطرون

الكتب والرسائل العلمية تجاه جملة من الأفكار الوافدة [٧] .

لا شك أننا - معشرَ السلفيين - نعترف بتقصير وإهمال تجاه جملة من

النوازل الفكرية المستجدة، ولا يخفى أن ثمة فرقاً بين الاعتراف بهذا التقصير وبين

أن يظن أن السلفيين إنما تركوها تديناً بهذا الترك والإهمال. وأحسب أن هذا

التقصير ليس خاصاً بالسلفيين وحدهم، بل هو مشكلة قائمة عند معظم التيارات

الإسلامية!

وأما انتقاد الكاتب السلفيين لعدم دراستهم الديمقراطية، والدراسات البنكية،

وعلم النفس..!

فأقول: وهل يتعين على السلفيين أن يدرسوا كل القضايا النازلة ولا سيما أنها

قد درسها غيرهم وبطريقة صحيحة [٨] ، والحق ضالة المؤمن؟ أم يريد الباحث أن

تؤلف مؤلفات عن موقف أهل السنة من الديمقراطية؟ وما الفرق بين هذا العنوان

وبين: موقف الإسلام من الديمقراطية؟ ولا سيما أن ثمة كتابات ومؤلفات في هذا

الصدد، وأما الدراسات البنكية والبدائل الشرعية فهي موجودة، ولكن هل ترك لنا

عقيل من دار؟

وعلى كلٍّ فيبدو أن الكاتب يحتاج إلى مراجعة لنتاج أهل السنة قبل أن يصدر

هذه الأحكام. كما أن جملة من الإشكالات الواردة جاءت كرد فعل من الكاتب تجاه

بعض الممارسات الخاطئة لفصائل من أهل السنة، كما أن بعض إشكالاته قد

عالجها بما يقابل تلك الإشكالات؛ والانحراف انحراف على كل حال، والخطأ لا

يعالج بالخطأ مثل كلامه عن عداء الكفار للمسلمين ورغبته في تحريره واقعاً دون

مجازفة، مع أن من بدهيات هذا الدين أن عداء الكفار للمسلمين أصل ثابت ومحكم،

وما قد يقع خلاف الأصل فهو لمصالح وملابسات لا تشكك في هذا الأصل.

وأما عقدة المؤامرة عند السلفيين فقد توجد مبالغة عند بعضهم، لكن هذه

«العقدة» ، لم تكن ردة فعل تجاه السذاجة وحسن الظن بالأعداء عند الكثير

من المسلمين، بل كانت حصيلة أحداث ووقائع، ومع ذلك كله فلا حاجة إلى

تهويل المؤامرة أو تهوينها.

ختاماً: ينبغي التأكيد على أن الحوار الجاد والنقد العلمي البناء مطلب مهم من

المطالب الشرعية التي يجب التأكيد عليها، والتعاون في إشاعتها، ولهذا أشكر للأخ

نواف حرصه على النقد والتصحيح، وأرجو أن يتسع صدره لنقد النقد؛ وهذا هو

حسن الظن به إن شاء الله تعالى.

نسأل الله تعالى أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم.


(١) أخرجه أحمد، (٣/٢٢٥) ، والترمذي في كتاب العلم، ح/٧.
(٢) أخرجه أحمد، ح/ ١٨٢٥٨.
(٣) مجموع الفتاوى، ٤/١٠٧.
(٤) ذكر الشيخ مسعود الندوي (ت ١٣٧٣هـ) لقاءه بالشيخ ابن باز سنة ١٣٦٨هـ وأن الشيخ ابن باز أفاده بأنه قرأ كتاب (النظرية السياسية) للمودودي، وأبدى الشيخ ابن باز اعتراضه على قول المودودي في الآية الكريمة: [وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ] (الحديد: ٢٥) بأن معنى الحديد هنا القوة السياسية ثم قال الشيخ: يمكن أن يكون الأصل قوة أساسية ثم جاءت الترجمة «قوة
سياسية» ، فقال الشيخ مسعود: في الأصل قوة سياسية والمترجم التزم الأصل فقال ابن باز: حسناً، هذا أمر يسير، لا أثر له على كتابه الأصلي انظر كتاب (شهور في ديار العرب) لمسعود الندوي، ص٥٠.
(٥) قد يظن بعض القراء أن ثمة تساهلاً في إطلاق السلفية على بعض المذكورين ك «محمد رشيد رضا، وسيد قطب» - رحمة الله عليهم -، ولا يخفى أن الأستاذ محمد رشيد رضا لا يخلو من نزعة صوفية سابقة، كما أن عنده لوثة عقلانية، كما أن سيد - رحمه الله - لا ينفك عن بعض الهنات اليسيرة التي صوبها بعض العلماء ونبهوا علىها ولم يغمطوا للرجل حقه، وفي الجملة فإن المآخذ على هذين العلمين لا تخرجهما عن دائرة أهل السنة، فلم تكن مخالفتهما فيما أحسب لقاعدة أو أصل كلي من قواعد الدين وأصوله، كما حرر هذه المسألة الإمام الشاطبي في الاعتصام.
(٦) رسالة وجوب التعاون بين المسلمين، ص: ١٣.
(٧) انظر مثلاً: العلمانية، للحوالي، ومصادر المعرفة في الإسلام، لعبد الله القرني، والانحراف العقدي في الأدب العربي المعاصر، لسعيد الغامدي وغيرها كثير.
(٨) درس بعض باحثي أهل السنة الديمقراطية كما في كتاب الثوابت والمتغيرات، للصاوي وبنود وسراب الديمقراطية، للرحال، وغير ذلك.